الأربعاء، 17 أبريل 2024

الإسهامات الفكرية في مجال النقد الذاتي

 

منقول من مفكرة الإسلام

لا يماري أحد من أهل الرأي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فيما قدمته الصحوة الإسلامية في بلادنا العربية في العصر الحديث من ثقافة متعددة الجوانب والأطياف والمجالات والأبعاد، أضافت بها الكثير من الانضباط والأصالة للساحة الفكرية العربية التي كادت العلمانية أن تختطفها لحسابها.

وقد مثل العطاء الثقافي الإسلامي قيمة مضافة لواقعنا المعاصر، وكان كابحاً لتيار العلمنة والتغريب، ولولاه لتغير وجه الثقافة العربية تماماً.

ولكن، ورغم ذلك، فإن ثقافة الحركة الإسلامية تعاني أشد المعاناة من ضآلة وضعف الإسهامات الفكرية في مجال النقد الذاتي، أي أن تنقد الصحوة نفسها بنفسها، عن طريق قيام أفراد منها بتقديم رؤى ثقافية وفكرية تنطوي على نقد للجوانب السياسية والثقافية والفكرية للصحوة، ليس من أجل التشويه والإساءة، وإنما من أجل محاولة تدارك هذه الأخطاء والعيوب، وإصلاحها، حتى تبقى الصحوة وثقافتها عند الظن بها، فاعلة ومؤثرة وناجحة وقائدة لمجتمعاتها باستمرار.

وفلسفة النقد الذاتي تفرق بين الإسلام كدين وشريعة، وبين الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي والعمل السياسي الإسلامي. فالإسلام كدين ثابت لا يتغير ولا يجوز عليه النقد من أبنائه والمؤمنين به، والسبب في ذلك أن القرآن وحي معصوم لا يأتيه الباطل أبدًا، وإنما هو كلام الله إلى البشر أجمعين، الذي لن يأتي بعده كلام إلهي آخر.

كما أن السنة النبوية الصحيحة (أي التي صح ثبوتها ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا يمكن نقدها هي الأخرى لأنها من عند الله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه).

لكن الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي يجوز في حقهما النقد، لأنهما قائمان على فهم آحاد المسلمين للإسلام، حيث يمكن لهذا الفهم أن يكون صحيحاً أو خاطئاً، فهو في النهاية فكر بشري غير معصوم.

وكذلك فإن العطاء السياسي لجماعات المسلمين السياسية، يحتمل الخطأ والصواب، لأنه ناتج عن تجربة بشرية تحاول العمل بروح الإسلام على الأرض، من خلال تطبيق برامج ورؤى سياسية واقتصادية واجتماعية.

ودلت التجارب على أن الجماعات السياسية المسلمة تخطئ وتصيب في عملها السياسي، وبالتالي فهي ليست محصنة ضد النقد، بل قد يكون النقد هو دليلها لتطوير نفسها، وتعديل أخطائها، وبالتالي مواجهة خصومها بكفاءة أكبر.

 

النقد سمة المجتمعات المتحضرة 

وهكذا، فإن النقد الذاتي ظاهرة صحية في المؤسسات والمجتمعات المتحضرة، بل هو جزء أساسي من عملية التطوير والتقويم المستمر، وطالما كان الأمر كذلك، فما أحوج الحركة الإسلامية إلى ثقافة النقد الذاتي، من أجل ترشيدها، وتخليصها من أمراضها. فالحركة الإسلامية محاصرة، محلياً وإقليمياً ودولياً، وتوجه إليها سهام النقد ليل نهار، قاصدة تشويهها أمام شعوبها وأمام العالم،

 ومن شأن النقد الذاتي لها أن يبصرها بعيوبها، ويشير لها إلى الطريق الصحيح، من أجل أن تلتحم أكثر بشعوبها، ومن أجل أن تنجو من المؤامرات والمكائد.

وطالما أن السياسة هي محصلة الثقافة والفكر، بمعنى أن الإنسان يقتنع أولاً بالاتجاه الفكري، ثم يختار تأسيساً عليه الاتجاه الثقافي والسياسي، فإن النقد الذاتي في الحركة الإسلامية المعاصرة ينبغي أن يتوجه في الأساس ناحية الاتجاه الفكري والثقافي، ثم بعد ذلك يتوجه للحركة والسياسة.

وقد مارس الفكر العربي الحديث النقد الذاتي في اللحظات العصيبة والمنعطفات التاريخية الكبرى؛ حيث بدأت هذه العملية في الفكر العربي الحديث في لحظة الاحتكاك مع الاستعمار، الذي جاء مدججا بالمعرفة والعلم والتقدم الحضاري، الأمر الذي دفع أصحاب الفكر والعقل والعلم إلى عملية صارمة من النقد الذاتي الحضاري، عندما وجدوا أن الأمة تواجه حملة نابليون، بمدافعها وبوارجها الحديثة التي تقف في عرض البحر ثم تحول مدننا إلى لهب وتراب وخراب، تواجه ذلك بأسلحة ووسائل بدائية، وبالصيحة الشهيرة " يا خفي الألطاف، نجنا مما نخاف".

منذ هذه اللحظة بدأ نفر من مفكري الأمة ومثقفيها في نقد الذات العربية وأمراضها التي أوصلتنا إلى هذه الدرجة من الضعف والهوان، وقد أسهمت هذه الكتابات إسهامات مهمة في مجال إدراك الأمة لحقيقة مأزقها التاريخي والحضاري، ومعرفة نقاط الضعف التي أدت بها إلى الوقوع في وهدة الانحطاط والتخلف الحضاري.

صحيح أن الاستجابات السياسية لم تكن على المستوى المطلوب، إلا أن النقد الذاتي قد أتى أكله وأنار الطريق وحدد المشكلة ووصف الدواء.

ونحن، أبناء الحركة الإسلامية، علينا أن نهتم بهذا الجانب، على مستوى العمل الإسلامي والفكر الإسلامي، كما اهتم به الكتاب العرب، على المستوى القومي، لحظة تعرض الأمة للاحتلال الغربي الصليبي.

وهناك حقيقة يجب التأكيد عليها وهي أنه ليست الصحوة الإسلامية فقط هي التي تعاني من غياب مناهج النقد الذاتي، فحياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية تعاني من غياب النقد الذاتي، الذي في غيابه حدثت كل مشكلاتنا المعاصرة. 

فالنقد الذاتي يعني التطور إلى الأفضل، والصحوة الإسلامية هي جزء من المجتمع الذي نعيش فيه، وتتأثر بما هو سائد فيه من تقاليد وأفكار، ولو أنه يقع على عاتقها فعلا أن تبدأ بنفسها وتقيم مناهج النقد الذاتي وتطبقها على نفسها ثم يشع ذلك على المجتمع فيأخذ منها هذه المناهج.

 وكثير من زعماء الحركات الإسلامية يعرفون جيداً عيوب حركاتهم ومع ذلك يتغاضون عنها ويهملون إصلاحها، وكان الأحرى بهم أن يمتلكوا الشجاعة والصدق اللذان يأمرهم الإسلام بهما.

إثراء للعمل الإسلامي

وإذا كنا ننبه إلى ضآلة الكتابات في مجال النقد الذاتي للحركة الإسلامية، على مستوى الفكر والحركة، فإن ذلك لا يعني عدم وجودها أساساً، هذه الكتابات موجودة ولكنها قليلة وتكاد تكون نادرة.

فقد جرت العديد من المراجعات في السنوات الماضية، خاصة مع ازدهار العمل الإسلامي ووصوله إلى مساحات جديدة وأفاق متعددة، وابتلائه بالعديد من الأمراض والأخطاء. وهذه المحاولات الصحية في نقد الحركات الإسلامية وترشيد مسارها، إذا افترضنا فيها حسن القصد والتوجه، فإنها تأتي لتثري العمل الإسلامي وتقدم له إشارات تسوقه إلى الطريق الصحيح، وتضع له كوابح تمنعه من الانجرار إلى الأخطاء الكبرى

 خاصة إذا كان هذا النقد صادرا من أهل الفكر الإسلامي المعروفين بالثقافة والخبرة والمعرفة، والذين لا ينطلقون من منطلقات شخصية خاصة، أو من حسابات ضيقة.

لكن الملاحظ أن الحركة الإسلامية، بفصائلها المختلفة، تضيق بالنقد الذاتي، ولا تتحمله، وتشكك في مصداقيته وجدواه. 

وكثير من الإسلاميين ينطلقون من أن العمل الإسلامي محصن دينياً وأخلاقياً وواقعياً ضد الخطأ والانحراف، وبالتالي فليست هناك جدوى من نقده. 

ومنهم من يعتقد أن من يوجه أي نقد للحركة الإسلامية، في أي مستوى من مستوياتها، إنما هو عدو لهذه الحركة وكاره لها ومتآمر ضدها، ويستبعدون تماماً أن يكون هناك مثقفون إسلاميون، محبون للحركة الإسلامية، وفي نفس الوقت ينتقدونها.

ونسي هؤلاء أن الحركة التي تضيق بالنقد والمراجعات، وتتستر على الأخطاء، بحجة سلامة الصف وحماية أسرار التنظيم، وعدم فسح المجال للأعداء للتصيد للحركة،.. الخ من الحجج، هي حركة تربي الفساد وتنميه في مؤسساتها وسلوكها حتى يقضي عليها

 وبالتالي فلا غرابة أن تقوم عند ذلك بلفظ المخلصين أو الناصحين من صفوفها بحجة الخروج على الجماعة والحركة، وإفشاء أسرار التنظيم إلى غير ذلك من الحجج التي يحمى فيها الخطأ ويصان من خلالها الفساد.

 

تقديم السياسي على الثقافي والفكري

إن المتابع لتاريخ وخبرة الصحوة الإسلامية المعاصرة، سواء في مرحلتها الأولى في عشرينات القرن الماضي مع ظهور ...، أو في مرحلتها الثانية في سبعينات القرن الماضي أيضاً وفي أعقاب هزيمة يونيه 1967، يجد أن هذه الحركة قد ركزت على الجوانب الأيديولوجية والسياسية، على حساب التربية الاجتماعية، وأيضاً على حساب التربية الثقافية والفكرية.

الحركة الإسلامية كانت معنية أساساً بالتنظيم والصراع السياسي، فلم تعن بالتربية الاجتماعية قدر عنايتها بالتربية الحركية. فالمناهج التربوية في الحركة الإسلامية كانت تستهدف تربية وتنشئة الشاب المنتمي والمطيع والمنفذ والموالي ولاءً مطلقاً لقيادته التنظيمية والحركية، وتهمل في المقابل، ومن غير قصد ونية مسبقة، التواصل الاجتماعي والإعداد الفكري والثقافي لقاعدتها من شباب الحركة.

وكانت النتيجة الطبيعة لهذه المناهج غير المتوازنة أن أصبحت القاعدة العريضة من شباب الحركة الإسلامية يجيدون العمل الحركي وما يتطلبه من قدرة على التنفيذ والوفاء بالتكاليف الحركية، ولكنهم في نفس الوقت أصبحوا منتظرين للأوامر والتعليمات، ويفتقدون للقدرة على المبادرة على أي مستوى من المستويات، حتى على مستوى تكوين رأيهم في القضايا اليومية العامة.

وهكذا فقدت الحركة الإسلامية المبدعين أصحاب الفكر الذكي، ومع الوقت تحول التنظيم إلى آلة من الممكن أن يتحكم في توجيهها إنسان متواضع الثقافة والرؤية والأفق، ولأن الأمور داخل التنظيم تركز على الطاعة والولاء والالتزام والفدائية ونكران الذات، وليس على قيم التواصل مع الأمة والمجتمع الأكبر، من حقوق وواجبات وأدوار، فقد تحول العمل الإسلامي إلى وظيفة وروتين يتقلده الأكثر طاعة وولاءً، وليس الأكثر ذكاءً ووعياً وعطاءً، كما زاد الوعي الحركي والتنظيمي والسياسي لشباب الحركة، في الوقت الذي قلت فيه خبراتهم الاجتماعية، وعمقهم الثقافي والفكري.

وهكذا أصبح النقد الذاتي في الحركة الإسلامية شديد الأهمية من أجل الخروج من إطار العقل التنظيمي المحدود إلى العقل الإصلاحي، الذي يهتم بإصلاح الأمة والشعوب والعمل التنموي والأهلي بعيداً عن الصراع مع السلطة التي استنزفت جهود الحركات والمجتمعات الإسلامية.

وبات على النقد الذاتي الإسلامي التأكيد على دور وأهمية مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني والعمل الشعبي التنظيمي الذي يسعى إلى النهوض بالمجتمع وأدواته و ترقيته، بدلا من هدر الجهود في مناكفة السلطات، وخاصة بعد أن تغلب الجانب السياسي على الجوانب الإصلاحية الأخرى، وانشغال فصائل الحركة عن الأهداف التي قامت أصلا لتحقيقها بشؤون مرتبطة بالحراك السياسي ومصالح نخب معينة، بدلا من الوظيفة الاجتماعية النهضوية لها.

كما ينبغي على مناهج النقد الذاتي ضرورة التنبيه على تخليص الحركة الإسلامية من ظواهر سلبية وخطيرة مثل المحسوبية والشللية والنخب المتصارعة على مصالح خاصة بحجج فكرية أو سياسية.

 

حتى لا يصبح التنظيم غاية ( الشرك الأصغر عبادة التنظيم )


إن من الظواهر السلبية في الحركة الإسلامية، والتي ينبغي لمناهج النقد الذاتي الالتفات إليها والاهتمام بها، الاعتقاد السائد لدى قطاعات واسعة من الحركة الإسلامية أن التنظيم غاية في حد ذاته، وأن الإسلام لن يعود لسابق مجده إلا من خلال التنظيم. 

وسادت ثقافة التنظيم والاهتمام به على ما عداها من القضايا، وباتت خدمة التنظيم هي الهدف الأساسي، وليس خدمة المجتمع وعوام الناس، وأصبح فهم ووعي شباب الفصائل الإسلامية  للقضايا العامة وتفاعلهم معها يغلب عليه العمومية والانطباعية والكسل في التتبع الثقافي للقضية العامة، والرومانسية الحالمة البعيدة عن الواقع، 

وذلك لأن الوعي بالقضية العامة يقررها له التنظيم، وصاحبنا يريح نفسه ويعتمد على الثقافة التي يتيحها له التنظيم.

وهكذا فإن التنظيم أوجد في المنتمين إليه العقلية شبه السطحية وغير العميقة، فهو لا يهتم ولا يدرك إلا المباشر، ولذا نجده لا يتفاعل مع القضية العامة إلا بمقدار ما يكون له صلة بما يقوله التنظيم أو يمارسه. 

وهذا يفسر ضعف ثقافة أعضاء الحركات الإسلامية في التفرقة والتمييز بين ما يمكن أن يؤثر على الحركة الإسلامية مباشرة وما قد يؤثر عليها أكثر ولكن بطريق غير مباشر.

وأعداء الحركة الإسلامية وكارهوها يعملون جاهدين على أن تظل الحركة سطحية الثقافة معتمدة على الآليات المباشرة في الفهم والحركة، ولذلك فهم يعملون على توفير فرص التعبير الديني الظاهر والكثيف في وسائل الإعلام، وفي نفس الوقت يبذلون كل الجهود الممكنة لمنع الحركة الإسلامية من اكتساب الخبرة السياسية والاجتماعية الناضجة، والتي تمكن الحركة من أن تصبح مستقبلاً بديلاً كفؤاً للتيارات العلمانية سياسية كانت أم ثقافية وفكرية.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية