الخميس، 22 ديسمبر 2011

مذكرات مسلم _الجزء السابع ( أنا والدش _الطبق الفضائي)

الحلقة السابعة : أنا والدش ( الطبق الفضائي )

كان لي منذ صغري ولع بعالم الاعلام من تصوير وتلفزيون وكاميرات ولي مع الأطباق الفضائية حكاية مثيرة أحكيها منذ البداية
بعد حرب الكويت حدث تطور كبير في عالم الاتصالات وبدأنا نسمع في مجتمع المدينة المنورة عن الأطباق الفضائية وأنها عالم مفتوح من القنوات المنوعة وليس عليها أي رقابة وتقدم العديد من البرامج المختلفة  .
ومثل هذه الأخبار والشائعات والمبالغات أحدث ردات فعل مختلفة في أوساط المجتمع تمثلت في تيارين أساسيين  التيار الأول وهو الذي تعودناه دائما مع كل جديد المنع والتحذير والتهويل من الأطباق الفضائية وتحريم اقتنائها ومشاهدتها وأنها مفسدة عظيمة وكبيرة وباب واسع للفساد  إلى آخر ما قيل وانتشر وشكل هلعا كبيرا عند التيار المتدين ومنهم أنا  ،  والتيار الثاني وهو عامة المجتمع المتلهفة لكل جديد وغريب والتي لاتبالي إلا بالمتع واللذات  وتسترخص في سبيل ذلك الأوقات والمجهودات والأموال  وأعرف شخصا دفع ( أربعين ألف ريال ) ذلك الوقت للحصول على الطبق الفضائي والريسيفر  الذي لايتعدى سعره الحقيقي الآن مئتين أو ثلاثمائة ريال وأصبح هناك مايشبه السعار عند هذه الفئة وعموم المجتمع للحصول على الأطباق وأخذت تنتشر انتشار النار في الهشيم وبدأ الحديث عن مجموعات من القنوات العربية كال ( أ ر ت ) وقناة ( م ب س ) والتي تطرح إعلاما منفتحا لا يخضع للقوانين التقليدية للاعلام الرسمي  وقد كان تبرم الناس من الاعلام الرسمي وقوانينه وبرامجه الجامدة عاملا مهما في اندفاع الناس نحو القنوات الفضائية .
وبدأت ظاهرة مد الأسلاك  بمعنى أن من لديه طبق فضائي يمكنه مد توصيلة لجيرانه ليتمكنوا من مشاهدة القنوات معه  وبدأت أسطح المنازل تمتليء بالأطباق والأسلاك الممتدة في كل الاتجاهات .
وأذكر أنني لفترة وجيزة قاطعت بعض أقاربي لأنهم أدخلوا الدش ( الطبق الفضائي ) إلى منازلهم  ولكنني لم أستطع مقاطعة بيت العائلة الرئيسي بعد أن ركبوا فيه الطبق الفضائي  فكنت إذا حضرت أجلس على مضض ...هذا في البداية حتى انكسر الحاجز ... ثم بدأنا بمشاهدة الأخبار وكانت متميزة ... ثم بدأنا بمشاهدة بعض التلفزيونات العربية ...هذا كله في الوقت الذي أزور فيه بيت العائلة فقط ... ثم شيئا فشيئا وجدت أن الأمر ليس فيه ذلك التهويل الشديد وأن الأخطار الموجودة محدودة ومحصورة في بعض القنوات وأذكر وقتها أنها كانت القناة الفرنسية وقناة ( ل ب س ) اللبنانية فقد كانت تأتـي فيهما بعض البرامج واللقطات الفاضحة والمخلة بالحياء والإباحية لذلك كان المحافظون من الناس يحذفونها أو يضعونها في آخر الصف بحيث يصعب الوصول إليها إلا لمن يعرف استخدام جهاز الريسيفر  أما باقي القنوات فكانت برامجها عادية ومفيدة وشكلت انفتاحا وتنوعا اعلاميا لامثيل له
ومع مرور الوقت بدأت تدور في ذهني تساؤلات حول صواب الموقف الذي اتخذته تجاه الطبق الفضائي  فقد أحسست أنني اندفعت إلى تيار التحريم والمنع دون اقتناع وإنما انسياقا مع التيار العام  وزاد من حراجة موقفي أنني صرحت بمواقفي المانعة والمضادة لاقتناء الأطباق الفضائية داخل بيت العائلة  وكما ذكرت سابقا أنني قاطعت بعض أقاربي لفترة وجيزة لنفس السبب .
وأصبحت ُأكثر من زيارة بيت العائلة لمشاهدة القنوات وطالت فترات مكوثي هناك ...وفي نهاية الأمر وجدت أنني تسرعت في مواقفي من الطبق الفضائي وأن المسألة لم تكن بالخطورة والتهويل الذي ذكر مع أن الخطر موجود في هذه القنوات ولكن يمكن الاحتراز منه ووضع التدابير لمنعه ، أما الفوائد فكبيرة جدا وأكثر من أن تعد لمن يبحث عنها ويتحراها ، والفساد أيضا موجود وواسع ووكبير في القنوات لمن يبحث عنه  فهي سلاح ذو حدين وهي رهن بالاستخدام ، ومن يومها قررت ألا ألدغ من الجحر مرة أخرى  ولن أنساق إلى موقف دون نظر وبحث واقتناع وقد كلفني ذلك متاعب ومصاعب ولكنني كنت مرتاحا وصادقا مع نفسي والحمد لله أولا وآخرا.
وبعد اقتناعي بخطأ موقفي قررت أن أخذ توصيلة من جاري ووجدت صعوبة شديدة في أن أخاطب جاري بالطلب وأنا الذي كنت أقرعه بالكلام وأنكر عليه تركيب الدش ولكن بشكل غير مباشر وهذا ماشجعني على مخاطبته فرحب بالأمر ولم يعتب علي  ودخلت إلى عالم الأطباق الفضائية استكشفه وأعرف مكنوناته
ثم كانت العقبة التالية كيف أقنع زوجتي بالأمر وقد كنا نتشارك نفس الموقف بل كان موقفها تجاه الدش أشد مني ، ولم أجد طريقة لإقناعها فأدخلت الجهاز إلى غرفتي وخبأته بطريقة فنية خلف جهاز التلفاز والفيديو ولم يلحظ أحد أي اختلاف .
ووجدت في القنوات عالما رحبا وفسيحا من الفوائد لمن يبحث عن الفوائد كما وجدت فيه من الترفيه والتسلية عالما كبيرا .
ثم بعد فترة بدأت أصرح بخطأ موقفي السابق ولكن لم أنصح أحدا باقتناء الدش وإنما تبيان أنه يمكن الاستفادة منه مع اتخاذ السبل لعدم الوقوع في أخطاره ، ثم بعد فترة اقتنعت زوجتي بالأمر خاصة مع بروز قنوات فضائية متميزة مثل اقرأ والمجد والرسالة وغيرها  وركبت طبقا فضائيا آخر للعائلة  وشعرت بتغير كبير في الانفتاح الفكري عند عائلتي .
ومن الأمور العجيبة أن أبنائي كانوا يشاهدون  بعض القنوات الفضائية الخاصة بالأطفال وكانوا يستمتعون بذلك وتشبع نهم طفولتهم ولم أر فيها من الضرر الكبير عليهم  بينما لا حظت عند اثنين من أقاربي من بيئتين مختلفتين وكانا من المتشددين في مسألة التلفاز  وليس لديهم تلفاز في منازلهم  لاحظت أننا عندما نجتمع في المناسبات  يتلاقى الأطفال ويلعبون ويمرحون ماعدا أبناء هذين الشخصين فإنهم يتحلقون حول القنوات الفضائية الخاصة بالأطفال منذ دخولهم وحتى انصرافهم  ولا يفعلون شيئا آخر مما يدل على أن هناك خللا ما في تربيتهم وأنهم يعانون نقصا ما .
وأظن أن كثيرا من المتدينين واقعون في نفس الحال الذي وقعت فيه ولكنهم لا يملكون الجرأة والشجاعة لمواجهة أنفسهم وواقعهم وأخطائهم .
وقد أحدثت متابعة القنوات الفضائية نقلة فكرية هائلة عندي حيث أغرمت بمتابعة البرامج الهادفة وخاصة السياسية منها والوثائقية والمقابلات المتنوعة مع رموز التيارات المختلفة مع متابعة بعض الفنون من المسرحيات الجيدة والدراما الهادفة مثل مسلسل مرايا السوري وأشباهه ، وأعود فأكرر أن هذا الجهاز سلاح ذو حدين فقد وجدت من الناس من لا يستخدمه إلا للتوافه ومتابعة المسلسلات والأفلام والأغاني ، لذا ينبغي الموازنة جيدا في استخدامه حتى يستفاد منه .

الحلقة السادسة : المدينة والآثار حكاية دامية

المدينة المنورة عاصمة الاسلام الأولى وفيها من المشاهد والآثار ماليس في غيرها  وأهم عنصر في آثار المدينة الأثر النفسي الذي يكتنف الزائر بأن هذه الأماكن قد عاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وشهدت نزول الآيات والأحداث العظيمة التي يقرأ المسلمون تفاصيلها في كتب السيرة  فإذا اقترن بهذه الأجواء النفسية القوية الآثار الفعلية لتلك الأماكن أحدث ذلك أثرا إيجابيا عند من تنفعه الذكرى أو كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد
وقد وجد في فترات الضعف التي عاشها المسلمون أناس بالغوا في هذه الآثار وغلوا فيها وتجاوزوا الحدود الشرعية بشأنها وهذا أمر لايقبله المؤمن الحريص على دينه وعلى حمايته من الشوائب ، ولكن الذي حدث أنه بسبب جهل مضاد في الجهة الأخرى  تسلط على الآثار في مكة والمدينة مغالين يريدون أن يزيلوا كل الآثار لو استطاعوا إزالتها بل بلغ الجهل والتعصب منهم أن أرادوا هدم حجرات الرسول صلى الله عليه وسلم  التي التف حولها مسجده صلى الله عليه وسلم بحجة أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور وأن هذا بدعة ، وما علم هؤلاء الجهلة أن المسجد لم يبن على القبر ولم يكن القبر داخل المسجد بل التف المسجد حول القبر لضرورات التوسعة كما وضح ذلك أهل العلم .
وقد تسلل إلى صفوف هؤلاء الجهلة المتعصبين وأصحاب النفوذ الحاقدين على آثار المدينة بعض النفعيين الباحثين عن المكاسب المالية وكانت بعض هذه الآثار في مناطق ممتازة والأراض التي تقع عليها يمكن أن تكون فنادق أو معارض تجارية مربحة  فكان من مصلحة هؤلاء النفخ في نار الحارقين للآثار ليتمكنوا من الاستيلاء على الأراض وإقامة مشاريعهم النفعية وعلى سبيل المثال مسجد ثنية الوداع في أول طريق سلطانة تمت إزالته لأنه كان يقف في واجهة عمارة ضخمة لوزير الأوقاف في حينها  وبعد إزالته أصبحت عمارة الوزير لها واجهة مباشرة على الشارع  وارتفعت مكانتها وأسعارها ولتذهب الآثار إلى الجحيم ؟؟
كما أن المدينة القديمة أزيلت بكاملها ولم يبق منها شيء ألبتة وهذا من أقبح الأفعال التي ارتكبت في حق الآثار التي كان يمكن أن تعامل بأفضل من ذلك .
وأغلب هؤلاء الجهلة المتعصبين من خارج المدينة ممن نزح إليها من القبائل التي حول المدينة أو من مناطق أخرى غير الحجاز وليس لهم أي ارتباط بالمدينة ( بل يشعر المرء أن بعضهم له حقد خاص وقلب أسود على المدينة وأهلها وآثارها ) والعجب منهم أنه يجعلون حجتهم الأساسية أن بعض المسلمين الجهلة يتخذون هذه الآثار وسيلة للشرك  لذلك لابد من إزالة الآثار حماية للعقيدة ( كلمة حق أريد بها باطل ) .
إن بعض المسلمين يمارس أفعالا شركية حول الكعبة وحول مسجد رسول الله صلى الله عليه  فلماذا لانهدم الكعبة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حماية للعقيدة .
إن هؤلاء الجهلة لن يقلعوا عن جهلهم إلا بتعليمهم وتثقيفهم وإرشادهم  أما هدم الآثار فهو جناية كبيرة يتحمل أوزارها في الدنيا والآخرة من أمر بها وأعانهم عليها صغيرا كان أو كبيرا  وسيحاكم هؤلاء يوما ما على جرائمهم بحق الآثار عند من لاتخفى عليه خافية .
وفي الوقت الذي يزعم فيه هؤلاء أنهم حريصون على حماية العقيدة فيهدمون آثار مكة والمدينة نجدهم يصمون أبصارهم وأسماعهم عن الجهود الكبيرة والأموال الضخمة التي تنفق على الآثار غير الاسلامية في باقي مناطق المملكة  حيث يجري بناء قرى تاريخية بأكملها تحكي التاريخ القريب لبعض المدن والقبائل والشخصيات ولا يجد فيها هؤلاء الجهلة ذريعة شرك أو تقديس في غير محلها  أما آثار مكة والمدينة فيجب أن تزال ؟؟
وحاول المخلصون من أهل المدينة المنورة والشرفاء أن يقفوا في وجه هذه الحملة الحاقدة وقد أفلحوا في بعض الجوانب ولكن الكيد والمكرالأسود أكبر منهم ، وسيسجل التاريخ اسم كل من شارك في هذه الجريمة مهما صغر أو كبر  مركزه أو مكانته وستلعنهم الأجيال بعد ذلك وتكون سبة في تاريخهم  بالاضافة إلى ما ينتظرهم في يوم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
وقد ذهبت بنفسي إلى جبل أحد وصعدت إلى الغار الذي التجأ له الرسول صلى الله عليه وسلم يوم غزوة أحد فوجدته مليئا بروث الأغنام  حيث جعله الساكنون قرب جبل أحد  حظيرة وزريبة لأغنامهم ، والعجب أن البلدية تمنع تربية المواشي في الأحياء السكنية وتقوم بمصادرتها ومعاقبة أصحابها ولكنها لا تحرك ساكنا أمام هذه الجرائم التاريخية .
ولازالت فصول هذه المأساة تتوالى وتتكرر ويستخدم فيها نفوذ الشخصيات الدينية لتمريرها بالقوة فكم من مواضع ثابتة صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أهملت أو أزيلت ظلما وعدوانا ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

مذكرات مسلم _الجزء الخامس ( ألعاب الحارة القديمة )

الحلقة الخامسة : ألعاب  الحارة القديمة

ومما يجدر الاشارة إليه في الحارة القديمة أنها تميزت بمجموعة من الألعاب الابداعية المفيدية افتقدتها الحياة الاجتماعية الحديثة وكانت هذه الألعاب تعلم عن طريق اللعب وتنمي مجموعة من المهارات المفيدة عند النشء مثل ( التآزر الحركي والحساب والعد والسرعة والقفز والتوازن والرمي والتسديد والشجاعة والقوة ومعرفة الأماكن والتخطيط ) في قالب ترفيهي محبب  وهذه الألعاب ليست خاصة بمجتمع المدينة ولكنها كانت السائدة في ذلك الوقت وكان للألعاب مواسم تنتشر فيها ثم تختفي وتسود لعبة أخرى وهكذا وقد وجدت بعد ذلك أن أغلب هذه الألعاب موجودة في مجتمعات كثيرة مع بعض الاختلافات في التفاصيل  وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ومما مارسته وشاهدته
1-             لعبة ( الطيري )
2-             لعبة ( الليري )
3-             لعبة ( الدحل ) البرجون نوعين طائفي وام النادر
4-             لعبة ( اللنقا )
5-             لعبة ( خريطة )
6-             لعبة ( العصفر )
7-             لعبة ( البربر )
8-             لعبة ( الحبلة )
9-             لعبة صياد السمك
10-        لعبة الحجاج
11-        لعبة ( أم الرقوم )
12-        ألعاب المزاويق والنبيلة والصور ومسدسات الماء والطراطيع والفشاشات السلكية والورق والبلوت والطيارات الورقية وزرة ومعكارة  وصلح أو إن ن ن ن  عروستي  برز  القفز على الأشبار  حصان الجرايد  كفرات وعجلات  وبسكليتات تسلق الأعمدة
هذه الألعاب في غالبها كانت مفيدة وإبداعية ومشبعة للنشء ومتنوعة ومناسبة لسن الأجيال ويمكن ممارستها بكل سهولة وترضي جميع الأذواق والرغبات كما أنها تراعي الفروق الفردية وقد افتقدتها الأجيال الحالية وحرمت منها وحلت محلها ألعاب مضرة بدنيا وسلوكيا كالألعاب الالكترونية أو بعض الألعاب المحدودة النفع .
كما أن المجتمع درج على بعض الألعاب الشعبية المتوارثة والتي ارتبطت زمنيا ببعض التواريخ المهمة ، فليلة النصف من شعبان كانت تنتشر عند الأطفال والشباب لعبة أو عادة اجتماعية تسمى ( سيدي شاهن ) ويشارك فيها الجميع بشغف عظيم ولها فوائد تربوية عميقة الأثر من زيادة المعرفة بالطرقات والبيوت وساكنيها وأبناءها فكنا عندما نشارك نذهب الى البيوت ونطرقه بعصا والقائد يقول عبارة والمجموع يردد من ورائه:
القائد : سيدي شاهن
المجموعة : ياشربيت
خرقة مرقة
ياهل البيت
أما ثواب
ولا جواب
ولانرقد
تحت البواب
وبعضهم يزيد ( ولا نكسر هدا الباب )
ولولا ( فلان ) ويذكرون اسم من أسماء أهل البيت ممن يعرفونه
ماجينا
ولو طاحت
كوافينا
وحل الكيس
واعطينا
والعادة
ياسادة
ست سعادة
هات العادة
سيدي سعيد
هات العيد
أما مشبك
ولا فشار
ولا عريس
من الدهليز
ولا عروسة
من الروشان
سيدي شاهن
ياشربيت
وهكذا تعاد الأنشودة مرة أخرى  حتى يطل أصحاب الدار ببعض الحلويات أو التسالي وما أشبه ويوزعونها على الطارقين أو يضعونها لهم في سلة قماش (عبارة عن شماغ ربطت أطرافه سويا ) وعلق في عنق أحد أفراد المجموعة  فتنصرف المجموعة بفرح وتردد عبارة الشكر مثل :
مبروكة يامبروكة ست البيت مبروكة
وتتحرك مجموعات الشباب والأطفال تطوف الأزقة والحواري وتطرق الأبواب ويتعلم الجميع هذا بيت فلان وأبناؤه فلان وفلان ، وهذا الطريق يؤدي إلى كذا وكذا ، مجموعة من الخبرات والمعارف يتم ترسيخها بطريقة غير مباشرة في العقول والنفوس ، أما نحن اليوم فإن أطفالنا وشبابنا لايكادون يعلمون شيئا من أسماء الجيران وأبنائهم ومن يسكن الحي إلا القليل جدا .
كما أنه قد ينشأ شيء من المشاحنات بين هذه المجموعات عندما تمر مجموعة وقد امتلأت سلتها بالأعطيات بمجموعة أخرى لم تحصل شيئا ، وعندئذ قد تستقوي المجموعة الخاوية على المجموعة الغنية إذا رأتها أقل عددا أو ليست بمستوى قوتها  فكانت صيحة البلطجة المشهورة ( الزكاة ) ثم يهجمون على حامل السلة فإما أن يقتسمون معهم بعض أعطياتهم  أو يهربون أو يشتبكون معهم  وربما انتهى الأمر بتمزيق السلة وبعثرة محتوياتها .
لذا كان أصحاب المجموعات عندما يبدأون في تكوينها يراعون جوانب القوة والمنعة والعدد فلا ينضمون لمجموعات ضعيفة .
ومثل هذه اللعبة أو العادة الاجتماعية كانت هناك عادة أخرى  تسمى ( جابوه ماجابوه ) ليلة دخول رمضان وهي عبارة عن شاب يلبس ملابس مضحكة تشبه الأراجوز وفوق رأسه طربوش مزين  وعادة يكون على دراجة بمفرده أو يحمل على دراجة  ويتجول في الحواري والأزقة والأطفال والشباب يمشون خلفه بأعداد كبيرة وهم يرددون ( جابوه ماجابوه  ولد العري طهروه ) وكلما مر الموكب بحارة من الحواري أحدث ضجة وبهجة وانضم الشباب والأطفال إلى الموكب  إلى أن يسمع خبر دخول شهر رمضان  .
ويبدو أن هذا الموكب كان يقام في حفلات الختان أيضا ويفهم ذلك من ألفاظه  ثم أصبح مقصورا بصورته الكبيرة على ليلة دخول رمضان وكأنه نوع من تنبيه المجتمع إلى هذه المناسبة المباركة دخول شهر رمضان .
ثم مازال الزمان يدور حتى جاءت طفرة النفط وما رافقها من مشاريع وتوسعات فتغير المجتمع المدنى تحولات جذرية وكان من جملة ما اندثر تلك الألعاب الجميلة في الحارة القديمة ، وأصبحت مجرد ذكريات .
وقد شاهدت في موقع ( اليوتيوب ) مقاطع من احتفال الجنادرية في القسم الخاص بالمدينة المنورة  مشاهد لبعض تلك الألعاب وهي محاولات جيدة لتأريخ تلك الذكريات والاستفادة منها .

مذكرات مسلم _ الجزء الرابع ( الحارة القديمة )

الحلقة الرابعة : الحارة القديمة
والحارة القديمة التي ولدت فيها وترعرت في أزقتها من أكثر الأشياء التي أثرت في حياتي وعلى الرغم أنها هدمت وأزيلت وأدخلت في توسعة المنطقة المركزية المحيطة بالحرم النبوي  ومر على فراقي لها وزوالها من أرض الواقع قرابة 25 عاما أو أكثر إلا أنها لازالت قوية الحضور في ذاكرتي ووجداني وأتذكر تفاصيلها بكل وضوح  .
ومن أمتع اللحظات المؤثرة تلك التي أعود فيها بالذاكرة إلى الحارة وحكاياتها وأحداثها على الرغم أن تلك المرحلة لم تخل  من مرارة وتنغيص وكدر  إلا أنها مثل الوردة الجميلة التي تحيط بها  الأشواك من كل جانب ، ولن يقدح وجود الأشواك في جمال الوردة وعبق أريجها وشذى عطرها الفواح .
بل إنني كلما تقدمت بي السن  أشعر أن الحنين يقوى لتلك الذكريات  والارتباط يصبح أشد وربما شارفت على البكاء أو بكيت فعلا وأنا أسرح بخيالي في جنبات تلك الحارة وأعيش ذكرياتها  وظل هذا الحال يلازمني  ولم يخففه عني إلا تذكري أن الله خير و أبقى وأنا ماعند الله هو خير وأبقى  وأن هذه الدنيا مهما بلغت في الجمال والحسن فإنها زائلة وأن الله سيجعل ما على الأرض صعيدا جرزا  وأن كل من عليها فانٍ ، عندها أشعر بالاطمئنان والهدوء وصدق الله ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب )
وأنصح كل من عاش مثل هذه الحالة وكل من فارق عزيزا عليه من مكان أو إنسان أو غير ذلك  أن يكثر من قول ( لاحول ولاقوة إلا بالله ) وأن يتذكر أن الدنيا فانية ولا يبقى إلا القيوم الحي ويفوض أمره إلى الله عزوجل  وسيطفيء الله نيران أشواقه وحنينه بماء الرضا والطمأنينة واليقين بإذنه تعالى ، وإن لم يفعل فستغدو تلك الأشواق والذكريات عذابا أليما  يتجرعه ولا يكاد يسيغه ، وكم حكى لنا التاريخ في السابق واللاحق عن أناس مروا في مثل هذه الحالة وظلوا حتى آخر لحظة من حياتهم  يتجرعون ألم وغصص الفراق والأشواق لأنه لم يكن ثمة إيمان قوي في القلوب ينتزع محبة المخلوق مهما كان ويبقي محبة الخالق فظلت القلوب مريضة وتعاني حتى الرمق الأخير .
وترى مصداق ذلك في عشرات القصائد التي تحكي بكل دقة مايكابده هؤلاء  الناس من ألم الحنين والشوق لمكان أو إنسان أو غير ذلك ، والاسلام  لايرغب لأتباعه أن يعيشوا في مثل هذا  العذاب النفسي  الذي يولد الأسقام والأمراض .
والحارة كانت أشبه بالحي الشعبي  واجتمع فيها من الأسر الفقيرة والمستورة الحال من شتى الجنسيات من المغرب والجزائر واليمن والباكستان وتركيا والبخاريين على اختلاف أعراقهم والأفارقة على اختلاف قبائلهم أيضا والهنود والباكستانيين بالإضافة إلى بعض الأسر من القبائل البدوية التي حول المدينة أو من مناطق المملكة المختلفة كالشروق وغيرهم إلى غير ذلك من جنسيات لا أتذكرها وكل هؤلاء كانوا يشكلون خليطا متجانسا هم أهل الحارة  ومن مجموع الحواري في المدينة والتي كانت على نفس المنوال تشكل مجتمع المدينة المنورة  ثم طغت هجرة القبائل من حول المدينة شرقا وغربا حتى أصبح أغلب السكان من أبناء القبائل  وهذا التحول السكاني أتبعه تحول فكري وأخلاقي كبير في مجتمع المدينة أتحدث عنه في حلقة مفصلة إن شاء الله تعالى.
ويجب التنبيه أن هذا الكلام وصف واقعي وحقيقي لمرحلة عشتها ولا أقصد بها أي نزعة عنصرية تجاه أحد فكلنا أبناء آدم عليه السلام والأرض كلها ملك لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
ولم أكن وحيدا في تعلقي بالحارة فقد وجدت الكثير غيري ممن يشاركني هذه المشاعر وعبر عنها بعضهم بقصائد وكتب وأعمال فنية  وأحضر لي بعض الأصدقاء  شريط كاسيت فيه قصائد لشاعر من مكة المكرمة اسمه ( عبدالله دبلول ) يتحدث فيه عن الحارة القديمة وحكاياتها وشخصياتها  ويقوم هو نفسه بقراءة القصائد بصوت حمله الأحاسيس والمشاعر التي يحملها  فكانت غاية في الروعة والجمال  وتأسر القلوب عند سماعها  ولم يسمعها أحد ممن عاش تلك الفترة إلا أعجب بها وربما سالت الدموع من أعين البعض عند سماعها .
ولابد من التنبيه أن هذا التعلق هو لمن عاش تلك المرحلة أما من نشأ في غيرها من الأجيال التي لم تعرف تلك الأماكن فالغالب أنه لا يجد فيها مايشده كثيرا .
كما أنني شاهدت عرضا مصورا ( بوربوينت ) عن المدينة المنورة قديما ويرافقه صوتا بعض القصائد عن المدينة وهو عرض جميل ومؤثر ، وكل ذلك يدل على أن هناك غيري ممن يشاركني نفس الأحاسيس والمشاعر تجاه الحارة القديمة .
وأعظم ما افتقدته من الحارة القديمة سهولة الوصول إلى الحرم النبوي وأداء الصلوات فيه فقد كانت الحارة قريبة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم  فلم أكن أجد مشقة في الصلاة وما هو إلا أن أسمع الأذان فأتوضأ وأتمكن من إدراك تكبيرة الاحرام مع الامام  ثم تبدلت الأحوال وانتقلنا للعيش في مكان بعيد ويصعب المجيء للحرم إلا بالسيارة  ثم تبدلت الأحوال أيضا وأصبح القدوم بالسيارة عبئا ثقيلا بسبب الزحام والمواقف وحتى عندما افتتحت مواقف الحرم أصبح الخروج من هذه المواقف قمة المعاناة عند من يستعملها حيث الفوضى في الخروج والزحام ، وعند أقل حادث يقع يلزمك أوقات طويلة للخروج فقط من المواقف  ومن العجائب أن الناس تتيسر أمورها بسبب التقدم أما نحن فإن التقدم يزيد معاناتنا وتعقيد حياتنا وإنا لله وإنا إليه راجعون .

الخميس، 15 ديسمبر 2011

مذكرات مسلم الجزء الثالث ( المواهب الأدبية )

الحلقة الثالثة : المواهب  الأدبية
رزقني الله عزوجل منذ صغري بميول أدبية فكنت أحفظ القصائد الأدبية المقررة في المنهج الابتدائي بسرعة كما أنني كنت جيدا في الاملاء والخط والتعبير  وأذكر أنني كنت أشارك مع فريق صفي لأتولى إجابة أسئلة الاملاء والتعبير ، كما أنني كنت أحب القراءة ومما شجعني على ذلك القصص المصورة مثل سوبرمان والوطواط وميكي والمغامرون الخمسة والشياطين ال13 وقمة الهرم بالنسبة لي مجلات تان تان الشهيرة و أذكر أنني كنت أتردد على مكتبة ضياء وأنا في تلك السن أترقب بلهفة وصول العدد الجديد من القصص أو المجلات التي أتابعها
وأذكر أنه في تلك الأيام انتشرت عادة ( تبادل القصص ) حيث أقوم بإعطاء مالدي من قصص قرأتها إلى صديق لي ليعطيني بدوره قصصا لم أقرأها وبعد الفراغ من قراءتها أعيدها له وأسترد قصصي ثم أبحث عن آخر وهكذا  ، ومبعث تلك العادة كان الفقر بالدرجة الأولى فلم يكن من المتيسر لكل أحد شراء مايشاء من القصص كما أن الأعداد التي تأتي في المكتبات محدودة وتوجد رغبة لدى الجميع للثقافة والاطلاع ومتعة القراءة الشيقة في تلك القصص
 وأذكر أن ما أجلبه من قصص يتوالي على قراءته جميع إخواني من بنين وبنات الأكبر مني والأصغر وكانوا قرابة الثمانية  وكم نشأت معارك وخصومات بسبب حجز الدور في القراءة  أو التلكؤ في القراءة بينما من عليه الدور لأخذ القصص يقبع بجانب من يقرأ بل ربما ضايقه ليعجل بالقراءة وينتهي .
كما كانت تنشأ خصومات عندما تتمزق بعض الصفحات خاصة إذا كانت معارة على نظام التبادل فيحتج صاحبها عند استعادتها على التمزيق الذي أصابها وربما أدى ذلك إلى القطيعة بين الإثنين بسبب ماحدث أو يقوم بتعويض ثمنها في حالة الفقد والضياع  أو بما يرضي صاحبها  وربما لجأ البعض إلى محاولة الغش والسرقة فيأخذ مجموعة وعند إعادتها ينقص واحدة  وعند سؤاله يزعم أنه لم يأخذ غير هذا ....وهكذا قصص وخصومات عجيبة مبعثها حب الجميع للقراءة والاطلاع  .
وقد كانت تلك القصص المصورة مبعث شوق بالغ فهي تقريبا التسلية الوحيدة المكتوبة الموجودة في متناول اليد ولم يوجد وسائل منافسة لها حتى الجرائد لم يكن لها ذلك الانتشار الكبير في ذلك الوقت .
وظل حب القراءة والاطلاع ملازما لي حتى يومي هذا  وقد قرأت شيئا كثيرا لا يعلمه إلا الله في كل ماهو مكتوب
والعجيب أنني بقدر ما كنت بارعا في التعبير الكتابي فإن التعبير الشفوي يأتي في مرتبة أقل بل وتخونني العبارات في مواقف متعددة فأجد نفسي عاجزا عن التعبير بلساني  ثم أصبح التعبير بالكتابة عندي متنفسا أفرغ فيه طاقاتي ومشاعري وآلامي وآمالي وأذكر أنني بدأت في تدوين مايشبه الذكريات والخواطر في أواخر المرحلة المتوسطة وبداية المرحلة الثانوية ثم أخذت المسألة منحى أكبر فالتزمت كتابة المذكرات بشكل يومي تقريبا منذ ذلك الحين وحتى يومي هذا  فأصبح لدي مجموعة من الدفاتر سجلت فيها ذكريات أكثر من ثلاثين عاما من سنوات عمري منذ المرحلة الثانوية وحتى يومي هذا وأنا على مشارف الخمسين من عمري .
وكانت كتابة المذكرات تتطور وتنضج تبعا للتطور والنضوج الفكري الذي كنت أمر به فعندما أعود الآن إلى ماكتبته أناملي قبل ثلاثين عاما  أرى  فرقا هائلا في المستوى  وكيف كنت أسجل في تلك الفترات بعض الأمور السخيفة المضحكة ؟ ولكنها كانت العالم الذي أعيشه ولا أكاد أشعر بغيره ثم كيف تطورت الأمور والأحداث والخبرات فأصبحت أسجل مايستحق التسجيل ولله الحمد والفضل والمنة .  
وقد كان لهذه المذكرات فائدة عظيمة إذ كانت بمثابة السجل الفعلي لتاريخ حياتي فأرجع إليها بين آونة وأخرى وأرى أين كنت وأين أصبحت ؟ وماهي مشاعري وأحاسيسي في مراحل ومواقف مختلفة من تاريخ حياتي ؟ وأحيانا أتذكر أحداثا وأمورا قد نسيتها تماما ولولا رجوعي لدفاتري القديمة ومطالعتها لما تذكرتها ، كما أنني كنت أجد صدق توقعاتي أو عكسها  في بعض الأمور والأحداث التي كنت أسجل توقعاتي بشأنها  ، ومن الفوائد أيضا ضبط التاريخ فقد مرت علي أحداث لم أعد أعلم في أي عام من أعوام عمري أو في أي مرحلة منه قد حدثت  فأعود للمذكرات لأجد ضبط التاريخ وضبط الترتيب تبعا لذلك .
وأعظم فائدة جنيتها من تلك المذكرات أنني كنت أرى فيها سجل مكتوبا لرحمة الله عزوجل بي وفضله وكرمه ونعمه التي لاتعد ولا تحصى التي غمرني بها فضلا منه وكرما لا أستحقها بسبب، وأسأل الله أن يرزقني شكرها .  
كما أنني أنصح العقلاء من المسلمين أن يصنعوا مثلي ويدونوا مذكراتهم بشكل دوري  وسيعودون من ذلك بفائدة عظيمة على مر الأيام بإذن الله المولى الكريم .
نهاية الجزء الثالث

مذكرات مسلم ( الجزء الثاني ) ثم اهتديت بهداية الله

 الجزء الثاني : ثم اهتديت بهداية الله
إن أولى ما أبدأ به أن أذكر نعمة الله علي في أن هداني إليه  بعد أن  عشت شرودا عن الله عزوجل حتى نهاية المرحلة الثانوية تقريبا وكانت أشد فترات هذا الشرود في المرحلة الثانوية وكانت بداياته في المرحلة المتوسطة  وقد كدت أن أنجرف إلى موبقات وكبائر ولكن الله سلم وحفظني منها بعد أن كنت مندفعا بظلمي وجهلي إليها إندفاعا .
وأذكر أن بداية تغير المسار هو رسوبي في الصف الثالث الثانوي  وإعادتي للسنة فوجدت نفسي لأول مرة في حياتي وسط أناس لا أعرفهم حيث كنت الوحيد فيهم الذي يعيد السنة وذهب كل رفاقي إلى الجامعة  وتأقلمت بعد فترة مع الدفعة الجديدة ولكن الأثر في نفسي كان قويا وبدأت أصحو وأفيق من سكر الضلال والشرود عن الله عزوجل 
وأذكر أنني بدأت في الاقلاع عن المعاصي شيئا فشيئا وبدأت أحاول الالتزام بالصلاة وكنت مفرطا فيها تفريطا شديدا مع أن والدي رحمة الله عليه كان شديدا علينا في مسألة الصلاة ويأمرنا بها بشدة ويحرص ماوسعته الحيلة أن نصلي ولكنني كنت بظلمي وجهلي أتهرب من ذلك .
وبدأت أخطو في طريق الهداية أولى الخطوات ونفسي تنازعني للعودة وكنت مثل السنبلة التي تتقاذفها الريح  ولكن رحمة الله واسعة فثبتُ بتثبيتِ الله لي  ولا حول ولا قوة إلا بالله 
وفي نهاية تلك السنة كان العام الدراسي ينتهي قبل رمضان بأيام قلائل  وتعلن نتائج الشهادة الثانوية قبل دخول رمضان  وكنت شبه مهيأ لتحول كبير في حياتي وأترقب أن يعلن اسمي من الناجحين  ودخل شهر رمضان يوم الخميس ويوم الجمعة صدرت الصحف وفيها اسمي ضمن الناجحين وسطرت في مذكراتي ذلك اليوم أن يوم الجمعة 2/9/1401هـ أسعد يوم في حياتي لأنه وافق دخول شهر رمضان ونبأ نجاحي وكنت متخوفا من الرسوب فأكرمني الله عزوجل بالنجاح  فكانت فرحتي عارمة
ومع دخول شهر رمضان شهر الانتصارات في الاسلام والذي تصفد فيه مردة الشياطين أذن الله لكوامن الخير في نفسي أن تظهر وأن تشرق شمس الهداية بقوة ويزول ليل الضلال
 عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين مردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت ابواب الجنة فلم يغلق منها باب ومناد ينادي : يا باغي الخير أقبل وياباغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة )
  فعزمت على فراق أبدي مع الشرود عن الله  وبدأت بعمود الاسلام الصلاة فقررت التمسك والالتزام بها ومنذ ذلك اليوم لم أترك صلاتي أبدا وحافظت عليها حتى كتابتي لهذه الأسطر وأسأل الله أن يختم لي بخير .
وكنت أتأمل مسيرة حياتي فكنت أرى عظيم فضل الله علي ورحمته الواسعة التي شملتني فانشلتني من الضلال وكنت أرى مصداق قوله عزوجل  {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فهم يكونون في ظلمات والله يخرجهم منها الواحدة تلو الأخرى وهكذا  ......أسأل الله أن يتم علي نعمته وفضله إنه واسع عليم
وقد واجهت بعد سنوات بعد أن ترسخت قدمي في طريق الهداية مشكلة مع قضاء  الصلوات التي تركتها لسنوات ولم أعرف لها عددا لكثرتها  وهالني الأمر وأصبح كابوسا ثقيلا على كاهلي وأرقني أيما أرق  خاصة وأنا أجهل تفاصيل هذا العبء الثقيل  وأطلعت على أقوال العلماء  في هذا الباب  والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم وبعد بحث واطلاع انشرح صدري وارتاح قلبي لقول من قال أنه لايلزمه القضاء بعد التوبة وتابعت مشوار الهداية مرتاح النفس بإذن الله تعالى .
وحاول الشيطان أن يعيدني إلى طريق الشرود والضلال مرة بعد أخرى ولكن رحمة الله عزوجل ثبتتني على الطريق فلم انتكس مع أن بعض المغريات كانت تلوح لي ، وبعض الماضي السيء  كان يلاحقني ويعذبني ولكن حب الله في قلبي كان أقوى من كل شيء  فأفرغ الرحمن علي صبراً  فصبرت وظلت البوصلة في اتجاه الإيمان بالله ورسوله رغم الخدوش والانتكاسات والعقبات والمغريات حتى بلغ الكتاب أجله فانقضت إلى غير رجعة بإذن الله تعالى وبقيت حلاوة الإيمان في القلب بمحض فضل الله ورحمته لا بسبب مني ولا حولٍ ولا قوة .
وهاهنا نصيحة أقدمها لكل من عاش مثل ظروفي : إنك إذا سلكت سبيل الله عزوجل فإن الشيطان سيحاول بكل الوسائل أن يصدك عن سبيل الله  ويأتيك غالبا من المعاصي والشهوات التي كنت واقعا فيها فالذي يحدث للغالب من المهتدين أنه بعد فترة من الالتزام قد تطول وقد تقصر يصيبه نوع من الفتور  - وهذا من طبائع النفس البشرية مهما علا شأنها – فتهتاج نفسه لممارسة المعاصي التي كان يمارسها  فيمنعه إيمانه  ويحدث بينه وبين ظروفه المحيطة به ما يشبه المعركة حيث تحاول الظروف والشيطان من ورائها أن تعود به إلى سبيل الغواية ويمنعه إيمانه من ذلك  ولكن نظرا لحداثة عهده بالهداية فإنه في الغالب سيعود إلى المعاصي التي ألفها بشكل أو بآخر قليلا أو كثيرا  مثل التدخين ( أو غيره من المعاصي ) فقد يمتنع عنه لسنوات أو أقل ثم في لحظة ضعف شديد يدخن سيجارة ثم يقلع لسنوات أو أقل ثم يعود وهكذا إما  بشكل قليل أو كبير وهاهنا يتصيد الشيطان الكثيرين فيعيدهم لطريق الغواية مرة أخرى  والحل الأمثل والذي جربته وجربه الكثيرون غيري وينصح به العلماء والمشايخ  أن لاتترك باب الله عزوجل مهما أذنبت ومهما وقعت وارتكست وانتكست ، وقل يارب لن أترك طريقك مهما وقعتُ وزلت قدمي ، يارب ضعفت نفسي وأقحمني ظلمني وجهلي في المعاصي ولكن لن أترك الوقوف على بابك وسأظل أطلب منك العفو والصفح والغفران .
ويشهد لهذا المعنى حديث صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَحْكِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَىْ رَبِّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِى أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَىْ رَبِّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ »
يظن البعض أنه إذا ارتكب بعض المعاصي قليلا منها أو كثير  أن ذلك نهاية الأمر وأنه عاد إلى طريق الضلال وذلك ليس صحيحا  ويشهد له قصة ذلك الصحابي الذي كان مولعا بشرب الخمر ولم يزل يؤتى به للرسول صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة والرسول صلى الله عليه وسلم يقيم عليه الحد ثم يتركه وهكذا  ، حتى قال أحد الصحابة : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به ، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأخبره أنه يحب الله ورسوله  وهذا  هوحال التائبين الصادقين  يحبون الله ورسوله ولكن نفوسهم تضعف فيقعون في الذنوب والخطايا ولكن حب الله ورسوله في قلوبهم يجعلهم لا يتركون الانطراح أمام باب الله عزوجل يطلبون منه العفو والصفح والغفران

عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ فَأُتِىَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ تَلْعَنْهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ».

وأعلم أن الله عزوجل يسلط على عباده التائبين مثل هذه البلايا ليمتحن قلوبهم للتقوى ويرى صدقهم في التوجه إليه والوقوف على بابه وإصرارهم على ذلك مهما أثخنتهم جراح الذنوب والمعاصي  حتى إذا بلغ الكتاب أجله  صرف الله عن الصادقين ذلك البلاء مثلما صرف عن يوسف كيد النساء فلم يعدن يتعرضن له بالغواية والإغراء
ومما يسترعي الانتباه أن هذا الوضع الذي أحكيه لكم كان يحدث في المدينة المنورة  في مأرز الإيمان  حيث المفترض أن يخفت صوت الشيطان ويعلو صوت الإيمان ولكن للأسف مجتمع المدينة المنورة يشهد في عمومه شرودا عن منهج الله الحقيقي في الحياة  ولازال كذلك حتى كتابة هذه السطور بل ربما زاد شرودا  في بعض الجوانب  ولعل ما تقرؤنه في الحلقات القادمة  يوضح لكم المراد أكثر فأكثر .
والخير موجود في مجتمع المدينة المنورة ومظاهر الخير موجودة ولكن أعمال الإيمان في أساسها تقوم على أعمال القلب  وتكملها الأعمال الظاهرة  أما إن وجدت الأعمال الظاهرة  وغاب عمل القلب  فلن تجدي مظاهر الخير شيئا مهما بلغت .
ولست أزعم أنني اطلعت على أعمال قلوب العباد فذلك لله وحده ، ولكن هناك دلائل واشارات تظهر على العمل تدل على مقصود صاحبه والعلم عند الله تعالى .

نهاية الجزء الثاني

مذكرات مسلم الجزء الأول ( المقدمة )

كلمة طيبة من طيبة الطيبة
مذكرات مسلم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سينا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
ف
هذه صفحات من حياتي أسطرها  لتكون لي ذخرا عند الله وينتفع بها من شاء الله من عباده  وأسطرها  وقد شارفت في العمر على الخمسين أو تجاوزتها قليلا  وبدأت القوى تضعف  وهذه سنة الحياة كما أخبر الله سبحانه وتعالى

(الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير)
 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم) 
 ولم يعد في العمر أكثر مما مضى  وأحببت أن يكون لي علم ينتفع به  وهو أحد الثلاث التي أخبرنا بها قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه

 (
وقد أعملت الفكر كثيرا فيما يمكنني عمله  وقد وهبني الله عزوجل نعمة الفكر والبيان الكتابي  وظللت زمنا أتنقل بين فكرة وأخرى مستعينا بالله عزوجل مستلهما منه الرشد والتوفيق فانشرح صدري لكتابة  صفحات من حياتي أبين فيها ما أنعم الله عزوجل من النعم التي لا تعد ولا تحصى وأسطر فيها مافتح الله علي من العلم والمعرفة والفهم  فيما مر بي في معترك الحياة ومن خلال تقلبي في سنين العمر  لتكون نبراسا ودليلا لمن شاء الله من عباده بإذنه سبحانه وتعالى إنه أهل الرجاء ومجيب الدعاء .
ولست من الشخصيات المشهورة أو ذات الشأن حيث شاع في هذا الزمان أن المشاهير والعظماء هم من يكتبون مذكراتهم  أو تكتب لهم فيتلقفها الناس ليعرفوا المزيد عنهم ، كما أنني لا أزكي نفسي بأنني من الصالحين أو ممن يقتدى بهم ولكني كتبتها للتحديث بنعمة الله وابتغاء الثواب والأجر من الله تعالى  كما أسلفت على تقصير وتفريط مني أسأل أن يتقبل مني بمحض فضله ورحمته .
وظللت زمنا أفكر في العنوان الذي سأضعه لهذا العمل وذات يوم سمعت قول الله عزوجل ( ومثل كلمة طيبة    ) فانشرح صدري لأن أجعل العنوان كلمة طيبة من طيبة الطيبة  مستلهما شرف القرآن وشرف المكان حيث أكرمني الله عزوجل بالولادة والنشأة والعيش في جوار نبيه صلى الله عليه وسلم  في المدينة المنورة  .
وما سأورده  سيكون على هيئة حلقات  كل حلقة تتناول جانبا مما مررت به في حياتي ورأيت أن فيه ما ينفع إن حدثت به  أو مما رواه  لي المقربين  من إخواني وأحبابي  أو مما اطلعت عليه وسمعته  ووعيته جيدا  وسأنبه على كل ذلك في حينه  كما أن الترتيب الزمني  للأحداث ليس معتمدا حيث أنني أسترجع  الفكر والذكريات  وما فتح الله به أوردته وسطرته  بصرف النظر عن الزمن وترتيبه  .
وما سأكتبه يعبر عن وجهة نظري الشخصية وفهمي ورؤيتي للأحداث  وأتحدث به ضمن حرية الكلمة التي كفلها الإسلام لكل الناس ، وقد يتفق القراء معي فيها أو لايتفقون فهذه قضية أخرى ، كما أن حرية الرد والتوضيح مكفولة لمن أراد ضمن ماهو متعارف عليه .
كما أنني لن أذكر الشخصيات والأسماء حفاظا على خصوصيات الناس وتحرزا من الغيبة  وخوفا من حساب الله عزوجل وسأذكر الأفعال  إذ هي المقصود  كما فعل رسول الله صلى الله عليه  في المأثور عنه  ( مابال أقوام ....)
وإذا أصبت فيما كتبته وقدمته فهو محض فضل الله و توفيقه  وهدايته  وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان  والله ورسوله منه بريئان وأستغفـر الله منه 

المدينة المنورة  في 2/6/1431هـ