الأحد، 5 مايو 2024

الوصايا العشر في مواجهة المحن والمصائب والأزمات الشخصية

 

الوصايا العشر في مواجهة المحن والمصائب والأزمات الشخصية

د. أحمد بن إبراهيم خضر

وضع علماء الإسلام منهجا خاصا يستطيع به المؤمن أن يواجه الأزمات التي قد تعرض له أو المصائب التي قد تصيبه في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله وغير ذلك على النحو التالي:

(1) على المصاب أن يسترجع ويصبر ويحتسب لحظة وقوع الصدمة ثم يركن إلى الله - تعالى -رجاء أن يخلف الله عليه ويعوضه عن مصابه.

الصبر كما يعرفه العلماء- هو حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب.

ومن المعروف أن للمصيبة المفاجئة روعة تزعزع القلب وتزعجه، فإن صبر المصاب لحظة وقوع الصدمة انكسرت حدتها وضعفت قوتها فيهون عليه استمرار صبره بعدها لأن المصيبة ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه وهى الصدمة الأولى، وأما إذا وردت عليه بعد ذلك توطن لها وعلم أنه لا بد له منها فيصبر، لكنه يكون مضطرا هنا، وهذا الصبر الاضطراري غير محمود ولا ثواب عليه. ولهذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الصبر عند أول صدمة ".

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: " ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها " قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسوله".

وقد بشر الله الصابرين بثلاث كل منها خير مما يتحاسد عليه أهل الدنيا، فقال - تعالى -: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة157].

والله - تعالى - لا يخيب من لجأ إليه، بل يعوضه كما عوض أم سلمة بزواجها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه من كل شيء عوض إلا الله - تعالى -.

وعلى المصاب أن يعلم أن حظه من المصيبة ما يحدث له فمن رضي فله الرضي ومن سخط فله السخط. وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته" والوصب هو المرض ـ و النصب هو التعب.

وفي الصحيحين عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله - عز وجل - بها عنه حتى الشوكة يشاكها ".

(2) أن يحمد الله - تعالى - على أن مصيبته وقعت عند هذا الحد وأنه - تعالى - لو شاء لجعلها أعظم مما هي، وعليه أن يستقبلها بالبشر والقبول والكتمان.

على المصاب أن يحمد الله - تعالى - على أن مصيبته لم تكن أعظم مما هي عليه.

ولهذا قال بعض الحكماء: إن لله عبادا يستقبلون المصائب بالبشر: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم.

والمؤمن الموفق هو من يتلقى المصيبة بالقبول ويعلم أنها من عند الله لا من عند أحد من خلقه ويجتهد في كتمانها ما أمكن، ويقول العلماء: ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان المصيبة وكتمان المرض وكتمان الصدقة..وقال بعض السلف: ثلاثة يمتحن بها عقول الرجال: كثرة المال والمصيبة والولاية.

وقال العلماء كذلك: من جواهر البر كتمان المصيبة حتى يظن أنك لم تصب قط..

(3) أن يوطن المصاب نفسه على أن كل مصيبة تأتيه هي من عند الله - تعالى -، وأنها بقضائه وقدره وأنه - سبحانه وتعالى- لم يقدرها عليه ليهلكه بها ولا ليعذبه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وشكواه إليه وابتهاله ودعاءه.

وأن يعلم كذلك أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ولهذا عليه أن يحذر أن يتسخط أو يعترض على قدر الله فيتفوه بألفاظ التظلم والشكوى، أو أن يتكلم في حال مصيبته وبكائه بشيء يحبط به أجره ويسخط به ربه مما يشبه التظلم.

قال - تعالى -: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد23].

فإذا تأمل هذه الآية الكريمة وجد فيها شفاء أو دواء لما أصابه.

وليعلم المصاب أيضا أن الله - تعالى - فعال لما يريد يتصرف فيهم كيف يختار، من موت وغرق وحرق وغير ذلك مما قضاه وقدره وأمضاه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟! فإذا تسخط الإنسان بأقوال وأفعال منكرة نهى الشرع عنها وذم فاعلها لشرعه في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله فإن سخطه هذا يكون مناف للرضا والصبر ويضر بالنفس والبدن ولا يرد من قضاء الله وقدره شيئا.

وقد جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا رسول الله أوصني ولا تكثر علي؟ قال: لا تتهم الله - عز وجل - في شيء قضاه لك ".

يقول العلماء: " إن الله - تعالى - عدل لا يجور، وعالم لا يضل ولا يجهل، وحكيم أفعاله كلها حكم ومصالح، ما يفعل شيئا إلا لحكمة، فإنه - سبحانه - له ما أعطى، وله ما أخذ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو الفعال لما يريد، والقادر على ما يشاء، له الخلق والأمر، وعلى المصاب أن يتكلم بكلام يرضي به ربه، ويكثر به أجره، ويرفع الله به قدره ".

(4) ألا يدعو المصاب على نفسه أو يحزن ويبكى إلا على تفريطه في حق الله - تعالى - أو ما لا يقترن بمحرم.

يقول العلماء: " ليحذر العبد أن يدعو على نفسه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما مات أبو سلمة: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون).

وعلى المصاب أيضا ألا يحزن وألا يبكي ويتأسف إلا على تفريطه في حق الله - تعالى -، وعليه أن يستشعر الانفراد في القبر وحيدا ذليلا مستوحشا ثم مسائلة منكر ونكير - عليهما السلام - وطول مكثه تحت الثرى إما منعما وإما معذبا ثم من بعد ذلك خروجه من قبره وقيامه لرب العالمين ثم وقوفه الطويل في المحشر وما يرى من أهوال يوم القيامة ثم حسابه بين يدي الله - تعالى - ووزن أعماله وتطاير الصحف والمحاسبة على مثقال الذرة وأنه سيجد ما عمل محصيا عليه محررا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنه بين رجاء وخوف، إما لذات اليمين أو لذات الشمال، فلو استشعر المصاب هذه المصائب العظيمة التي بين يديه والتي كان هو غافل عنها غير مستعد لها لشغلته عن مصابه ولرجع إلى الصبر والرضا بما قدره الله - تعالى - وأمضاه.

ولم يأمر الله - تعالى - ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالحزن لا في المصيبة ولا في غيرها، بل قد نهى الله عنه في كتابه وإن تعلق بأمر الدين.

لكن الحزن منه محمود ومذموم كقوله - تعالى -: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران139]، وقوله: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [النمل70]، وقوله - تعالى - في حق نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - و أبي بكر: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا [التوبة40]، وقوله - تعالى -: فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ [يس76] ونحو ذلك من الآيات كثير في القرآن وما ذاك إلا لأن الحزن لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به لكن الحزن والبكاء لا يأثم يهما صاحبه إذا لم يقترن ببكائه وحزنه محرم.

(5) أن يعلم المصاب أن الدنيا ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر وأن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة في الآخرة وحلاوة الدنيا هي بعينها مرارة في الآخرة.

يقول العلماء: (كل ما يظن الإنسان في الدنيا أنه شراب فهو سراب وعمارتها وإن أحسنت صورتها خراب وجمعها فهو للذهاب ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم يكن فيها الأمراض والأكدار ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم: يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا. ونوح: بكى ثلاثمائة عام. وإبراهيم: يكابد النار وذبح الولد. ويعقوب: بكى حتى ذهب بصره. وموسى: يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن. وعيسى بن مريم: كان لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك. ومحمد - صلى الله عليه وسلم -: عانى من الفقر وقتل عمه حمزة وهو من أحب أقاربه إليه ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره. ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ المؤمن منها. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فهي ابتلاء و سجن ومحن فلا ينبغي إنكار وقوع المصائب فيها.

وعلى المصاب أن يعلم أن انتقاله من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك فإن خفي عليه ذلك فلينظر إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات ".

وكذلك قوله في الصحيح: " يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله يا رب ".

وهنا تتفاوت عقول الناس وتظهر حقائق الرجال فأكثر الناس يؤثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ولم يتحمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد ولا ذل ساعة لعز الأبد ولا محنة ساعة لعافية الأبد فإن الحاضر عنده شهادة والمنتظر غيب والإيمان ضعيف وسلطان الشهوة حاكم فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة، ما ذاك إلا لحبهم هذه الحياة الدنيا.

(6) أن يعلم المصاب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصابه من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا.

يقول العلماء: "من رحمة الله - تعالى - على عباده أنه يتفقد عبده في بعض الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة فسبحان من يرحم ببلائه و يبتلي بعض القوم بالنعم، فلولا أنه - سبحانه وتعالى - يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا في الأرض وعاثوا فيها بالفساد فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر ونهي وصحة وفراغ وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها تمردت وسعت في الأرض فسادا مع علمهم بما فعل بمن قبلهم. و لكن الله - سبحانه وتعالى - إذا أراد بعبده خيرا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ويستفرغ منه الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته ورقاه أرفع ثواب الآخرة وهي رؤيته.

(7) أن يطفئ المصاب نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب

على المصاب أن يعلم أنه في كل قرية وفي كل مدينة، بل وفي كل بيت من أصيب فمنهم من أصيب مرة ومنهم من أصيب مرارا و ليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت حتى نفس المصاب فيصاب أسوة بأمثاله ممن تقدمه فإنه إن نظر يمنة فلا يرى إلا محنة وإن نظر يسرة فلا يرى إلا حسرة.

(8) على المصاب ألا ينشغل بالجزع والشكوى عما يجب أن يلتفت إليه.

على المصاب أن يعلم أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها وهو في الحقيقة يزيد في مصيبته ويشمت عدوه ويسوء صديقه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أخزى شيطانه وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه فهذا هو الثبات في الأمر الديني قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر " وعلى المصاب أن يعلم، أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل بدون ذلك، بل يكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه و استرجاعه على مصيبته فلينظر أي المصيبتين أعظم مصيبته العاجلة بفوات محبوبة أو مصيبته بفوات بيت الحمد في جنة الخلد؟.

وليعلم المصاب الجازع وإن بلغ به الجزع غايته ونهايته فآخر أمره على صبر الاضطرار وهو غير محمود ولا مثاب عليه كما قلنا سابقا؛ لأنه استسلم للصبر وانقاد إليه على رغم أنفه.

وعلى المصاب في حالة مرض الموت، ألا يشغله مصابه عما يجب أن يلتفت إليه من مصالح في وصية أو فعل خير أو تأهب للموت من رد ودائع أو دين أو زكاة أو مظلمة لأحد أو التكفير عن ذنوب، فهو في زحمة انشغاله بمصيبته وحزنه على فراق الدنيا ينسى كل ذلك، وإذا أفاق فقد يوصي بوصية يجور فيها على حقوق آخرين فيمنع المستحق أو يعطى من لا يستحق.

ويرجع العلماء ذلك كله إلى ضعف الإيمان والتعلق بالدنيا وضعف التطلع إلى الآخرة. وفي هذا روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت ".

(9) ينبغي للمصاب في نفسه أو بولده أو بغيرهما أن يجعل مكان الأنين والتأوه ذكر الله - تعالى - والاستغفار والتعبد خاصة في مصيبة مرض الموت.

كان الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - في مرض موته يئن منه أنيناً، فقيل له: يا إمام! إن طاوساً يقول: إن الأنين يكتب، يعني لقول الله- تبارك وتعالى - في كتابه الكريم: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق18]، فما عادها الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - حتى مات.

وكان السلف - رحمهم الله تعالى - يكرهون الشكوى إلى الخلق؛ لأنها وإن كان فيها راحة إلا أنها تدل على ضعف وخور والصبر عنها دليل قوة وعز، وهي إشاعة سر الله - تعالى - عند العبد، وهي تأثر شماتة الأعداء ورحمة الأصدقاء.

وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو قال: دخلنا على ورقاء بن عمر و هو في الموت فجعل يهلل ويكبر ويذكر الله - عز وجل - وجعل الناس يدخلون عليه ويسلمون عليه فيرد - عليهم السلام - فلما كثروا عليه أقبل على ابنه، فقال: يا بني اكفني رد السلام على هؤلاء لا يشغلوني عن ذكر ربي - عز وجل -.

وقد روي في حديث أن إبليس لا يكون في حال أشد منه على ابن آدم عند الموت يقول لأعوانه: دونكموه فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه. والأعمال بخواتيمها فإنه ربما أضله في اعتقاده وربما حيل بينه وبين التوبة و غير ذلك مما هو محتاج إليه و ربما وقع منه الاعتراض على القضاء و القدر، فينبغي للمصاب بنفسه أو بغيره أن يعلم أو يعلم بغيره أنها صبر ساعة فيتجلد و يحارب إبليس جهد طاقته، فبصدقه مع الله يعينه الله، كما عليه أن يعلم أيضا أن التشديد عليه أو على غيره في النزع هو في الغالب من كرامة العبد على الله - عز وجل - فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل والأمثل.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: [ما أشد مرارة الموت]. قال ابن عباس قال: "آخر شدة يلقاها المؤمن عند الموت" كانت عائشة - رضي الله عنها - تقول: مات فلان ولم يعالج قال الحافظ بن ناصر: يعني أنه لم يعالج: أنه لم يحصل له في مرضه وعند موته ما يكون كفارة لذنوبه".

وعن ثابت عن أنس بن مالك - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في النزع فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرضى أو أمنه مما يخاف".

(10) أن يعلم المصاب أن من أعظم مصائب الدنيا والآخرة: المصيبة في الدين، وأيا كانت المصيبة التي أصيب بها طالما أنها ليست في دينه فهي تهون؛ لأن المصيبة في الدين هي الخسارة التي لا ربح معها.

ومن أعظم المصائب في الدين موت النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم؛ لأن بموته - صلى الله عليه وسلم - انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وانقطعت النبوات، وكان موته أول ظهور الشر والفساد بارتداد العرب عن الدين.

هذه هي الوصايا العشر في مواجهة المحن والمصائب والأزمات الشخصية، وهى خلاصة ما استفاض فيه الإمام ابن القيم في كتابه: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، والإمام ابن الجوزي في كتابه: " تسلية أهل المصائب"

د. أحمد بن إبراهيم خضر

الجمعة، 3 مايو 2024

كيف استطاع الانجليز احتلال أكثر دول العالم ب200 الف جندي

 كيف استطاع الانجليز احتلال أكثر دول العالم خلال القرن 19 م :


جزيرة مساحتها 120 الف ميل مربع حكمت اراضي مساحتها 11 مليون ميل مربع و استعبدت شعوبها ، طوال اغلب القرن 19 م ، جزيرة فقيرة بالموارد و كان عدد جيشها لا يتعدى 200 الف جندي متفرقين في كل دول العالم و في القارات الخمس ، تطور اسلحتها و قوة جيشها لا يمكن ان تكفي للسيطرة على مئات الملايين من البشر و مساحات شاسعة ووعرة من الارض ، كيف استطاعت جزيرة صغيرة كبريطانيا ان تستعبد ما يقارب ربع سكان العالم ؟...

تقول الارقام ان عدد المسؤولين الذين حكمو الهند هم الف مسؤول انجيزي فقط ، يتحكمون في حياة 400 مليون هندي وفي افريقيا 1200 مسؤول انجليزي يتحكمون في مستعمرات انجلترا في افريقيا الممتدة من شمال افريقيا الى نيجيريا و جنوب افريقيا ، نجد الاجابة عند فريدريك لوجارد المندوب البريطاني السامي في محمية غرب افريقيا ، من عام 1899 إلى 1906، حيث وضح ذلك في كتابه في النقاط التالية :

1- الحكم الغير مباشر : استعمال اصحاب النفوس الضعيفة و الخونة من الزعماء المحليين و ضمان ولائهم بالترغيب و الرشاوي المالية و الالقاب و الاوسمه و شراء الذمم مع بعض التخويف من العقاب او الخلع من المنصب ليكونوا وكلاء للمستعمر البريطاني ، يحققون مصاله على حساب مصالح بلدهم و شعوبهم مقابل بعض المكافات التافهة .

2- بناء جيوش عميلة : كان في الهند جيش متكون من 100 الف جندي هندي لكنه جيش عميل يعمل لصالح المستعمر ، بل و يقتل الهنود و يقمعهم لو طالبوا بالاستقلال او ثاروا ضد الاستعمار .

3- صناعة طبقة من المتعلمين المنبهرين بانجلترا : عن طريق الدعاية و الاعلام و المدارس الغربية ، التي تصنع اجيال من العبيد لانجلترا ، لتصبح كل مرجعيتهم و احلامهم هي انجلترا العظيمة و تقليدها ، فيتحولون لاوروبيين في جلود سوداء او ملونة ، يشعرون دوما بالنقص امام سيدهم الغربي وكل شيء اوروبي ، و الانبهار و تقليد اي شيء ياتي من اوروبا ، ينظرون لشعوبهم باحتقار لانهم ليسوا مشابهلين لانجلترا بما يكفي ، و ينظرون لانفسهم باحتقار لانهم لا يشبهون الغرب بما يكفي .

الانهزام النفسي و عبودية العقول تضمن عبودية الاقتصاد و السياسة و الجيش و كل شيء ، شعوب كثيرة في افريقيا و اسيا و العالم الاسلامي لاتزال حبيسة عقلية القرن 19 م التي غرسها الغرب فيها ، ولم تتخلص منها رغم استقلالها المزعوم .

الأحد، 28 أبريل 2024

كلام مهم في حقيقة التوكل / محمد الغزالي

 

والتوكل كلمة مظلومة، إنها تعني ركون الإنسان إلى الله فيما لا طاقة له به لأنه لا يستطيع عمله.
أما ما يدخل في حدود طاقته ويملك البت في بدايته ونهايته فلا مكان للتوكل فيه.
إذا دخل الليل وهو في حجرته نهض إلى المصباح فأوقده، هذا عمله الذي يقوم به ولا ينتظر من السماء أن تنوب عنه فيه.
إذا سار في طريق التزم الجانب الأيمن، وتجنب مظان الخطر؟ وأجاب داعى الحذر، 
أما إيثار الفوضى والنزق وانتظار السلامة باسم التوكل فجهل...
إذا تقدم لمسابقة استكمل أهبة الفوز بما تفرض من كفاح ذهني وعلمي وما تتطلبه من نشاط يقرب من الغاية...
إذا سكن بيتا غلق أبوابه ليلا، وتعهد ثغراته حتى لا يجد اللصوص لهم منفذا وهكذا.
من أجل ذلك أجاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأعرابي الذي سأله: أتركها وأتوكل أم أعقلها وأتوكل ـ يعني ناقته ـ؟
 فقال: أعقلها وتوكل.
ونبه الله المجاهدين ـ إذا ضمتهم جنبات الميدان ـ أن يكون انتباههم حادا وتيقظهم بالغا (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا).
وقبل أن يأمر الله نبيه بالتوكل عليه في قوله:
(فاعبده وتوكل عليه)
قبل ذلك مباشرة قال: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون).
فالأمر بالتوكل جاء بعد إعلان عن عمل موصول وصبر طويل.
ورأى أحد الأئمة فقيرا ينطلق إلى الحج دون زاد، فسأله أين زادك؟.
فقال: أنا متوكل على الله.
فقال له: أمسافر أنت وحدك؟ قال: بل مع القافلة.
فقال له: أنت متوكل على القافلة!!.
وصدق، فهذا متأكل لا متوكل، وهذا الصنف جاهل بالإسلام، ومعرفته بالله غامضة يشوبها حمق كثير.
والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد كل الوسائل المقررة في عالم الشهادة، إيمان بالله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من واجبات.
والتوكل يجئ صدقا وسكينة في موضعه الحق، ولنضرب لذلك الأمثال.
طلب الرزق غريزة لدى الأحياء كلهم ما إن تبدو تباشير الصباح حتى يستعد الفلاحون والتجار والصناع وأصحاب الحرف للدخول في كفاح طويل أو قصير كي يحرز كل امرئ قوته وقوت أسرته.
وهذا الكفاح محك قاس للأخلاق والمسالك، فإن اللهفة على تأمين المعايش قد تلجىء أصحابها إلى الختل والتلون أو الكذب والحيف.
وربما وجدت الضعاف يتملقون الأقوياء، والصغار يذوبون في الكبراء.
والإسلام يرفض أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة لهذه الآثام كلها،
 ومن ثم فهو يطلب بصرامة أن يكون الارتزاق من أبواب الحلال المحض، 
وألا يلجأ مسلم أبدا إلى غش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء: 
الوسائل التي حددها الشارع هي وحدها الأسباب الشريفة التي يقوم بها ثم يقف عندها مرتقبا فى ثقة ما تتمخض عنه من نتائج.
والتزام التقوى في معالجة هذه الشئون وأمثالها هو منطق الإسلام، وهو منطق منتج لا عقيم قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
والتقوى هنا رعاية الشرف في التكسب، والاستقامة في الطلب، فإن إلحاح الرغبة في طلب الكفاف أو في طلب الثراء قد يدفع إلى اللؤم والعوج.
وحجزا للنفوس عن هذه المهاوي يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته " .
وغرسا لفضيلة التوكل عند طلب الرزق روى الغزالي في الإحياء هذه الآثار.
قرأ الخواص قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا)
فقال: ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى.
وقيل لبعض العلماء في منامه: من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته، 
وقال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتبه الله لك.
وقال يحيى بن معاذ: في وجود العبد الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد.
قال إبراهيم بن أدهم: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال لي: ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمنى؟
وقال هرم بن حيان لأويس القرنى: أين تأمرنى أن أكون؟ فأومأ إلى الشام.
وقال هرم: كيف المعيشة؟ قال أويس : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.
وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا، نسأل الله تعالى حسن الأدب.
وهذه الآثار لا تعنى إلا رفع كبوات البؤس أو زجر نزوات الطمع، فإن البشر فى هذه الميادين يفتقرون إلى علاج شديد.
لقد رأينا ذل الفقراء وشره الأغنياء وراء المال يفعل الدواهي 
فلا جرم أن ترد الآثار تلطم هذا التطرف كيما ترده إلى سواء السبيل.
ولكن هذه التعابير التي يقصد بها إشاعة الثقة في أرجاء النفس الإنسانية حتى لا تضرع وتجزع انقلبت دلالاتها في بعض النفوس ففهمت منها ما لا يجوز أن يفهم، فهمت منها أن السعي باطل، وأن السكون دين، 
وفي ذلك يقول رجل مهزوم أطاش العجز لبه: والسعي للرزق ـ والأرزاق قد قسمت ـ بغي ألا إن بغي المرء يصرعه .
ويقول آخر: حرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين .
_محمد الغزالي _
_الجانب العاطفي من الإسلام _

الخميس، 18 أبريل 2024

أكسل شعوب الأرض..!

 

أكسل شعوب الأرض..!
عبدالله المغلوث
شاركت مع ثلاثة سعوديين في ماراثون للدراجات الهوائية في 26 سبتمبر الماضي في لندن، تساقطنا الواحد تلو الآخر، كنت أول المنسحبين من السباق بعد مضي نحو ساعتين، تلاني آخر بعد أقل من 5 دقائق، ثالثنا صمد ربع ساعة أخرى قبل أن يلحقنا بالسقوط.
أصبنا بخيبة أمل كبيرة بعد أن شاهدنا متسابقين في أعمار أجدادنا وجداتنا يواصلون السباق في حين لم نستطع أن نكمل ربعه، اكتشفنا حقا أن الشيخوخة ليست في الأعمار بل في العقول.
مئات من مختلف الأعمار والجنسيات والمشارب والأحجام تابعوا الماراثون لساعات تعلوهم سعادة بالغة، في حين غمرتنا علامات الإعياء والإرهاق فور أن امتطينا صهوة دراجاتنا. خرجنا من السباق ونحن عاجزون عن القيام بأي شيء سوى التذمر والرغبة في الاسترخاء، أو بمعنى أدق العودة إلى الاسترخاء والخمول الذي نبرع فيه نحن العرب أكثر من غيرنا، فنحن نعجز أن نقف في الطوابير ما طال منها وما قصر ونبحث بأي وسيلة عن طريقة تخلصنا منها عن طريق واسطة قريب أو نسيب أو حبيب، المهم أن نتخلص منها.
سياراتنا يجب أن تقف أمام الدوائر الحكومية التي نراجعها أو أمام البوابات الرئيسة للمجمعات التجارية، لا يمكن أن نقبل أن نركنها بعيدا ونمشي مسافة قصيرة، وإذا لم نجد مكانا قريبا لمركباتنا فلا بأس أن نسطو على مواقف ذوي الاحتياجات الخاصة، هل شاهدتم في حياتكم أحدا حصل على مخالفة مرورية في وطننا لأنه أوقف سيارته في مواقف مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة؟
إننا لا نصعد السلالم بل نفضل المصاعد الكهربائية حتى لو كان هدفنا الطابق الثاني.
في العمارة المكونة من أربعة أدوار التي أسكنها في بريطانيا تعطل المصعد لمدة أسبوع دون أن يصلحه أحد، وعندما هاتفت إدارة العمارة أخبروني أنني الوحيد الذي أبلغ عن العطل، جاء الفني فورا لإصلاحه. شعرت لوهلة أنني أكسل شخص في بريطانيا، فالحياة لم تتعطل في العمارة لأن المصعد لا يعمل، تعطلت في داخلي فقط.
هناك سلالم هي خيارهم الأول بينما المصعد هو خيارنا الأول.
نحن نبحث عن أي شيء يقلنا بسرعة إلى أهدافنا دون أن نستشعر قيمة الصعود خطوة خطوة، إنه شعور عظيم.
النجاح الذي يحصده الغرب والشرق من حولنا نتيجة طبيعية لطبيعة حياة الفرد هناك، فهم يصعدون السلالم، ويمشون باستمرار، ويقضون حوائجهم بأنفسهم مهما كان حجم انشغالهم ومهما بلغت ثرواتهم، نحن لا نقوم بذلك، نستقدم من يقوم بإعداد الشاي والقهوة لنا، نستقدم من يعبئ سياراتنا بالوقود، نستقدم من يقوم بالعناية بأطفالنا، فمن الطبيعي جدا ألا نستطيع مجاراتهم في ماراثون أو أي سباق آخر سواء كان رياضيا أو علميا أو ثقافيا أو فكريا، فقد تبلدت عضلاتنا وأعصابنا وعقولنا من قلة الاستعمال.
معظمنا يفتقر اللياقة المطلوبة لحصد الإنجازات، فنبدو كهولا منذ نعومة أظفارنا، تجاعيدنا لا تبدو في وجوهنا وأطرافنا، لكن تبدو في أعماقنا وفي سلوكياتنا وتصرفاتنا، في ردود أفعالنا البطيئة، البطيئة جدا.
نحن نولد شيوخا محشوين بعادات تجعلنا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.
يقول الفيلسوف الإنجليزي، فرنسيس بيكون: "تكمن الشيخوخة في الروح أكثر مما تكمن في الجسد"
فمتى ما تحررت أرواحنا من عاداتنا السلبية ربما نستطيع أن نعود شبابا.
لا يجب أن نفرح كثيرا كون الشباب يشكلون الشريحة الأكبر في مجتمعاتنا، فهؤلاء الشباب ليسوا شبابا كما نعتقد، إنهم كهول يرتدون أقنعة، إن الشباب هناك، في أمريكا وأوروبا وشرق آسيا يعملون حتى آخر لحظة، يمشون حتى آخر لحظة، يضحكون حتى آخر لحظة.
جاري البريطاني باول هاركير (82 عاما) امتهن بعد أن تقاعد عن التدريس مساعدة الأطفال على عبور خطوط المشاة أثناء توجههم إلى مدارسهم، أجده في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحا حتى التاسعة والنصف صباحا على رأس الشارع، يحمل لافتة (قف) ومرتديا سترة صفراء لامعة يوقف السيارات بابتسامة، ويعبر مع الأطفال برشاقة ساحرة، كم من شبابنا وليس من (شيابنا) يقوم بهذه الوظيفة العظيمة؟
يقال: إن الشباب هم عماد الأمة، اكتشفنا الأمة، لكن لم نجد الشباب، فلنعثر عليهم معا.

الأربعاء، 17 أبريل 2024

الإسهامات الفكرية في مجال النقد الذاتي

 

منقول من مفكرة الإسلام

لا يماري أحد من أهل الرأي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فيما قدمته الصحوة الإسلامية في بلادنا العربية في العصر الحديث من ثقافة متعددة الجوانب والأطياف والمجالات والأبعاد، أضافت بها الكثير من الانضباط والأصالة للساحة الفكرية العربية التي كادت العلمانية أن تختطفها لحسابها.

وقد مثل العطاء الثقافي الإسلامي قيمة مضافة لواقعنا المعاصر، وكان كابحاً لتيار العلمنة والتغريب، ولولاه لتغير وجه الثقافة العربية تماماً.

ولكن، ورغم ذلك، فإن ثقافة الحركة الإسلامية تعاني أشد المعاناة من ضآلة وضعف الإسهامات الفكرية في مجال النقد الذاتي، أي أن تنقد الصحوة نفسها بنفسها، عن طريق قيام أفراد منها بتقديم رؤى ثقافية وفكرية تنطوي على نقد للجوانب السياسية والثقافية والفكرية للصحوة، ليس من أجل التشويه والإساءة، وإنما من أجل محاولة تدارك هذه الأخطاء والعيوب، وإصلاحها، حتى تبقى الصحوة وثقافتها عند الظن بها، فاعلة ومؤثرة وناجحة وقائدة لمجتمعاتها باستمرار.

وفلسفة النقد الذاتي تفرق بين الإسلام كدين وشريعة، وبين الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي والعمل السياسي الإسلامي. فالإسلام كدين ثابت لا يتغير ولا يجوز عليه النقد من أبنائه والمؤمنين به، والسبب في ذلك أن القرآن وحي معصوم لا يأتيه الباطل أبدًا، وإنما هو كلام الله إلى البشر أجمعين، الذي لن يأتي بعده كلام إلهي آخر.

كما أن السنة النبوية الصحيحة (أي التي صح ثبوتها ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا يمكن نقدها هي الأخرى لأنها من عند الله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه).

لكن الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي يجوز في حقهما النقد، لأنهما قائمان على فهم آحاد المسلمين للإسلام، حيث يمكن لهذا الفهم أن يكون صحيحاً أو خاطئاً، فهو في النهاية فكر بشري غير معصوم.

وكذلك فإن العطاء السياسي لجماعات المسلمين السياسية، يحتمل الخطأ والصواب، لأنه ناتج عن تجربة بشرية تحاول العمل بروح الإسلام على الأرض، من خلال تطبيق برامج ورؤى سياسية واقتصادية واجتماعية.

ودلت التجارب على أن الجماعات السياسية المسلمة تخطئ وتصيب في عملها السياسي، وبالتالي فهي ليست محصنة ضد النقد، بل قد يكون النقد هو دليلها لتطوير نفسها، وتعديل أخطائها، وبالتالي مواجهة خصومها بكفاءة أكبر.

 

النقد سمة المجتمعات المتحضرة 

وهكذا، فإن النقد الذاتي ظاهرة صحية في المؤسسات والمجتمعات المتحضرة، بل هو جزء أساسي من عملية التطوير والتقويم المستمر، وطالما كان الأمر كذلك، فما أحوج الحركة الإسلامية إلى ثقافة النقد الذاتي، من أجل ترشيدها، وتخليصها من أمراضها. فالحركة الإسلامية محاصرة، محلياً وإقليمياً ودولياً، وتوجه إليها سهام النقد ليل نهار، قاصدة تشويهها أمام شعوبها وأمام العالم،

 ومن شأن النقد الذاتي لها أن يبصرها بعيوبها، ويشير لها إلى الطريق الصحيح، من أجل أن تلتحم أكثر بشعوبها، ومن أجل أن تنجو من المؤامرات والمكائد.

وطالما أن السياسة هي محصلة الثقافة والفكر، بمعنى أن الإنسان يقتنع أولاً بالاتجاه الفكري، ثم يختار تأسيساً عليه الاتجاه الثقافي والسياسي، فإن النقد الذاتي في الحركة الإسلامية المعاصرة ينبغي أن يتوجه في الأساس ناحية الاتجاه الفكري والثقافي، ثم بعد ذلك يتوجه للحركة والسياسة.

وقد مارس الفكر العربي الحديث النقد الذاتي في اللحظات العصيبة والمنعطفات التاريخية الكبرى؛ حيث بدأت هذه العملية في الفكر العربي الحديث في لحظة الاحتكاك مع الاستعمار، الذي جاء مدججا بالمعرفة والعلم والتقدم الحضاري، الأمر الذي دفع أصحاب الفكر والعقل والعلم إلى عملية صارمة من النقد الذاتي الحضاري، عندما وجدوا أن الأمة تواجه حملة نابليون، بمدافعها وبوارجها الحديثة التي تقف في عرض البحر ثم تحول مدننا إلى لهب وتراب وخراب، تواجه ذلك بأسلحة ووسائل بدائية، وبالصيحة الشهيرة " يا خفي الألطاف، نجنا مما نخاف".

منذ هذه اللحظة بدأ نفر من مفكري الأمة ومثقفيها في نقد الذات العربية وأمراضها التي أوصلتنا إلى هذه الدرجة من الضعف والهوان، وقد أسهمت هذه الكتابات إسهامات مهمة في مجال إدراك الأمة لحقيقة مأزقها التاريخي والحضاري، ومعرفة نقاط الضعف التي أدت بها إلى الوقوع في وهدة الانحطاط والتخلف الحضاري.

صحيح أن الاستجابات السياسية لم تكن على المستوى المطلوب، إلا أن النقد الذاتي قد أتى أكله وأنار الطريق وحدد المشكلة ووصف الدواء.

ونحن، أبناء الحركة الإسلامية، علينا أن نهتم بهذا الجانب، على مستوى العمل الإسلامي والفكر الإسلامي، كما اهتم به الكتاب العرب، على المستوى القومي، لحظة تعرض الأمة للاحتلال الغربي الصليبي.

وهناك حقيقة يجب التأكيد عليها وهي أنه ليست الصحوة الإسلامية فقط هي التي تعاني من غياب مناهج النقد الذاتي، فحياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية تعاني من غياب النقد الذاتي، الذي في غيابه حدثت كل مشكلاتنا المعاصرة. 

فالنقد الذاتي يعني التطور إلى الأفضل، والصحوة الإسلامية هي جزء من المجتمع الذي نعيش فيه، وتتأثر بما هو سائد فيه من تقاليد وأفكار، ولو أنه يقع على عاتقها فعلا أن تبدأ بنفسها وتقيم مناهج النقد الذاتي وتطبقها على نفسها ثم يشع ذلك على المجتمع فيأخذ منها هذه المناهج.

 وكثير من زعماء الحركات الإسلامية يعرفون جيداً عيوب حركاتهم ومع ذلك يتغاضون عنها ويهملون إصلاحها، وكان الأحرى بهم أن يمتلكوا الشجاعة والصدق اللذان يأمرهم الإسلام بهما.

إثراء للعمل الإسلامي

وإذا كنا ننبه إلى ضآلة الكتابات في مجال النقد الذاتي للحركة الإسلامية، على مستوى الفكر والحركة، فإن ذلك لا يعني عدم وجودها أساساً، هذه الكتابات موجودة ولكنها قليلة وتكاد تكون نادرة.

فقد جرت العديد من المراجعات في السنوات الماضية، خاصة مع ازدهار العمل الإسلامي ووصوله إلى مساحات جديدة وأفاق متعددة، وابتلائه بالعديد من الأمراض والأخطاء. وهذه المحاولات الصحية في نقد الحركات الإسلامية وترشيد مسارها، إذا افترضنا فيها حسن القصد والتوجه، فإنها تأتي لتثري العمل الإسلامي وتقدم له إشارات تسوقه إلى الطريق الصحيح، وتضع له كوابح تمنعه من الانجرار إلى الأخطاء الكبرى

 خاصة إذا كان هذا النقد صادرا من أهل الفكر الإسلامي المعروفين بالثقافة والخبرة والمعرفة، والذين لا ينطلقون من منطلقات شخصية خاصة، أو من حسابات ضيقة.

لكن الملاحظ أن الحركة الإسلامية، بفصائلها المختلفة، تضيق بالنقد الذاتي، ولا تتحمله، وتشكك في مصداقيته وجدواه. 

وكثير من الإسلاميين ينطلقون من أن العمل الإسلامي محصن دينياً وأخلاقياً وواقعياً ضد الخطأ والانحراف، وبالتالي فليست هناك جدوى من نقده. 

ومنهم من يعتقد أن من يوجه أي نقد للحركة الإسلامية، في أي مستوى من مستوياتها، إنما هو عدو لهذه الحركة وكاره لها ومتآمر ضدها، ويستبعدون تماماً أن يكون هناك مثقفون إسلاميون، محبون للحركة الإسلامية، وفي نفس الوقت ينتقدونها.

ونسي هؤلاء أن الحركة التي تضيق بالنقد والمراجعات، وتتستر على الأخطاء، بحجة سلامة الصف وحماية أسرار التنظيم، وعدم فسح المجال للأعداء للتصيد للحركة،.. الخ من الحجج، هي حركة تربي الفساد وتنميه في مؤسساتها وسلوكها حتى يقضي عليها

 وبالتالي فلا غرابة أن تقوم عند ذلك بلفظ المخلصين أو الناصحين من صفوفها بحجة الخروج على الجماعة والحركة، وإفشاء أسرار التنظيم إلى غير ذلك من الحجج التي يحمى فيها الخطأ ويصان من خلالها الفساد.

 

تقديم السياسي على الثقافي والفكري

إن المتابع لتاريخ وخبرة الصحوة الإسلامية المعاصرة، سواء في مرحلتها الأولى في عشرينات القرن الماضي مع ظهور ...، أو في مرحلتها الثانية في سبعينات القرن الماضي أيضاً وفي أعقاب هزيمة يونيه 1967، يجد أن هذه الحركة قد ركزت على الجوانب الأيديولوجية والسياسية، على حساب التربية الاجتماعية، وأيضاً على حساب التربية الثقافية والفكرية.

الحركة الإسلامية كانت معنية أساساً بالتنظيم والصراع السياسي، فلم تعن بالتربية الاجتماعية قدر عنايتها بالتربية الحركية. فالمناهج التربوية في الحركة الإسلامية كانت تستهدف تربية وتنشئة الشاب المنتمي والمطيع والمنفذ والموالي ولاءً مطلقاً لقيادته التنظيمية والحركية، وتهمل في المقابل، ومن غير قصد ونية مسبقة، التواصل الاجتماعي والإعداد الفكري والثقافي لقاعدتها من شباب الحركة.

وكانت النتيجة الطبيعة لهذه المناهج غير المتوازنة أن أصبحت القاعدة العريضة من شباب الحركة الإسلامية يجيدون العمل الحركي وما يتطلبه من قدرة على التنفيذ والوفاء بالتكاليف الحركية، ولكنهم في نفس الوقت أصبحوا منتظرين للأوامر والتعليمات، ويفتقدون للقدرة على المبادرة على أي مستوى من المستويات، حتى على مستوى تكوين رأيهم في القضايا اليومية العامة.

وهكذا فقدت الحركة الإسلامية المبدعين أصحاب الفكر الذكي، ومع الوقت تحول التنظيم إلى آلة من الممكن أن يتحكم في توجيهها إنسان متواضع الثقافة والرؤية والأفق، ولأن الأمور داخل التنظيم تركز على الطاعة والولاء والالتزام والفدائية ونكران الذات، وليس على قيم التواصل مع الأمة والمجتمع الأكبر، من حقوق وواجبات وأدوار، فقد تحول العمل الإسلامي إلى وظيفة وروتين يتقلده الأكثر طاعة وولاءً، وليس الأكثر ذكاءً ووعياً وعطاءً، كما زاد الوعي الحركي والتنظيمي والسياسي لشباب الحركة، في الوقت الذي قلت فيه خبراتهم الاجتماعية، وعمقهم الثقافي والفكري.

وهكذا أصبح النقد الذاتي في الحركة الإسلامية شديد الأهمية من أجل الخروج من إطار العقل التنظيمي المحدود إلى العقل الإصلاحي، الذي يهتم بإصلاح الأمة والشعوب والعمل التنموي والأهلي بعيداً عن الصراع مع السلطة التي استنزفت جهود الحركات والمجتمعات الإسلامية.

وبات على النقد الذاتي الإسلامي التأكيد على دور وأهمية مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني والعمل الشعبي التنظيمي الذي يسعى إلى النهوض بالمجتمع وأدواته و ترقيته، بدلا من هدر الجهود في مناكفة السلطات، وخاصة بعد أن تغلب الجانب السياسي على الجوانب الإصلاحية الأخرى، وانشغال فصائل الحركة عن الأهداف التي قامت أصلا لتحقيقها بشؤون مرتبطة بالحراك السياسي ومصالح نخب معينة، بدلا من الوظيفة الاجتماعية النهضوية لها.

كما ينبغي على مناهج النقد الذاتي ضرورة التنبيه على تخليص الحركة الإسلامية من ظواهر سلبية وخطيرة مثل المحسوبية والشللية والنخب المتصارعة على مصالح خاصة بحجج فكرية أو سياسية.

 

حتى لا يصبح التنظيم غاية ( الشرك الأصغر عبادة التنظيم )


إن من الظواهر السلبية في الحركة الإسلامية، والتي ينبغي لمناهج النقد الذاتي الالتفات إليها والاهتمام بها، الاعتقاد السائد لدى قطاعات واسعة من الحركة الإسلامية أن التنظيم غاية في حد ذاته، وأن الإسلام لن يعود لسابق مجده إلا من خلال التنظيم. 

وسادت ثقافة التنظيم والاهتمام به على ما عداها من القضايا، وباتت خدمة التنظيم هي الهدف الأساسي، وليس خدمة المجتمع وعوام الناس، وأصبح فهم ووعي شباب الفصائل الإسلامية  للقضايا العامة وتفاعلهم معها يغلب عليه العمومية والانطباعية والكسل في التتبع الثقافي للقضية العامة، والرومانسية الحالمة البعيدة عن الواقع، 

وذلك لأن الوعي بالقضية العامة يقررها له التنظيم، وصاحبنا يريح نفسه ويعتمد على الثقافة التي يتيحها له التنظيم.

وهكذا فإن التنظيم أوجد في المنتمين إليه العقلية شبه السطحية وغير العميقة، فهو لا يهتم ولا يدرك إلا المباشر، ولذا نجده لا يتفاعل مع القضية العامة إلا بمقدار ما يكون له صلة بما يقوله التنظيم أو يمارسه. 

وهذا يفسر ضعف ثقافة أعضاء الحركات الإسلامية في التفرقة والتمييز بين ما يمكن أن يؤثر على الحركة الإسلامية مباشرة وما قد يؤثر عليها أكثر ولكن بطريق غير مباشر.

وأعداء الحركة الإسلامية وكارهوها يعملون جاهدين على أن تظل الحركة سطحية الثقافة معتمدة على الآليات المباشرة في الفهم والحركة، ولذلك فهم يعملون على توفير فرص التعبير الديني الظاهر والكثيف في وسائل الإعلام، وفي نفس الوقت يبذلون كل الجهود الممكنة لمنع الحركة الإسلامية من اكتساب الخبرة السياسية والاجتماعية الناضجة، والتي تمكن الحركة من أن تصبح مستقبلاً بديلاً كفؤاً للتيارات العلمانية سياسية كانت أم ثقافية وفكرية.

الجمعة، 22 مارس 2024

اسكات الضمير العالم عادل

 

إسكات الضمير


يُسكِتون ضمائرهم بصبغ أخطائهم بالشريعة، ويتحايلون على الضمير أو ما بقي منه كي لا يلوم ولا يمانع الاستمرار في الخديعة!

يحزم حقائبه إلى ( أندونيسيا ) في عطلة قصيرة جدا، هو ينوي الاستمتاع بامرأة ، لكن ضميره لا يطاوعه فيحتاج أن يحتال عليه ليسكته فيوهمه أن ما يفعله شرعي قد أفتى به العلماء!

يقول لضميره: أنت ذاهب للزواج على سنة الله ورسوله، وإن كنت تنوي الطلاق بعد يومين أو ثلاثة فالزواج صحيح، ولو كان بغير ولي فهذا قول أبي حنيفة، ولو لم يدر من هي، ولا يسأل عنها ولا عن أخلاقها ولا عن أهلها، بل مجرد رؤيتها في صالة العرض تكفي، ولو كان يعلم علما شبه يقيني أنها كانت مع غيره قبل مدة ، بنفس الصيغة، وبنفس الأعذار، ولم تزل (عدتها)!

يسأله ما تبقى من الضمير: أليست الأعمال بالنيات؟

فيسكته بأن الشروط والأركان تامة فالعقد صحيح.

يقول الضمير : حسنا ، والخديعة ؟ والنية ؟ ألا تؤثران ؟

يسكته مرة أخرى : لا ، لا أثر لهما فهما في القلب ، لم نتفق على مدة فيكون متعة ، فلا تكن ( حنبليا ) فالعبرة بصحة العقد لا بسلامة النية .

فيسأله الضمير : أليس لو تزوجت امرأة بنية تحليلها لزوجها المطلِق ثلاثا لم يصح ، إذ لا بد من نكاح تام بنية الزواج الدائم ، فكيف أثرت النية هناك ولم تؤثر هنا ؟

فيسكته مرة أخرى : نحن نعمل بالفتوى ، فإن كانت خطأ ففي ذمة المفتي .

حسنا ، يقول الضمير : فهل ترضاه لأختك ، أو لابنتك ؟

يتلعثم ويتمتم ، ثم يلهمه شيطانه الجواب ، يا أيها الضمير المتبقي فيّ ، لهذا جئت إلى هنا ، فأنا لم أفعله في النساء العفيفات في بلادي الطاهرة ، إنما فعلته في قوم فقراء يحتاجون المال فأعطيهم قليلا منه يرضيهم ويغنيهم !

يحتار الضمير ويتساءل : كأني كنت أسمعك تحكي أن المسلمين إخوة ، وأن أعراضهم مصونة ، وأن لا فرق بين عربي وعجمي ، وأن ، وأن !

فيجيبه بكل ارتياح : الناس تختلف ، ولا بد من إنزال الناس منازلهم !

هذه حالة من حالات إسكات الضمير ، وما أكثرها في نواح شتى من حياتنا المصبوغة دينيا ، حيث يسكت ضميره ، أو ما تبقى من ضميره حين يريد أن يرتشي ، فيسميها بغير اسمها ، فهي إكرامية ، عمولة ، أتعاب ، وإن لم تأخذها أنت أخذها غيرك ، والمهم أن تتقن العمل ، فإن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه - هو يحفظ الأحاديث التي تعينه على خداع ضميره ، وإسكاته - فأنت لن تغش ، ولكن ستتقاضى شيئا من تحت الطاولة ثمنا لأتعابك ، وأنت لن تأخذ إلا من بيت مال المسلمين ، ولك فيه حق كما لبقية المسلمين ! يتناسى أن الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس !

يسكت ضميره وهو يقتل المسلمين يوهمه أنه يجاهد ، وينصر الدين ، ويعلي راية الإسلام ، وأنه لو مات مات شهيدًا ، وإن عاش عاش حميدًا ، وأن هؤلاء المسلمين سيبعثون على نياتهم ، وهو إنما أراد تطهير البلاد من الكفرة الأنجاس !

يسكت ضميره وهو يشتم هذا ويسب ذاك ، ويتهجم على هذا ، ويقطر لسانه فحش قول ، وسوء أدب ، بحجة الغيرة على الدين ، والمحافظة على الأخلاق ، والفضيلة ! ولا أدري أي أخلاق بقيت لمن سلط لسانه في أعراض المسلمين ؟ يتناسى أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده !

يسكت الضمير كي يسلب زوجه ميراثها ويتسلط على أموالها ، حجته المحافظة عليه ، وتنميته ، وأنها لو استطاعت لأنفقته في يوم أو شهر ، فلينفقه هو على نفسه وشهواته ، خير من أن تنفقه هي على مكياجها وفساتينها .

يسكت ضميره كي يتجاوز حقه الشرعي والنظامي ، فيتعدى في الصف لأنه مشغول ، ويسرع في الطريق لأنه في مشوار مهم ، ويقف في المنعطف غير مبال بمن خلفه ، أو يقف وقوفا مزدوجا لأنه لا وقت عنده ، أما الآخرون فعلام يستعجلون ، ليس وراءهم شيء ، هم إما في طريقهم لاستراحة أو لتسوق ، فلينتظروا ، أما أنا فلا وقت عندي لانتظار .

يسكت ضميره حين يتعجب من صنيعه إذا ما وجد غيره فعل معه مثل فعله فيسب ويكاد ينزل ليضرب ، حجته أنه ذاك لم يراع النظام ، ولم يحترم حقوق الآخرين .

يتنوع إسكات الضمير بين حالة وأخرى ، وليس الغرض منها سوى إيقاف تأنيبه ، ومع مرور الزمن يعتاد الضمير على كل مخالفاته ، بل ويبدأ الضمير نفسه بإيجاد المخارج الشرعية والنظامية له ، حتى يستطيع أن ينام قرير العين ، يملك وحده حق العيش الكريم في هذه الدنيا ، وما بقية الخلق إلا لتنفيذ رغباته وتحقيقها ، فزوجه هي التي ينبغي أن تتزين له ، وولده هو الذي يجب عليه أن يبره ، وصديقه هو الذي يجب عليه أن يقف معه في الملمات ، ورئيسه هو الذي يجب أن يقدر عذره ، والناس هم الذين يجب أن يراعوا أحواله ، يحتملون غضبه ، ويتقبلون مزاحه ، ويراعون نفسيته ، ويقفون معه !

سل نفسك أيها القارئ الكريم متى احتجت أن تسكت ضميرك ؟ أعني متى كانت آخر مرة أسكت فيها ضميرك ؟ ربما كانت آخر مرة جلست فيها تغتاب أحد الناس صديقا كان أو عالما أو حاكما ، والأعذار كثيرة ، تحذير ، جرح وتعديل ، بيان وأعذار ، نصيحة ، وحدث ولا حرج ، لكن الضمير يأبى ، ويصرخ بصوت عال لن أسكت أبدا ، إنها غيبة مهما كسوتها به من لباس التدين والنصح ، بل ربما فاقت الغيبة فصارت بهتانا مبينا .

سمها ما شئت ، وجد لها كل عذر ، وخرجها على أيٍ من أبواب الفقه وأصوله ، لكنك ستجد طعم لحم أخيك الميت في داخل ضميرك يوما من الأيام ، فإن لم تجده ، وكان الضمير في صدرك قد مات ، فأعد لذلك اليوم الذي تنصب فيه الموازين عدته ، وهناك تبلى السرائر ، ويحصل ما في الصدور ، حينها ستكتشف أنت وضميرك أنكما كنتما في غفلة ، وفي غرور

الجمعة، 19 يناير 2024

شكوى مظلوم قهرا

 أحد الشعراء ناله ظلم شنيع على يد بعض القضاة  فقال شعرا عجيبا 

 

كُلكم قاتـلٌ ولا استثنـاءُ والقتيلُ القضاءُ والشـرفاءُ


سقطت رايةُ الحسينِ وعادت من جديدٍ بثوبـها كـربلاءُ


مات عصرُ الفاروقِ ، لم تبقَ منهُ غير ذكرى سُطورها بيضاءُ


واعتلتْ عُصبةُ اللصوصِ وماتتْ في السجونِ العـدالةُ العذراءُ


كُلكم من سقوطها مستفيدٌ كلكم مذنبٌ .. ولا أبرياءُ


أكبرُ المجرمين أنتمْ ولـكن لا وجوهٌ لكم ولا أسـماءُ


أيها المرتَشونَ من أين جئتمْ ألغيرِ التُقاةِ كـان القـضاء؟


تدَّعونَ التُقى وأنتمْ ضِباعٌ أَكَلتنا .. فـكُلنا أشــلاء


تحتَ أنيابكم نَئنُ .. ومنكم لا فـقيرٌ نـَجا ولا أغنيـاء


فكأنـَّا وحـلٌ وأنتم زُلالٌ وكـَّأنا أرضٌ وأنتم سـماء


نحنُ أهلُ الضلالِ دوماً وأنتم عندنا المرســلونَ والأنبياء


لكُمُ الدينُ كُلهُ ولنا الشركُ فنحـنُ الخوارجُ السفـهاء


فأبونا "الحجاجُ" وابنُ "سلولٍ" وأبوكمْ "عليُّ" و "الزهـراء" !!


نحنُ من خانَ كلَّ شرعٍ ودينٍ وعلى الدينِ أنتـمُ الأمنـاء!!


كلُّ صوتٍ سـواكمُ شيطانٌ كلُّ رأيٍ عـداكمُ فـحشاء


وعروقُ الإيمانِ جفَّتْ لدينا ولديـكمْ عُـروقهُ خضراء


أيها المفسدونَ في كلِّ أرضٍ قاتل اللهُ علمكمْ ، والسماء


كم ذبحتمْ من آيةٍ وحديثٍ ولِحاكُمْ كم لطَّختها الدماء


فالدساتيرُ كالعبيدِ لديكمْ والقوانينُ في يديكمْ إِماء


وتُداجونَ ألفَ طاغٍ وطاغٍ ولهُ وحدهُ يكونُ الـولاء


ولهُ منـكمُ النفاقُ المُصفَّى والركوعُ الطويلُ والإنحناء


وتُحِلُّونَ ما يـراهُ حـلالاً فالفتاوى منكمْ ومنهُ الجزاء


وإذا قالَ حرِّمـوا حرَّمتُمْ كلَّ ما يشتهيهِ ، حتى الهواء


هو مـولاكمُ الذي تعبدوهُ فهوَ نعمَ المولى ونعمَ الرجاء!!


أيها المتُخمونَ فسقاً .. أهذا ما تقـولُ الشريعةُ السمحاء؟!


كيفَ صارَ القضاءُ عنزاً حلوباً يتسلى بحـَلْبِها من يشــاء


أَكْلُ لحمِ الخنزيرِ في عُـرفكمْ شِركٌ،وأكلُ الحقوقِ فيهِ الشفاء


وكلامُ "الصكوكِ أحلى لديكمْ من كلامِ الـذي لـهُ الأسماء


لا من الناسِ تستحونَ ولا اللهِ الذي منهُ يستـحي الأنبـياء


كلُ ظلم بنا وكـلُ فســادٍ أنتمُ الرأسُ فيـهِ والأعضـاء


فلوجهِ الدينارِ قُمتمْ وصُمتمْ فهو بـاقٍ وما سواهُ فنـاء


ولعينـيهِ كـم فَقأتُمْ عيوناً فلعينـيهِ يُستحَبُّ الدعـاء!!


ونهبتمْ من أجـلهِ البرَّ والبحرَ ومنكمْ لم تنـجُ إلا السـماء


وتُحَنونَ كـل يومٍ لِحاكُمْ كي يزولَ البياضُ والإرتخاء


والفسادُ الذي يعربدُ فيها لا خضابٌ يخفيهِ أو حِنَّاء


أيها الـُمظلمونَ .. لم يبقَ وجهٌ فيكمُ يستحي .. ولم يبق مـاء


كم يعاني من فسقكمْ أتقياءٌ ويقاسي من زيفكمْ علمـاء


هُمْ مع الله يَسهرونَ .. وأنتـمْ في جحورٍ لكمْ بناها الريـاء


  فهمُ الشمسُ إن تعالى ظلامٌ وهمُ السيفُ إن تمادى البغاء


وهم الذائدونَ عنا .. وعنهمْ ستذودُ الســماءُ والأنبياء


فَلِحـاهُمْ منيرةٌ بتُـقـاها ولحاكُــمْ تُنـيرها الظلماء


كَمْ تُحَنونها على كل وجـهٍ ليزولَ البياضُ والإرتخــاء 

والفسادُ الذي يعربدُ فيها لا خضابٌ يخفيهِ أو حِنَّـاء


أيها الغارقونَ في وحْلِ دُنياكمْ وفـيهِ جميعُـكم شهـداء


لستُ أهجوكمُ فأنتمْ ذئابٌ وكثيرٌ على الذئابِ الهجـاء