مذكرات مسلم _ الجزء الرابع ( الحارة القديمة )
الحلقة الرابعة : الحارة القديمة
والحارة القديمة التي ولدت فيها وترعرت في أزقتها من أكثر الأشياء التي أثرت في حياتي وعلى الرغم أنها هدمت وأزيلت وأدخلت في توسعة المنطقة المركزية المحيطة بالحرم النبوي ومر على فراقي لها وزوالها من أرض الواقع قرابة 25 عاما أو أكثر إلا أنها لازالت قوية الحضور في ذاكرتي ووجداني وأتذكر تفاصيلها بكل وضوح .
ومن أمتع اللحظات المؤثرة تلك التي أعود فيها بالذاكرة إلى الحارة وحكاياتها وأحداثها على الرغم أن تلك المرحلة لم تخل من مرارة وتنغيص وكدر إلا أنها مثل الوردة الجميلة التي تحيط بها الأشواك من كل جانب ، ولن يقدح وجود الأشواك في جمال الوردة وعبق أريجها وشذى عطرها الفواح .
بل إنني كلما تقدمت بي السن أشعر أن الحنين يقوى لتلك الذكريات والارتباط يصبح أشد وربما شارفت على البكاء أو بكيت فعلا وأنا أسرح بخيالي في جنبات تلك الحارة وأعيش ذكرياتها وظل هذا الحال يلازمني ولم يخففه عني إلا تذكري أن الله خير و أبقى وأنا ماعند الله هو خير وأبقى وأن هذه الدنيا مهما بلغت في الجمال والحسن فإنها زائلة وأن الله سيجعل ما على الأرض صعيدا جرزا وأن كل من عليها فانٍ ، عندها أشعر بالاطمئنان والهدوء وصدق الله ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب )
وأنصح كل من عاش مثل هذه الحالة وكل من فارق عزيزا عليه من مكان أو إنسان أو غير ذلك أن يكثر من قول ( لاحول ولاقوة إلا بالله ) وأن يتذكر أن الدنيا فانية ولا يبقى إلا القيوم الحي ويفوض أمره إلى الله عزوجل وسيطفيء الله نيران أشواقه وحنينه بماء الرضا والطمأنينة واليقين بإذنه تعالى ، وإن لم يفعل فستغدو تلك الأشواق والذكريات عذابا أليما يتجرعه ولا يكاد يسيغه ، وكم حكى لنا التاريخ في السابق واللاحق عن أناس مروا في مثل هذه الحالة وظلوا حتى آخر لحظة من حياتهم يتجرعون ألم وغصص الفراق والأشواق لأنه لم يكن ثمة إيمان قوي في القلوب ينتزع محبة المخلوق مهما كان ويبقي محبة الخالق فظلت القلوب مريضة وتعاني حتى الرمق الأخير .
وترى مصداق ذلك في عشرات القصائد التي تحكي بكل دقة مايكابده هؤلاء الناس من ألم الحنين والشوق لمكان أو إنسان أو غير ذلك ، والاسلام لايرغب لأتباعه أن يعيشوا في مثل هذا العذاب النفسي الذي يولد الأسقام والأمراض .
والحارة كانت أشبه بالحي الشعبي واجتمع فيها من الأسر الفقيرة والمستورة الحال من شتى الجنسيات من المغرب والجزائر واليمن والباكستان وتركيا والبخاريين على اختلاف أعراقهم والأفارقة على اختلاف قبائلهم أيضا والهنود والباكستانيين بالإضافة إلى بعض الأسر من القبائل البدوية التي حول المدينة أو من مناطق المملكة المختلفة كالشروق وغيرهم إلى غير ذلك من جنسيات لا أتذكرها وكل هؤلاء كانوا يشكلون خليطا متجانسا هم أهل الحارة ومن مجموع الحواري في المدينة والتي كانت على نفس المنوال تشكل مجتمع المدينة المنورة ثم طغت هجرة القبائل من حول المدينة شرقا وغربا حتى أصبح أغلب السكان من أبناء القبائل وهذا التحول السكاني أتبعه تحول فكري وأخلاقي كبير في مجتمع المدينة أتحدث عنه في حلقة مفصلة إن شاء الله تعالى.
ويجب التنبيه أن هذا الكلام وصف واقعي وحقيقي لمرحلة عشتها ولا أقصد بها أي نزعة عنصرية تجاه أحد فكلنا أبناء آدم عليه السلام والأرض كلها ملك لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
ولم أكن وحيدا في تعلقي بالحارة فقد وجدت الكثير غيري ممن يشاركني هذه المشاعر وعبر عنها بعضهم بقصائد وكتب وأعمال فنية وأحضر لي بعض الأصدقاء شريط كاسيت فيه قصائد لشاعر من مكة المكرمة اسمه ( عبدالله دبلول ) يتحدث فيه عن الحارة القديمة وحكاياتها وشخصياتها ويقوم هو نفسه بقراءة القصائد بصوت حمله الأحاسيس والمشاعر التي يحملها فكانت غاية في الروعة والجمال وتأسر القلوب عند سماعها ولم يسمعها أحد ممن عاش تلك الفترة إلا أعجب بها وربما سالت الدموع من أعين البعض عند سماعها .
ولابد من التنبيه أن هذا التعلق هو لمن عاش تلك المرحلة أما من نشأ في غيرها من الأجيال التي لم تعرف تلك الأماكن فالغالب أنه لا يجد فيها مايشده كثيرا .
كما أنني شاهدت عرضا مصورا ( بوربوينت ) عن المدينة المنورة قديما ويرافقه صوتا بعض القصائد عن المدينة وهو عرض جميل ومؤثر ، وكل ذلك يدل على أن هناك غيري ممن يشاركني نفس الأحاسيس والمشاعر تجاه الحارة القديمة .
وأعظم ما افتقدته من الحارة القديمة سهولة الوصول إلى الحرم النبوي وأداء الصلوات فيه فقد كانت الحارة قريبة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أكن أجد مشقة في الصلاة وما هو إلا أن أسمع الأذان فأتوضأ وأتمكن من إدراك تكبيرة الاحرام مع الامام ثم تبدلت الأحوال وانتقلنا للعيش في مكان بعيد ويصعب المجيء للحرم إلا بالسيارة ثم تبدلت الأحوال أيضا وأصبح القدوم بالسيارة عبئا ثقيلا بسبب الزحام والمواقف وحتى عندما افتتحت مواقف الحرم أصبح الخروج من هذه المواقف قمة المعاناة عند من يستعملها حيث الفوضى في الخروج والزحام ، وعند أقل حادث يقع يلزمك أوقات طويلة للخروج فقط من المواقف ومن العجائب أن الناس تتيسر أمورها بسبب التقدم أما نحن فإن التقدم يزيد معاناتنا وتعقيد حياتنا وإنا لله وإنا إليه راجعون .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية