الحركة الاسلامية في السودان الخاتمة
خاتمة
خلاصات للزمن الآتي
"إن الحق والديناميت معنا"
نلسون مانديلا
في الساعة الثالثة فجر اليوم الثلاثين من يونيو 1989 تحركت
كتائب من الجيش السوداني ، يقودها ضباط إسلاميون شباب إلى المواقع الاستراتيجية في
الخرطوم ، وسيطرت على القصر الرئاسي ، وقيادة الأركان والإذاعة والتلفزيون ، ثم أعلنت
عن "ثورة الإنقاذ الوطني" .. لتسدل الستار على مرحلة من تاريخ السودان المعاصر
، وتلج به مرحلة جديدة ، لا تقف آثارها على السودان بلدا أو على السودانيين شعبا .
كانت ثورة الإنقاذ الوطني ناجحة من الناحية الفنية بكل
المعايير : سواء في أدائها العسكري الذي تجنب إراقة الدماء ، أو مناوراتها الأمنية
التي موهت بها على هويتها ، أو التفافها السياسي الذي جعل ألد أعدائها أول المعترفين
بها ..
وكانت ثورة الإنقاذ الوطني حدثا تاريخيا بكل معنى الكلمة
، لأنها أول مرة في التاريخ الإسلامي المعاصر ، تتصالح القوة مع المبدإ ، والحق مع
الديناميت ، فيسيران جنبا إلى جنب ، ولا يتصادمان ضمن ذلك التناقض المشؤوم الذي يمزق
حياة المجتمعات الإسلامية الحديثة كل ممزق .
وكانت حدثا تاريخيا كذلك ، لأنها أول مرة يخرج فيها الإسلامي
المعاصر من ذل المسكنة ، ويبرهن على أنه يفكر ويدبر ، ويخطط وينفذ ، ويستبق العدو ،
ويستعد لعاديات الزمان .
لم تكن ثورة الإنقاذ الوطني في السودان صدفة عابرة ، أو
ضربة حظ وافر ، بل كانت ثمرة تطور منهجي في الحركة الإسلامية السودانية على مر السنين
: في وعيها العام ، وبنيتها الهيكلية ، وبنائها القيادي ، وعملها في المجتمع ، وعلاقتها
بالسلطة ، وعلاقتها بالحركات الإسلامية .. وهو ما جهدت هذه الدراسة على تقديم عبرته
معتصَرة ومختصَرة ، وإهدائها إلى أبناء الحركات الإسلامية في كل مكان .
لكن هل كان فجر الثلاثين من يونيو 1989 نهاية أم بداية
؟ وقتا لبدء الراحة من رهق السنين ووعثاء السفر ، أم إيذانا بتحمل المسؤولية الأكبر
والتحدي الأخطر ؟ إنه الثاني بدون ريب ، وليس الأول . ذلك أن نجاح الثورة أكبر من مجرد
استلام السلطة ، والنجاح الفني ليس معيارا للنجاح المبدئي ، خصوصا إذا كان أهله يحملون
رسالة أخلاقية ، تهدف إلى تحرير الناس لا إلى إخضاعهم .
وفي بلد كالسودان ، متسع الأرجاء ، ممزق الأحشاء ، أنهكته
الحرب الأهلية ، وهددت فيه الحاجة إنسانية الإنسان ، كان على الثورة الجديدة أن تتحمل
أعباء زائدة ، ومسؤوليات أخلاقية وإنسانية جسيمة ، لم تواجه كل الثورات .
ولسنا نملك المعلومات الكافية للحكم على تجربة الإنقاذ
خلال العقد الأول من حكمها ، ولذلك استبعدنا ذلك من اهتمامنا ، ومن المنهج المتبع في
هذه الدراسة .
كل ما نملكه هو إبراز بعض التحديات العامة التي تواجه
السلطة الإسلامية السودانية ، وهي في مطلع العقد الثاني من حكمها . وأهم هذه التحديات
حسب ما يتراءى لنا من بعيد هو الآتي :
* على هذه السلطة أن تكف عن كونها حركة ، وتقتنع بأنها
أصبحت دولة ، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات سياسية وأخلاقية .
* وأن تسعى لإطعام الإنسان السوداني من جوع ، وتأمينه
من خوف ، باعتبار ذلك أهم بند في رسالتها ، وأول خطوة على طريق البناء .
* وأن تبني شرعية سياسية على غير القوة والإكراه ، فلا
خير في سلطة تستمد شرعيتها من القوة حصرا ، ولا مجال لاعتماد فقه الضرورات إلى الأبد
.
* وأن توقف النزيف الإنساني الذي سببته الحرب الأهلية
، لا بدماء الشباب المتعطش للجهاد والشهادة ، بل بحكمة السياسة ، ومنهج الحوار والتعايش
.
* وأن تجهد في احتواء قوى التدين "الفاقدة للوعي
بذاتها" داخل مجتمعها التقليدي المسلم ، بمزيد من التعليم والوعي الذاتي .
* وأن تدرك أن جسم الدولة متسع للجميع ، بخلاف جسم الحركة
، فالعجز عن احتواء واستيعاب المجتمع ، معناه العجز عن تغيير المجتمع .
* وأن تعرف بأن الحلول الفنية - على أهميتها وحاجة العمل
الإسلامي إليها - لا تكفي . فالدولة الإسلامية دولة فكرة ومبدإ ، قبل أي شيء آخر .
* وأن تعترف بموقعها الحرج في المكان ، إقليميا ودوليا
، فتتحمل مسؤوليتها بوضوح ، وتنأى بنفسها عن أسلوب المغامرات والمهاترات والتخبط والتورط
.
* وأن تعترف بموقعها الحرج في الزمان - حاملة لراية الإسلام
أيام غربته - فتعضد ذلك بمزيد من الإقدام والتوكل والحكمة والدراية .
لقد كسبت الحركة الإسلامية في السودان معركة "الديناميت"
، فانتزعت السلطة من أيدي المدنيين العاجزين والعسكريين المتربصين ، وهزمت فلول الشيوعيين
المتمردين ، وصدت جيوش الغزاة المعتدين .. ويبقى عليها أن تكسب معركة "الحق"
، وأن تحيل ذلك التركيب الميمون من القوة والحق أداة لصناعة التاريخ ، ولبناء الهوية
والشرعية ..
إن كل الدلائل تشير إلى أن السودان مقبل على مرحلة جديدة
بعد اكتشاف النفط فيه ، بحيث تحول من كانوا خائفين منه إلى طامعين فيه ، وتغير مدلوله
الجغرافي تغيرا استراتيجيا لا يخفى على القادة الإسلاميين السودانيين . فهل ستكون مرحلة
ما بعد الرابع من رمضان مرحلة فهم ووعي بأبعاد هذا الواقع الجديد محليا وإقليميا ودوليا
؟؟
ذلك ما نرجوه ونأمله ، ونحن واثقون من أن الحركة الإسلامية
السودانية لا تزال قادرة على مواجهة معضلات بلدها بحكمتها المعهودة ، ووعيها بحركة
الزمان وحدود المكان .
وإذا كانت عبرة المستقبل بالنسبة للحركة السودانية هي
أن "الديناميت" بغير حق لا يفيد ، وأن الحلول الفنية لا تكفي ، فإن العبرة
بالنسبة للحركات الإسلامية الأخرى هي أن الحق بغير "الديناميت" لن ينتصر
، وأن "الفكر الفني الذي يعجل بحركة التاريخ" أمر لا مناص منه في عصر السرعة
والتكنلوجيا .
لقد قال محمد إقبال منذ مطلع القرن العشرين : "إن
الدين بغير قوة مجرد فلسفة" .. لكن صيحات ذلك المؤمن الحكيم لم تجد آذانا صاغية
وقلوبا واعية .
ولكي تكون الحركات الإسلامية على مستوى التحديات ، فإن
عليها الانتباه للمعاني التالية :
* استيعاب العلاقة الجدلية بين المبدإ والمنهج ، والإدراك
العميق لضرورة حسن إعداد الوسائل وشحذ المناهج .
* مزيد من المرونة والروح العملية ، والابتعاد عن التنظير
في غير طائل ، ونبذ الأفكار الذهنية المجردة ، التي لا تعكس واقعا ، ولا تلبي حاجة
موضوعية .
* استيعاب خبرات العصر ، في مجال التنظيم والتخطيط والفكر
الاستراتيجي والسياسي ، تجبنا لأي تخلف في المناهج يضر بالمبادئ .
* التحرر من أسر الأشكال التنظيمية ، والحذر من الجمود
على ما لم يعد مناسبا ، ولا مواكبا لمقتضيات العمل وضرورات التجديد .
* تحقيق الشورى في أمر الحركة كله ، وخصوصا في مجال البناء
القيادي ، واجتناب أي استبداد مادي أو معنوي .
* فهم الواقع المحلي والإقليمي والدولي ، كما هو ، لا
كما نريده ، والتزام روح المبادرة والإيجابية في التفاعل مع الدولة والمجتمع .
* التحرر من الروح الحزبية ، والارتفاع إلى مستوى حمل
الأمانة ، وتمثيل الأمة ، بدلا من التقوقع في أطر التنظيم وفكره .
* الاعتراف بالتنوع والاختلاف بين المجتمعات الإسلامية
والتجارب الإسلامية ، وبناء علاقات تناصر وأخوة ، دون وصاية أو مصادرة .
لقد آن الأوان لأبناء الحركات الإسلامية أن يحرروا أنفسهم
من صورة ذلك الإسلامي الأبله الذي ينادي بتغيير الكون ، وهو لا يدرك ما يدور في محيطه
القريب ، تقوده رغبة بغير عزم ، ويحركه حماس بغير خبرة .. يشعل الحروب في كل مكان ويخسرها
، ويستفز العالم كله ، على قلة زاد ، وضعف استعداد .. فهل يفلحون في ذلك ؟؟
ذلك ما نرجوه ونأمله ، ونحن ندرك أن الحركات الإسلامية
تضم بين جنباتها خيرة أبناء الأمة ، وأحسنهم التزاما أخلاقيا ، وتأهيلا فكريا ، وأوفرهم
طاقة ، وأكثرهم استعدادا للبذل والاجتهاد والجهاد .. ثم هي قبل ذلك كله تستمد من مدد
الله الذي لا ينفد ، وتثق في نصره الذي لا يتخلف .. وما عليها إلا أن تكون في مستوى
المسؤوليات والتحديات ، فتستحق نصر الله العزيز الحميد ..
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية