الأحد، 28 أبريل 2024

كلام مهم في حقيقة التوكل / محمد الغزالي

 

والتوكل كلمة مظلومة، إنها تعني ركون الإنسان إلى الله فيما لا طاقة له به لأنه لا يستطيع عمله.
أما ما يدخل في حدود طاقته ويملك البت في بدايته ونهايته فلا مكان للتوكل فيه.
إذا دخل الليل وهو في حجرته نهض إلى المصباح فأوقده، هذا عمله الذي يقوم به ولا ينتظر من السماء أن تنوب عنه فيه.
إذا سار في طريق التزم الجانب الأيمن، وتجنب مظان الخطر؟ وأجاب داعى الحذر، 
أما إيثار الفوضى والنزق وانتظار السلامة باسم التوكل فجهل...
إذا تقدم لمسابقة استكمل أهبة الفوز بما تفرض من كفاح ذهني وعلمي وما تتطلبه من نشاط يقرب من الغاية...
إذا سكن بيتا غلق أبوابه ليلا، وتعهد ثغراته حتى لا يجد اللصوص لهم منفذا وهكذا.
من أجل ذلك أجاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأعرابي الذي سأله: أتركها وأتوكل أم أعقلها وأتوكل ـ يعني ناقته ـ؟
 فقال: أعقلها وتوكل.
ونبه الله المجاهدين ـ إذا ضمتهم جنبات الميدان ـ أن يكون انتباههم حادا وتيقظهم بالغا (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا).
وقبل أن يأمر الله نبيه بالتوكل عليه في قوله:
(فاعبده وتوكل عليه)
قبل ذلك مباشرة قال: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون).
فالأمر بالتوكل جاء بعد إعلان عن عمل موصول وصبر طويل.
ورأى أحد الأئمة فقيرا ينطلق إلى الحج دون زاد، فسأله أين زادك؟.
فقال: أنا متوكل على الله.
فقال له: أمسافر أنت وحدك؟ قال: بل مع القافلة.
فقال له: أنت متوكل على القافلة!!.
وصدق، فهذا متأكل لا متوكل، وهذا الصنف جاهل بالإسلام، ومعرفته بالله غامضة يشوبها حمق كثير.
والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد كل الوسائل المقررة في عالم الشهادة، إيمان بالله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من واجبات.
والتوكل يجئ صدقا وسكينة في موضعه الحق، ولنضرب لذلك الأمثال.
طلب الرزق غريزة لدى الأحياء كلهم ما إن تبدو تباشير الصباح حتى يستعد الفلاحون والتجار والصناع وأصحاب الحرف للدخول في كفاح طويل أو قصير كي يحرز كل امرئ قوته وقوت أسرته.
وهذا الكفاح محك قاس للأخلاق والمسالك، فإن اللهفة على تأمين المعايش قد تلجىء أصحابها إلى الختل والتلون أو الكذب والحيف.
وربما وجدت الضعاف يتملقون الأقوياء، والصغار يذوبون في الكبراء.
والإسلام يرفض أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة لهذه الآثام كلها،
 ومن ثم فهو يطلب بصرامة أن يكون الارتزاق من أبواب الحلال المحض، 
وألا يلجأ مسلم أبدا إلى غش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء: 
الوسائل التي حددها الشارع هي وحدها الأسباب الشريفة التي يقوم بها ثم يقف عندها مرتقبا فى ثقة ما تتمخض عنه من نتائج.
والتزام التقوى في معالجة هذه الشئون وأمثالها هو منطق الإسلام، وهو منطق منتج لا عقيم قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
والتقوى هنا رعاية الشرف في التكسب، والاستقامة في الطلب، فإن إلحاح الرغبة في طلب الكفاف أو في طلب الثراء قد يدفع إلى اللؤم والعوج.
وحجزا للنفوس عن هذه المهاوي يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته " .
وغرسا لفضيلة التوكل عند طلب الرزق روى الغزالي في الإحياء هذه الآثار.
قرأ الخواص قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا)
فقال: ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى.
وقيل لبعض العلماء في منامه: من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته، 
وقال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتبه الله لك.
وقال يحيى بن معاذ: في وجود العبد الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد.
قال إبراهيم بن أدهم: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال لي: ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمنى؟
وقال هرم بن حيان لأويس القرنى: أين تأمرنى أن أكون؟ فأومأ إلى الشام.
وقال هرم: كيف المعيشة؟ قال أويس : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.
وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا، نسأل الله تعالى حسن الأدب.
وهذه الآثار لا تعنى إلا رفع كبوات البؤس أو زجر نزوات الطمع، فإن البشر فى هذه الميادين يفتقرون إلى علاج شديد.
لقد رأينا ذل الفقراء وشره الأغنياء وراء المال يفعل الدواهي 
فلا جرم أن ترد الآثار تلطم هذا التطرف كيما ترده إلى سواء السبيل.
ولكن هذه التعابير التي يقصد بها إشاعة الثقة في أرجاء النفس الإنسانية حتى لا تضرع وتجزع انقلبت دلالاتها في بعض النفوس ففهمت منها ما لا يجوز أن يفهم، فهمت منها أن السعي باطل، وأن السكون دين، 
وفي ذلك يقول رجل مهزوم أطاش العجز لبه: والسعي للرزق ـ والأرزاق قد قسمت ـ بغي ألا إن بغي المرء يصرعه .
ويقول آخر: حرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين .
_محمد الغزالي _
_الجانب العاطفي من الإسلام _

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية