الجمعة، 13 فبراير 2015

الحركة الاسلامية في السودان الخاتمة

خاتمة

خلاصات للزمن الآتي
"إن الحق والديناميت معنا"
نلسون مانديلا

في الساعة الثالثة فجر اليوم الثلاثين من يونيو 1989 تحركت كتائب من الجيش السوداني ، يقودها ضباط إسلاميون شباب إلى المواقع الاستراتيجية في الخرطوم ، وسيطرت على القصر الرئاسي ، وقيادة الأركان والإذاعة والتلفزيون ، ثم أعلنت عن "ثورة الإنقاذ الوطني" .. لتسدل الستار على مرحلة من تاريخ السودان المعاصر ، وتلج به مرحلة جديدة ، لا تقف آثارها على السودان بلدا أو على السودانيين شعبا .
كانت ثورة الإنقاذ الوطني ناجحة من الناحية الفنية بكل المعايير : سواء في أدائها العسكري الذي تجنب إراقة الدماء ، أو مناوراتها الأمنية التي موهت بها على هويتها ، أو التفافها السياسي الذي جعل ألد أعدائها أول المعترفين بها ..
وكانت ثورة الإنقاذ الوطني حدثا تاريخيا بكل معنى الكلمة ، لأنها أول مرة في التاريخ الإسلامي المعاصر ، تتصالح القوة مع المبدإ ، والحق مع الديناميت ، فيسيران جنبا إلى جنب ، ولا يتصادمان ضمن ذلك التناقض المشؤوم الذي يمزق حياة المجتمعات الإسلامية الحديثة كل ممزق .
وكانت حدثا تاريخيا كذلك ، لأنها أول مرة يخرج فيها الإسلامي المعاصر من ذل المسكنة ، ويبرهن على أنه يفكر ويدبر ، ويخطط وينفذ ، ويستبق العدو ، ويستعد لعاديات الزمان .
لم تكن ثورة الإنقاذ الوطني في السودان صدفة عابرة ، أو ضربة حظ وافر ، بل كانت ثمرة تطور منهجي في الحركة الإسلامية السودانية على مر السنين : في وعيها العام ، وبنيتها الهيكلية ، وبنائها القيادي ، وعملها في المجتمع ، وعلاقتها بالسلطة ، وعلاقتها بالحركات الإسلامية .. وهو ما جهدت هذه الدراسة على تقديم عبرته معتصَرة ومختصَرة ، وإهدائها إلى أبناء الحركات الإسلامية في كل مكان .
لكن هل كان فجر الثلاثين من يونيو 1989 نهاية أم بداية ؟ وقتا لبدء الراحة من رهق السنين ووعثاء السفر ، أم إيذانا بتحمل المسؤولية الأكبر والتحدي الأخطر ؟ إنه الثاني بدون ريب ، وليس الأول . ذلك أن نجاح الثورة أكبر من مجرد استلام السلطة ، والنجاح الفني ليس معيارا للنجاح المبدئي ، خصوصا إذا كان أهله يحملون رسالة أخلاقية ، تهدف إلى تحرير الناس لا إلى إخضاعهم .
وفي بلد كالسودان ، متسع الأرجاء ، ممزق الأحشاء ، أنهكته الحرب الأهلية ، وهددت فيه الحاجة إنسانية الإنسان ، كان على الثورة الجديدة أن تتحمل أعباء زائدة ، ومسؤوليات أخلاقية وإنسانية جسيمة ، لم تواجه كل الثورات .
ولسنا نملك المعلومات الكافية للحكم على تجربة الإنقاذ خلال العقد الأول من حكمها ، ولذلك استبعدنا ذلك من اهتمامنا ، ومن المنهج المتبع في هذه الدراسة .
كل ما نملكه هو إبراز بعض التحديات العامة التي تواجه السلطة الإسلامية السودانية ، وهي في مطلع العقد الثاني من حكمها . وأهم هذه التحديات حسب ما يتراءى لنا من بعيد هو الآتي :
* على هذه السلطة أن تكف عن كونها حركة ، وتقتنع بأنها أصبحت دولة ، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات سياسية وأخلاقية .
* وأن تسعى لإطعام الإنسان السوداني من جوع ، وتأمينه من خوف ، باعتبار ذلك أهم بند في رسالتها ، وأول خطوة على طريق البناء .
* وأن تبني شرعية سياسية على غير القوة والإكراه ، فلا خير في سلطة تستمد شرعيتها من القوة حصرا ، ولا مجال لاعتماد فقه الضرورات إلى الأبد .
* وأن توقف النزيف الإنساني الذي سببته الحرب الأهلية ، لا بدماء الشباب المتعطش للجهاد والشهادة ، بل بحكمة السياسة ، ومنهج الحوار والتعايش .
* وأن تجهد في احتواء قوى التدين "الفاقدة للوعي بذاتها" داخل مجتمعها التقليدي المسلم ، بمزيد من التعليم والوعي الذاتي .
* وأن تدرك أن جسم الدولة متسع للجميع ، بخلاف جسم الحركة ، فالعجز عن احتواء واستيعاب المجتمع ، معناه العجز عن تغيير المجتمع .
* وأن تعرف بأن الحلول الفنية - على أهميتها وحاجة العمل الإسلامي إليها - لا تكفي . فالدولة الإسلامية دولة فكرة ومبدإ ، قبل أي شيء آخر .
* وأن تعترف بموقعها الحرج في المكان ، إقليميا ودوليا ، فتتحمل مسؤوليتها بوضوح ، وتنأى بنفسها عن أسلوب المغامرات والمهاترات والتخبط والتورط .
* وأن تعترف بموقعها الحرج في الزمان - حاملة لراية الإسلام أيام غربته - فتعضد ذلك بمزيد من الإقدام والتوكل والحكمة والدراية .
لقد كسبت الحركة الإسلامية في السودان معركة "الديناميت" ، فانتزعت السلطة من أيدي المدنيين العاجزين والعسكريين المتربصين ، وهزمت فلول الشيوعيين المتمردين ، وصدت جيوش الغزاة المعتدين .. ويبقى عليها أن تكسب معركة "الحق" ، وأن تحيل ذلك التركيب الميمون من القوة والحق أداة لصناعة التاريخ ، ولبناء الهوية والشرعية ..
إن كل الدلائل تشير إلى أن السودان مقبل على مرحلة جديدة بعد اكتشاف النفط فيه ، بحيث تحول من كانوا خائفين منه إلى طامعين فيه ، وتغير مدلوله الجغرافي تغيرا استراتيجيا لا يخفى على القادة الإسلاميين السودانيين . فهل ستكون مرحلة ما بعد الرابع من رمضان مرحلة فهم ووعي بأبعاد هذا الواقع الجديد محليا وإقليميا ودوليا ؟؟
ذلك ما نرجوه ونأمله ، ونحن واثقون من أن الحركة الإسلامية السودانية لا تزال قادرة على مواجهة معضلات بلدها بحكمتها المعهودة ، ووعيها بحركة الزمان وحدود المكان .

وإذا كانت عبرة المستقبل بالنسبة للحركة السودانية هي أن "الديناميت" بغير حق لا يفيد ، وأن الحلول الفنية لا تكفي ، فإن العبرة بالنسبة للحركات الإسلامية الأخرى هي أن الحق بغير "الديناميت" لن ينتصر ، وأن "الفكر الفني الذي يعجل بحركة التاريخ" أمر لا مناص منه في عصر السرعة والتكنلوجيا .
لقد قال محمد إقبال منذ مطلع القرن العشرين : "إن الدين بغير قوة مجرد فلسفة" .. لكن صيحات ذلك المؤمن الحكيم لم تجد آذانا صاغية وقلوبا واعية .
ولكي تكون الحركات الإسلامية على مستوى التحديات ، فإن عليها الانتباه للمعاني التالية :
* استيعاب العلاقة الجدلية بين المبدإ والمنهج ، والإدراك العميق لضرورة حسن إعداد الوسائل وشحذ المناهج .
* مزيد من المرونة والروح العملية ، والابتعاد عن التنظير في غير طائل ، ونبذ الأفكار الذهنية المجردة ، التي لا تعكس واقعا ، ولا تلبي حاجة موضوعية .
* استيعاب خبرات العصر ، في مجال التنظيم والتخطيط والفكر الاستراتيجي والسياسي ، تجبنا لأي تخلف في المناهج يضر بالمبادئ .
* التحرر من أسر الأشكال التنظيمية ، والحذر من الجمود على ما لم يعد مناسبا ، ولا مواكبا لمقتضيات العمل وضرورات التجديد .
* تحقيق الشورى في أمر الحركة كله ، وخصوصا في مجال البناء القيادي ، واجتناب أي استبداد مادي أو معنوي .
* فهم الواقع المحلي والإقليمي والدولي ، كما هو ، لا كما نريده ، والتزام روح المبادرة والإيجابية في التفاعل مع الدولة والمجتمع .
* التحرر من الروح الحزبية ، والارتفاع إلى مستوى حمل الأمانة ، وتمثيل الأمة ، بدلا من التقوقع في أطر التنظيم وفكره .
* الاعتراف بالتنوع والاختلاف بين المجتمعات الإسلامية والتجارب الإسلامية ، وبناء علاقات تناصر وأخوة ، دون وصاية أو مصادرة .
لقد آن الأوان لأبناء الحركات الإسلامية أن يحرروا أنفسهم من صورة ذلك الإسلامي الأبله الذي ينادي بتغيير الكون ، وهو لا يدرك ما يدور في محيطه القريب ، تقوده رغبة بغير عزم ، ويحركه حماس بغير خبرة .. يشعل الحروب في كل مكان ويخسرها ، ويستفز العالم كله ، على قلة زاد ، وضعف استعداد .. فهل يفلحون في ذلك ؟؟
ذلك ما نرجوه ونأمله ، ونحن ندرك أن الحركات الإسلامية تضم بين جنباتها خيرة أبناء الأمة ، وأحسنهم التزاما أخلاقيا ، وتأهيلا فكريا ، وأوفرهم طاقة ، وأكثرهم استعدادا للبذل والاجتهاد والجهاد .. ثم هي قبل ذلك كله تستمد من مدد الله الذي لا ينفد ، وتثق في نصره الذي لا يتخلف .. وما عليها إلا أن تكون في مستوى المسؤوليات والتحديات ، فتستحق نصر الله العزيز الحميد ..
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية