الجمعة، 13 فبراير 2015

الحركة الاسلامية في السودان 8/8

الفصل السابع
العلاقة بالحركات الإسلامية

"إن الوعي الإسلامي كان منفعلا
بما يجري في الخارج ، أكثر من
انشغاله باحتياجات الداخل"
د. حسن مكي

تتحد الحركات الإسلامية في المنطلق والمبدإ ، لكنها تختلف في العمر والتجربة والحجم والتكوين ، فضلا عن اختلاف المجتمع الذي تتحرك في نطاقه كل حركة عن المجتمعات الأخرى في خلفيته التاريخية ، وتطوره الثقافي ، ونظامه السياسي ، ونموه الاقتصادي ، وتركيبته الاجتماعية. فكان لابد أن يكون بين هذه الحركات تشابه واختلاف ، ووحدة وتنوع ، وعموم وخصوص . فكيف يمكن التوفيق بين المقتضيات العملية المترتبة على هذه الازدواجية ؟
تتبنى الحركة الإسلامية في السودان طرحا متوازنا في هذا الشأن صاغه الترابي في تقرير من شقين :
* "حُقَّ للإسلاميين في كل بلد أن يراعوا خصوصياتهم الظرفية ، وأن يضعوا أقدامهم على صعيد واقعهم المعيَّن ليمكِّنوا صروح العلا على أرض صلبة دون افتتان بتقليد عالمي يقطعهم عن أصول التحديات الفعلية التي يتغذى بها الإيمان ، ويتعين إزاءها التكليف ..
* وحقيق على الإسلاميين أن لا يقعوا فرائس للعصبية التي تفتنهم بخصوصياتهم الظرفية والمحلية . ففي دين التوحيد يلزم التوازن بين المرحلية الزمانية والاتصال الأبدي ، وبين المحلية المكانية والامتداد الأرضي ، أو بين النسبية حسب ظروف الزمان والمكان ، والمطلقية خلودا ووجودا" (1) .
لكنه توازن من العسير تحقيقه ، فما العمل إذا تعارضت المصالح وتزاحمت الأولويات ؟ هنا حسمت الحركة في السودان أمرها ، فتبنت تقديم الشأن المحلي على العالمي - في حالة التعارض - تغليبا لمنطق الفاعلية الخاصة ، على منطق الشعارات العامة . وهو أمر يمكن تأصيله بأمر القرآن الكريم لحملة العلم بإنذار قومهم ، وأمره للمؤمنين بقتال الذين يلونهم من الكفار . وقد لخص الأفندي فلسفة الحركة السودانية بقوله : "على الحركات الإسلامية أن لا تتجاهل جهاد المسلمين في بلاد أخرى ، لكن الأولى بها أن تركز على مواطنها الأصلية" (2) . كما شرح ذلك عمر بخيت - وهو من قادة الجيل الأول في الحركة السودانية - بقوله : "إن الضرورة تقتضي أن تنحصر جهود الجماعات الإسلامية في أطوارها الأولى في البلد الذي نشأت فيه ، لأنه لا يمكن لها من الناحية الواقعية أن تبعثر جهودها الضئيلة على بلدان أخرى بعيدة عن مكان نشأتها ، وغريبة على تجاربها في الحياة . كما اتسمت بذلك دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام في مطلع أمرها ، بما وجهته من عناية خاصة بأم القرى وما حولها" (3) .
ويأخذ أبناء الحركة السودانية على إخوانهم - وعلى أنفسهم في مرحلة من المراحل - طغيان الاهتمام بشؤون المسلمين العامة على الاهتمام بالشؤون المحلية والتفاعل معها ، وهو ما عبر عنه مكي بقوله : "إن الوعي الإسلامي كان منفعلا بما يجري في الخارج ، أكثر من انشغاله باحتياجات الداخل" (4) .
فقدان الإحساس بالمكان
لقد أشرنا في المدخل إلى أن بعض الحركات الإسلامية فقدت الإحساس بالمكان في العلاقات بينها، وقد أدى ذلك إلى خلل كبير في سلم الأولويات ، وأورث العديد من الحركات الإسلامية ضعفا سياسيا وتنظيميا مزمنا . ومن أعراض هذا الداء حرص بعض الحركات الإسلامية على التقيد الحرفي بالأنماط والأشكال الحركية ، الموروثة عن حركات سابقة في التجربة ، وعدم الجرأة على مخالفتها حتى في بعض الجزئيات ، والاستقلال عنها في ما يفرض الواقع المتعين الاستقلال فيه . وقد عانت التجربة السودانية من ذلك لأول عهدها ، وأورد الأستاذ مكي مثالا ذا دلالة : فقد حاول بعض من رواد حركة الإخوان في السودان نهاية الأربعينات أن يحصلوا من السلطة الاستعمارية الانكليزية على ترخيص قانوني لجمعيتهم ، والسماح لها بإنشاء مقر لها ، لكن "السكرتير الإداري [الإنكليزي] لم يسمح للحركة بإنشاء دار لها ، إذا لم تعلن استقلالها عن الحركة الإسلامية بمصر ، التي كانت تمر بمحنة 1948م ، حيث فقدت الشرعية . وهنا لم يجرؤ تنظيم السودان على إعلان استقلاله من ناحية تكتيكية على الأقل ، كي يتيح لنفسه قدرا من حرية الحركة" (5) . لكن الحركة استوعبت هذا الدرس فيما بعد ، كما سنرى في الفقرات القادمة إن شاء الله .
مراتب العموم والخصوص
إن اختلاف المجتمعات الإسلامية يحدد نوع الاستجابة المناسبة لتحديات الواقع ، ويفرض على كل حركة إسلامية تعاملا مخصوصا مع خصوصيات مجتمعها ، وابتكار الوسائل الملائمة لذلك ، دون تقليد لتعاملات أخرى في واقع مغاير ، أو نقل لوسيلة غير مناسبة دون تكييف أو تحوير ، أو انشغال بشأن المسلمين العام عن واجباتها المتعينة "التي يتغذى بها الإيمان ، ويتعين إزاءها التكليف":
* "فقد يكون [المجتمع] مجاله الاقتصادي الغني الميسور موحيا للتيار الإسلامي أن يستغني أو يغفل عن الأطروحات الاقتصادية ..
* أو يكون بأزماته مذكرا بالقضايا المعاشية ، ومسائل التنمية والعدالة ، حسبما يكون هو الألح بين القضايا القائمة .
* وقد يكون المجتمع بأوضاعه الثقافية مُثقَلا بقيادات دينية تقليدية وولاءات عرفية ، تشكل للتيار المتجدد قضايا وأولويات حساسة ..
* أو يكون مُستخَفًّا لقيادات عصرية لادينية ، يكون الحوار معها أو الجهاد ضدها هو الهم الأكبر .
* وقد يكون المجتمع في انتمائه للملة فاسدا في عقيدته أو عبادته أو خلُقه ، من جراء نقص أصلي في بنائه الديني ، أو طارئ أدخل عليه العلة والانحراف . وعندئذ يكون الخطاب الفكري العقدي والتربية الخلقية والإصلاح الاجتماعي حاجات ملحة ..
* أو يكون المجتمع محافظا متدينا في خاصة حياته ، لا يكاد ينقصه إلا النظام الإسلامي العام والشريعة الحاكمة ..
* أو يكون المجتمع قائما بعاطفة دينية جياشة بالطاقات ، لم يواكبها علم أو فكر يرسم لها قنوات المسير الحكيم ، وأعوزها انتظام أو قياد يحفظها من التبدد شتاتا والشقاقِ شيعا .
* وقد تكون السلطة السياسية في بلد التيار قائمة بمشروعية منتسبة إلى الدين الإسلامي تجامل التيار الإسلامي صدقا أو سماحة من حيث هو دعوة وخلُق ، ثم تتحامل عليه غيرة وفزعا من حيث هو مشروع للتغيير السياسي ..
* أو تكون السلطة ليبرالية غافلة عن الدين أو مجانبة لمقتضاه ، لكنها بحكم الواقع الدستوري والسياسي لا تملك إلا إباحة حرية القول والعمل للتيار ، وقليلا ما يكون ذلك كذلك .." (6) .
إن المتتبع لواقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة المهتم بأمور المسلمين - وهذا شأن أبناء الصحوة عموما - يستطيع إدراك هذه الخصوصيات ، بل يستطيع أن يضع اسم هذا المجتمع أو ذاك في إحدى الخانات التسع المذكورة ، ويضيف خانات وأمثلة أخرى .
والمغزى الذي من أجله يلح الدكتور الترابي على هذه الخصوصيات هو مغزى عملي ، يوضحه بقوله : "في كل ما قدمنا من أحوال تاريخية أو وطنية أو اجتماعية أو سياسية ما يومئ إلى ابتلاء معيَّن يجابه التيار الإسلامي ، تنشأ عنه حاجة معينة لما يجاوب التحدي . وتشكل تلك الحاجة أولوية تشغل التيار حتى يوفيها ، ثم يتقدم لاستكمال كمالات الإسلام الشاملة ، حسب أولوياتها اللازمة والميسورة" (7) .
لكن المؤسف أن بعض الحركات الإسلامية غفلت عن هذه الفروق المهمة على الصعيد العملي ، فهي - كما لاحظ الدكتور محمد عمارة - "تنحو نحو "تجريد نظري" ، يتصور - تبعا لوحدة دين الإسلام - عالَمَ الإسلام وواقعَ دياره نسقا واحدا منسقا ، لا يعرف الفوارق في مستويات التطور، ولا الاختلاف في الأعراف والعادات والمذاهب والتصورات" (8) . فلا عجب مع هذه الغفلة أن سقطت تلك الحركات في داء التقليد ، ووهم المماثلة ، والبعد عن الواقع ، والقياس مع الفارق ، فلم تستوعب تماما مراتب العموم والخصوص :
* فلا يعدم الملاحظ حركة إسلامية عاكفة على الوعظ والتربية الخلقية والتزكية الفردية ، رغم أن مجتمعها بخير من حيث الالتزام الأخلاقي والسمت العام ، قياسا بغيره من المجتمعات الإسلامية الحاضرة ، وحتى قياسا بمجتمعات السلف . وكان الأحرى بها أن تتجه إلى إصلاح النظام العام ، وبناء الولاء الاجتماعي على أسس إسلامية ، لا على عصبيات قبلية جاهلية .
* أو حركة منصرفة إلى استنهاض الهمم واستثارة الحشود - وقد حصلت من ذلك على ما يكفي وزيادة - وكان الأصلح لها أن تنظم وتؤطر ، وتحرص على صلابة النواة وتماسك الصف ، تجنبا للتبدد والاندثار ، واستعدادا لأوقات الضيق والحرج ، وإعدادا ليوم الحسم .
* أو حركة صادفت انفراجا وحرية نسبية في بلدها ، فظلت متخفية في كهوف السرية ، فشلَّها الهاجس الأمني الذي استوردته من تجارب حركات أخرى . وكان الأوْلى لها أن تستغل الحرية المتاحة في تكثيف الدعوة والصدع بالخطاب ، أملا في اكتساب المجتمع الذي هو الرهان الأول والأخير .
* أو حركة غرها الانفراج الظاهر فغالت في التعبير عن قوتها الكمية ، واندفعت إلى أسلوب "الصدام العشوائي الأهوج" (9) ولم تحسب حسابا للقوى النوعية المتحكمة في المجتمع، والتي لا تغني مغالبتها بالكم المهلهل شيئا مهْما كثر . ولم تكن من قبلُ قد خططت لبناء قوة نوعية تدرأ بها خطر القمع والاضطهاد . فكانت النتيجة ثمنا فادحا من الدماء والأحقاد ، تهدد مستقبل الدعوة ، بل ووجود المجتمع من أصله .
* أو حركة عاكفة على إصلاح العقائد ، ومجادلة الأموات في معتقداتهم ، في مجتمع لا توجد فيه فرق بدعية ولا طوائف كلامية . وكان الأولى بها أن تحارب الاستعمار والتبعية السياسية المشينة ، وتسعى إلى إصلاح النظام السياسي الفاسد الذي يتأسس على غبن الوراثة وعرف الجاهلية ، ويفتح الأبواب مُشرَعة أمام أعداء الأمة ، لينهبوا ثروتها ويمتهنوا كرامتها .
وقد أصاب الحركة الإسلامية في السودان بعض من عوارض داء التقليد واستيراد الأزمات في الأعوام 1959-1964 ، حين كان الإخوان المصريون في أوج محنتهم "والحقيقة أن الحركة فزعت إلى حذر بالغ دون أن تلاقي ابتلاء ، وذلك من فرط اعتبارها بما حدث في مصر . فانفعلت انفعالا شديدا بالخوف ، وكمنت كمونا حادا لأول عهد ، حتى كادت تجمد نفسها"(10) بيد أن الحركة السودانية تمكنت من اكتشاف هذه المزالق وتداركها ، بينما جمدت حركات أخرى على أخطائها المنهجية والعملية ، فجمد العمل بذلك .
والسبب في كل هذه المساوئ هو أن الحركات الإسلامية لم تستوعب مراتب العموم والخصوص بينها ، ولم تحدد كل منها أولوياتها العملية بناء على تصور نابع من واقعها المعيش ، لا من الصورة الذهنية المستوردة . لكن الحركة الإسلامية السودانية استطاعت ذلك ، بعد تجاوز طور النشوء والتقليد . ودون ادعاء عريض بشأن العالمية ، أعلنت الحركة السودانية أن منهاجها "سوداني ، من حيث أنه يتكيف في وسائله بخصوص تراث السودان وظروفه ، وفي أهدافه بخصوص واقع السودان وحاجاته ، فيما يراعي خبرات العصر وأحوال العالم كافة" (11) . وسنرى فيما بعد كيف كان انحراف الحركة/الدولة السودانية عن هذا النهج - مطلع التسعينات - خطأ جسيما لا تزال تعاني من مضاعفاته حتى اليوم .
تأصيل الخصوصية
لقد تناولت الشورى الداخلية في الحركة قضية العلاقات بالحركات الإسلامية الأخرى ، وظهر تياران فكريان ، لكل منهما منطلق مختلف ورؤية خاصة لهذه القضية : تيار المحلية وتيار العالمية "وقامت مناظرة واعية بين دعاة المحلية من أجل فاعلية تمكِّن الدين ، ودعاة العالمية من أجل وحدة الدين ، وبين شبهة العصبية والتفريق للأمة بالمحلية المنغلقة ، وشبهة التسطيح للدين والتهميش لأهله بالعالمية المهيمنة" (12) . وقد حاولت الحركة المزاوجة بين الرؤيتين، وذهبت "مذهب التوازن بين المحلية والعالمية ، أو الخصوصية والعموم" (13) إدراكا منها أن "الحكمة كلها في التوفيق المرحلي بين التمكن الواقعي والوحدة المثالية" (14) . لكن التوفيق بينهما ليس بالأمر السهل، وكثيرا ما تقضي اعتبارات عملية بالترجيح . ولأن الحركة السودانية ذات منطق عملي ، فقد رجحت كفة الخصوصية والمحلية عند التعارض "لضمان الفاعلية في نشاطها" (15) ، وأبتْ العالميةَ الفضفاضة التي تخفي تحتها ضعفا . وعللت الحركة ترجيحها للخصوصية بأصل شرعي وباعتبار مصلحي :
* أما عن الأصل الشرعي فقد "كانت الحركة تؤصل موقفها بما سبق من سنة تدرج الرسالات من القومية إلى العالمية ، ومن مرحلية تطور رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث للناس كافة ، ولكنه لم يؤمر بالسياحة في البسيطة قاطبة ، لينشر الدعوة فيها رقيقة [كما تفعل "جماعة التبليغ" الآن] وإنما أُوصِيَ في بسط الدعوة بخطاب الإطار المحلي الأقرب فالأقرب، دون تجوز ولا تحيز : عشيرته ، فأهل مكة ، فالعرب ، فمن حولهم . وأُوصِىَ في تطبيق نظام الدين ببناء المركز الأمكن في المدينة ، تقتصر ولايته على المؤمنين المهاجرين إليه دون غيرهم، وتُؤَسَّس فيه قاعدة للدين متينة منيعة ، ثم تمتد لتتوطد في جزيرة العرب قاطبة ، ثم تنداح بالدعوة المرسلة سباقة إلى سائر تخوم الأرض ، تتلوها الفتوح والدولة المتمكنة ، وتتتابع تحت لوائها الأقاليم والأقوام" (16) .
* وأما الاعتبار المصلحي فهو أن "تصويب الخطاب الديني أولا إلى واقع محلي معين أبلغ في الدعوة ، وتكوين الجماعة الدينية أولا في محيط محدود أحكم في التنظيم ، والبدء بأساس من الدعوة المؤثرة والجماعة القوية شرط ضرورة للبناء الإسلامي الممتد . وقد يكون ذلك الترتيب أيضا هو المستطاع حسب إمكانات واقع الدعاة ، أو حد المأمون في وجه ابتلاءات التعويق والكيد في الطبيعة وفي المجتمع . فتباين الخطاب الديني ، ولامركزية الصف المسلم ، من ضمانات نشوء حركة إسلامية فاعلة آمنة في كل موقع محلي متميز" (17) . وإذا كان الخالق الحكيم قد أرسل كل رسول بلسان قومه ليتفاعل معهم، وليفقهوا عنه ، فإنه "يتعسر على الدعاة أن يبلِّغوا إلا بلسان قومهم ، أو يطرحوا من القضايا إلا ما يعني واقعهم ، أو يؤثِّروا إلا بالالتحام الوثيق بمجتمعهم، أو يجدوا مأمنا عبر الأقطار" (18) .
تلكم هي الخلفية الفكرية التي انطلقت منها الحركة الإسلامية في السودان في قضية العلاقة بالحركات الإسلامية الأخرى . وفيما يلي نذكر تطبيقات عملية لهذا المنطلق الفكري ، مركزين على علاقة الحركة السودانية بالحركة الأم المصرية ، وبالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين .
العلاقة بالحركة الأم
لقد بارك الله تعالى جهود الإمام الشهيد حسن البنا وأصحابه المؤسسين لحركة الإخوان المسلمين في مصر ، فنشأت جل الحركات الإسلامية في العالم امتدادا فكريا أو تنظيميا لتلك الحركة . ولم تكن الحركة الإسلامية في السودان استثناء من تلك القاعدة ، بل كانت أوْلى الحركات بذلك ، نظرا للتلاحم والتداخل التاريخي بين شعبي وادي النيل . لكن اختلاف الرؤية حول العلاقات المناسبة بين الحركتين ظل معضلة دائمة . وكان على الحركة السودانية أن تواجه هذا الموضوع على جبهتين : الجبهة الداخلية التي لم تستطع التوصل بسهولة إلى إجماع داخلي حول الأمر ، والجبهة الخارجية : أي الحركة المصرية نفسها ، ومن نحا نحوها من الحركات الإسلامية ، ثم التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ، الذي ظل امتدادا للحركة الإسلامية المصرية إلى حد بعيد .
يروي الأستاذ مكي جوانب من الخلاف الداخلي بين الإسلاميين السودانيين حول علاقتهم بالحركة الأم المصرية ، فيقول :"في عام 1952 جاء وفد من "الإخوان المسلمين" المصريين بقيادة عبد البديع صقر للسودان ، واتصل هذا الوفد برواد "حركة التحرير" عارضا عليهم الالتحام العضوي بحركة الإخوان المسلمين [في مصر] ضاربا المثل بتنظيميْ سوريا والعراق . ولكن اعترض يوسف حسن سعيد مشيرا إلى خصوصية الحركة [الإسلامية] السودانية ، وخصوصية الحركة السياسية السودانية ، وأن "حزب الأشقاء" السوداني - الداعي للوحدة مع مصر - لم يصبح جزءا من حزب الوفد ، وأن أي محاولة لربط "حركة التحرير" ربطا عضويا بمصر ستؤدي إلى ابتعاد أبناء "الأنصار" عن الحركة وتمردهم عليها . وقد أدى هذا الاتصال إلى اجتماع عرف بـ"اجتماع السبع ساعات" ، عقد في منزل الصادق عبد الله عبد الماجد ، وكان الصادق دينمو هذا الاجتماع ، حيث تناول كافة إشكالات العمل الإسلامي … ويبدو أن رأي الاجتماع استقر على استمرار الوضع كما هو[أي عدم الدمج العضوي بين الحركتين]" (19) .
لكن ذلك لم يحسم النزاع الداخلي في أوساط الحركة السودانية حول علاقتها بالحركة المصرية الأم ، بل ظل الموضوع مثار جدل وتجاذب . وكان المؤتمر العام للحركة السودانية يوم 12/8/1954 - الذي اشتهر باسم "مؤتمر العيد" - نقطة تحول لصالح دعاة الاستقلال التنظيمي عن الحركة الأم، رغم تأكيده على الارتباط الفكري بها . وقد أثار المؤتمر حفيظة كل من دعاة الاستقلال المطلق ، ودعاة الاندماج العضوي ، كما يشرحه مكي بقوله : "يلاحظ هنا رغما من أن الحركة قد انتهت [في مؤتمر العيد] إلى صيغة "الإخوان المسلمين" ، إلا أنها أنهت الارتباط العضوي بمصر، ذلك الارتباط الذي مثلته مدرسة علي طالب الله الجماهيرية ، كما أنها رفضت صيغة رواد "حركة التحرير" ، أي مطلق استقلالية الحركة ، مما قد يؤدي إلى انعزاليتها وصيرورتها إلى تجمع محلي محدود الحركة والفكر . وهنا جاء رد الفعل الأول بانفضاض طائفة كبيرة من المؤتمرين بقيادة بابكر كرار … إذ رفضوا قرارات المؤتمر ، وخصوصا المتعلقة بالتسمية [الإخوان المسلمون] وتسموا بـ"الجماعة الإسلامية" ، وأصدروا لهم فيما بعد دستورا وبرنامجا متكاملا . أما رد الفعل الثاني فقد كان من علي طالب الله، بيانا هاجم فيه المؤتمرين بشقيْهم ، ووصفهم بأنهم (لا إخوان ولا مسلمون) وأصدر نشرة بفصلهم ، وسمى المؤتمر "مؤتمر المتآمرين" ، وقام بإبلاغ مركز الإخوان العام في سوريا في ذلك الوقت بقراراته . إذ بلغ الصراع في ذلك الوقت بين إخوان مصر والضباط الأحرار مبلغا خطيرا، أدى إلى نقل المركز العام للإخوان المسلمين إلى دمشق"(20). وبما أن صيغة الارتباط الفكري والاستقلال التنظيمي صيغة وسط ، تحقق حلا عمليا يراعي الخصوصية المحلية ، ويعترف بقيمة الاشتراك في المبادئ ، فقد نجحت في النهاية ، ولم يخرج عليها بعد ذلك إلا نفر قليل ظلوا على الهامش دائما ، كما يؤكده مكي بقوله: "وربما كان بروز هذا التيار ، كتيار وسط بين غلواء بابكر كرار في المحلية ، وإفراط علي طالب الله في الأممية، هو الذي يسر له فرص الاستمرارية إلى يومنا هذا" (21) . ومهما يكن من أمر ، فإن الحركة توصلت داخليا إلى حل وسط هو "اتجاه الوسطية الذي يصل الحركة [السودانية] بحركة الإخوان المصرية فكرا ، ويستقل [بها] عنها حركة" (22) . وكان ذلك رجوعا إلى التوجه الذي اعتمده رواد "حركة التحرير الإسلامي" السودانية عند بدء التأسيس ، حيث "تمثلت الصلة العالمية [لحركة التحرير] تجاه الحركة في مصر في العلاقة الفكرية والاعتبارية ، بأقوى مما تمثلت في صلة عضوية مباشرة" (23) .
لكن الموضوع في شقه الخارجي اتجه وجهة أخرى ، حيث لم تفلح الحركتان في التوصل إلى صيغة وسط بشأنه . بل ظل اختلاف الرؤية حوله سائدا في الغالب . ويمكن إرجاع الخلاف التصوري بين الحركتين حول شكل العلاقة المناسبة إلى عدة أسباب منها :
أولا : تأثير الحساسية التي نشأت في نفوس الطرفين جراء علاقات تاريخية معقدة . لقد كانت مصر دائما تعتبر السودان امتدادا بشريا وتاريخيا لها ، كما ظل السودان دائما يدرك أن مصر هي عمقه الثقافي والاستراتيجي . إلا أن السودانيين أحسوا - منذ سقوط الدولة المهدية على أيدي الاستعمار الإنكليزي المتمركز في مصر - أن مصر تحولت إلى مظلة لنفوذ القوى الاستعمارية ، ولم تعد سياستها تجاه السودان تعبر عن علاقات طبيعية بين شعبين شقيقين . من هنا حديث السودانيين عن ضرورة التحرر من "المصفاة المصرية" في مجال الفكر (24) و"المظلة المصرية" في مجال السياسة (25) . وحينما يعتبر الإسلاميون السودانيون أن "العلاقات السودانية المصرية الحديثة .. يمكن وصفها بأنها علاقة حاكم بمحكوم ، لا علاقة تفاعل" (26) فإن النتيجة المنطقية لذلك ستكون إصرارهم على التعامل مع الحركة المصرية الأم "من منطلق الندية لا الامتدادية" (27) . لقد كان لتلك الخلفية التاريخية أثر في سوء العلاقة بين الحركتين ، وهو أمر أقر به الدكتور الترابي حينما وصف العلاقة بأنها كانت "مشوبة برواسب قومية بين المركزية المصرية العربية، والمحلية السودانية، ولا أضيف الافريقية"(28) . ولا يعدم القارئ لمؤرخي السودان الحديث - بمن فيهم الإسلاميين - أن يلاحظ تقابُلَ هذه النزعة الإفريقية السودانية التي تحس بنوع من التهميش، مع المركزية العربية المصرية الميالة إلى الإلحاق . وقد يعبر بعض الكتاب الإسلاميين السودانيين عن ذلك تعبيرا مغاليا ، ومن ذلك قول الأستاذ مكي : "كانت علاقة السودان بالتراث المصري [=الإسلامي؟] تتم من خلال المصفاة المصرية . وهنا ينبغي الإشارة إلى ضغط التراث الثقافي المصري : إذ فوت على الذات السودانية فرص التبلور حسب الاحتياجات المحلية ، فأصبحت الثقافة الدينية السودانية انعكاسا للتراث الإسلامي المصري باستثناء الطارئ المهدي" (29) . ومنه دعوته إلى "إقرار أدب إسلامي يعبر عن احتياجات أهل السودان ، بدلا من الاتكاء على المصفاة المصرية" (30) رغم أن الوحدة الثقافية والأدبية لا ضير فيها ، بل هي الرباط الوحيد الذي حافظ للشعوب المسلمة على إحساس عاطفي مشترك ، بعد كل أنواع التمزق التاريخي والتمزيق الاستعماري. وقد أقر الأستاذ مكي نفسه بذلك في الحالة المصرية - السودانية بالذات ، حينما قال : "لا يمكن إهمال الدور المصري في السودان ، إذ مصر واحدة من مفاتيح المسألة السودانية"(31) ثم أوضح الأساس الثقافي لذلك الدور ، فقال : "أي حركة سياسية [سودانية] جادة لا يمكن أن تلغي الدور المصري في السودان ، بل وليس من المصلحة تعطيل ذلك الدور بالنسبة لحركة إسلامية ، إذ مصر تمثل الالتزام الواعي بمتطلبات (تعريب) حركة الثقافة والفكر [في السودان] الذي سيؤدي لا محالة إلى اقتراب الذات السودانية من الإسلام، باعتبار عدم إمكان الفصل بين الإسلام والعروبة في السودان ، إذ أن 61% من سكان السودان من أصل غير عربي . وإن توفرت ظروف إسلام في الجنوب ، فستسير في اتجاه الإسلام بوسائل العروبة ، إذ العربية مفتاح الإسلامية" (32) . وربما كان السودانيون الذين يدخلون دخولا أوليا فيمن يدعوهم الترابي "عرب الأطراف" (33) يحسون بنوع من عدم الاعتبار الكافي لجهدهم ومكانتهم ، أمام إخوانهم المصريين الذين ينزعون دائما إلى اعتبار أنفسهم قادة العرب باستحقاق. وكان الأولى بالطرفين تغليب الأخوة الإسلامية على النزعات القومية والوطنية المستحدَثة.
ثانيا : أخطاء عملية ارتكبتها الحركة الأم تجاه الحركة السودانية دون اعتبار للخلفية التاريخية والنفسية التي أشرنا إليها . وقد بدأت تلك الأخطاء برسالة بعث بها الإمام الشهيد حسن البنا إلى علي طالب الله وهو في السجن "يزف إليه تعيينه مراقبا عاما للإخوان المسلمين بالسودان ، وعضوا بالهيئة التأسيسية العامة للإخوان بالقاهرة . وبذلك ولأول مرة أخذ أمير جماعة الإخوان [في السودان] يستمد شرعيته من مصر لا من السودان" (34) . لكن سرعان ما تبين أن استمداد الشرعية من القاهرة لا تدعمه حقائق المزاج الوطني السوداني ، ولا توجهات القاعدة الحركية السودانية . وليس بخاف أن الإمام الشهيد لم يقدم على ذلك إلا اقتناعا بوحدة العمل الإسلامي ووحدة الشعبين في وقت لم يعلن فيه السودان استقلاله الرسمي عن مصر ، ودعما لأخ مسلم دخل السجن دفاعا عن حرمة الإسلام وحقوق المسلمين أمام غطرسة الاستعمار الإنكليزي . لكن ذلك لم يكن ليغير من حقائق الواقع النفسي والاجتماعي والتاريخي شيئا ، ولم يكن ليبرر فرض قيادة على قوم لم تتم استشارتهم في شأنها .
ثالثا : تحرر الحركة الإسلامية في السودان فكريا وتنظيميا من بعض الأشكال الموروثة عن الحركة الأم . فقد اقتضى التطور السريع للحركة السودانية ، وتجاوزها مرحلة التأسيس التي لا تختلف فيها حركات الإصلاح عادة - لأنها مرحلة تأصيل الأصول العامة - أن تظهر لديها اختلافات في الخطط والأساليب مخالفة لمعهود الحركة الأم ، والحركات الأخرى السائرة على نهجها "وزاد مدى حرية الاجتهاد المحلي الخاص بالحركة مع زيادة فاعليتها وتفاعلها في ظرف الابتلاء السوداني المعيَّن . واتسع مدى تباينها مع الحركة في مصر وغيرها، إذ تضاعفت السمات الخاصة المكانية ، وتعاظم الكسب الديني المتميز" (35) . كما اقتضى الواقع السياسي المعقد - محليا وإقليميا - من الحركة السودانية أن تتبنى أسماء وأشكالا لا تنسجم مع ما تواضعت عليه حركة الإخوان المصرية وفروعها في دول عربية أخرى ، ومن ذلك التخلي عن اسم "الإخوان" ذاته ، وكانت لديها مسوغاتها الشرعية والعملية لذلك ، كما يشرحه حسن مكي بقوله : "إن واحدا من أسباب إخفاء اسم "الإخوان" جزئيا هو عدم الرغبة في التورط منذ الوهلة الأولى في صراع خارجي ، يستنزف جهد الحركة ويصرفها عن الاستجابة لمقتضيات الوقع الداخلي" (36) . لكن بعض القادة الإسلاميين المصريين لم يعجبهم الأمر ، وبالغوا في استنكاره ، ولم يتفهموا دوافعه ومسوغاته . وكان من نتائج ذلك أن ظهر الإخوان المصريون وكأنهم يغذون - عن حسن نية - انشقاقا داخليا في الحركة السودانية حينما "تميز تيار - وليس تنظيما مفاصلا - مبديا تمسكه بالسلفية التنظيمية كما عبرت عن نفسها في أفكار وممارسات الإخوان بمصر" (37) . ثم تحول ذلك التيار إلى تنظيم هامشي مستقل ، ظل شاهدا حيا على سوء العلاقة بين الشقيقتين .
نشأة التنظيم الدولي
قبل الحديث عن علاقة الحركة الإسلامية في السودان بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ، لا بد من إلقاء نظرة على نشأة هذا التنظيم وهويته وهيكلته ، بيانا للإطار النظري والتاريخي الذي أنتج مواقف الحركة السودانية في هذا المضمار .
لقد أشرنا خلال تحليل البنية التنظيمية للإخوان المسلمين بمصر - في الفصل الثالث - إلى أن الحركة أنشأت شُعبا خارجية لها ، من منطلق الامتداد الإداري للمركز العام في مصر . ونضيف هنا أن قادة الحركة المصرية الذين خرجوا من سجون عبد الناصر مطلع السبعينات بعد طول معاناة ، وجدوا أمامهم عالما مختلفا عما كان عليه الحال حينما دخلوا السجن في الخمسينات .
وكان من مظاهر هذه التغيرات التي تؤثر تأثيرا مباشرا على الحركة الإسلامية في مصر أمران جوهريان :
* انهيار الشرعية الداخلية في الحركة ، بعد أن غاب قادتها عنها مدة مديدة . رغم أن تلك الشرعية كانت تعاني من مساوئ هيكلية أساسية ، تحدثنا عنها من قبل .
* وتطور بعض الحركات الإسلامية التي تعافت من بلاء المحنة تطورا كبيرا . ولم يسر هذا التطور دائما ضمن طرائق ومسارب العمل التنظيمي ، كما اعتادها الإخوان الأوائل في مصر.
ولم تسع قيادة الإخوان في مصر إلى علاج هاتين المعضلتين بالطرائق الصحية المتمثلة في إعادة بناء الشرعية داخليا ، والأخذ في الاعتبار ما طرأ على الساحة الإسلامية العالمية من تطورات فترة غيابها . بل كان العكس تماما هو ما حدث ، وقد تجلي ذلك في أمرين :
أولهما : أن قادة الإخوان في مصر سعوا إلى بناء شرعية قيادية في الخارج ، تسد الباب أمام أي اعتراض في الداخل . ومن ذا الذي يستطيع الاعتراض على أهلية أو شرعية من يقودون العمل الإسلامي عبر العالم ، وتدين لهم كل الحركات الإسلامية في أرجاء الأرض؟؟!! كان ذلك هو المنطق الذي تبنته - ضمنا - قيادة الإخوان الخارجة من السجن ، والتي كان يسيطر عليها أعضاء النظام الخاص منذ الخمسينات . وقد أدرك ذلك الدكتور النفيسي ، فبين أن قيادة الجماعة في مصر لجأت إلى "الاتجاه للخارج لاستعادة الشرعية في الداخل" (38) ثم أوضح الدافع إلى ذلك ، فقال : "شعر عناصر (النظام الخاص) أن ثمة تساؤلات جوهرية مثارة في أوساط الإخوان في مصر، حول شرعيتهم وأهليتهم في استلام قيادة الجماعة ، ولذا نشطوا في تأسيس "شرعيتهم" في الخارج ، كيما يستمدوها في الداخل ، أي في داخل مصر"(39) .
وثانيهما : أنها خرجت على الناس برؤية للعلاقة بالحركات الإسلامية بعيدة كل البعد عن التوازن والقسط ، مغرقة في المركزية والاختلال القيادي ، بشكل لم يسبق له مثيل . ولم تُقم تلك الرؤية أي وزن للتغيرات العميقة التي طرأت على تلك "الشعب" و"الفروع" التي بلغت الأشد وأصبحت "حركات إسلامية" . ولم تأخذ في الاعتبار واقع حركات أخرى، لم تكن امتدادا تنظيميا لحركة الإخوان المصرية في أي فترة من تاريخها ، ولا ربطها بها أكثر من رباط الفكر ، والموالاة العامة بين المؤمنين . لقد كانت الحركات الإخوانية تملك في السابق هامشا من الحرية في علاقتها بالمركز المصري ، لكن الصيغة الجديدة التي خرج بها الإخوان في السبعينات أهدرت هذا الحق البسيط ، وفرضت علاقة تبعية مقننة مسبقا ، كما سنرى في تحليل بنية التنظيم الدولي .
بنية التنظيم الدولي
يوضح المخطط التالي بنية التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ، كما يمكن استنباطها من اللائحة المنظمة له ، المعروفة باسم "النظام العام للإخوان المسلمين" ، والصادرة يوم 29/7/1982:



تتألف بنية التنظيم الدولي - كما يدل المخطط - من أربع هيئات :
* المرشد العام : ينص نظام التنظيم الدولي أن "المرشد العام للإخوان المسلمين هو المسؤول الأول للجماعة ، ويرأس مكتب الإرشاد العام ، ومجلس الشورى العام" (40) .
* مكتب الإرشاد العام : "هو القيادة التنفيذية العليا للإخوان المسلمين ، والمشرف على سير الدعوة ، والموجه لسياستها وإدارتها . يتألف مكتب الإرشاد من ثلاثة عشر عضوا عدا المرشد العام …" (41) .
* مجلس الشورى العام : و"هو السلطة التشريعية لجماعة الإخوان المسلمين وقراراته ملزمة، ومدة ولايته أربع سنوات هجرية … يتألف مجلس الشورى من ثلاثين عضوا على الأقل ، يمثلون التنظيمات الإخوانية المعتمدة في مختلف الأقطار ، ويتم اختيارهم من قبل مجالس الشورى في الأقطار أو من يقوم مقامهم" (42) .
*"المحكمة العليا : التي تنظر في القضايا التي تحول إليها من قبل المرشد العام ، أو مكتب الإرشاد العام ، أو مجلس الشورى" (43) .
الاستبداد الدولي
لقد كان من حق الشُّعب والفروع الإخوانية في الأقطار الأخرى - أيام الإمام الشهيد حسن البنا - أن تقرر شكل العلاقة التي تربطها بالمركز ، من خلال النص في النظام الأساسي آنذاك على أن "تحدَّد الصلة بينه وبينها بلوائح وقرارات في مؤتمرات جامعة تضم ممثليه وممثلي هذه الشعب"(44). ويدل ذلك على حب الإمام الشهيد للشورى وحرصه عليها ، رغم كل المساوئ الموجودة في قوانين الجماعة خلال فترة قيادته لها ، فقد كانت قيادة البنا أحسن دائما من قوانينه - كما رأينا من قبل - على عكس القادة الذين خلفوه ، ولذلك فإن الشكل الجديد الذي عبر عنه "النظام العام للإخوان المسلمين" فرض الالتزام بالنمطية السياسية والفكرية والتنظيمية السائدة في التجربة المصرية التزاما حرفيا ، وجعل يد التنظيم المصري - الذي أصبح يدعى "تنظيما دوليا" - هي العليا في شؤونها المحلية ومواقفها السياسية . ولم تعد الحركات الإسلامية في غير المركز - مصر - تتمتع بأي هامش من حرية العمل ، أو مناورة التحرك . فقد نص "النظام العام" على أن الحركات الإسلامية المنضوية تحت لواء التنظيم الدولي ملزمة بالآتي :
*"الالتزام بالمبادئ الأساسية الواردة في هذه اللائحة عند صياغة اللائحة الخاصة للقطر. وتشمل هذه المبادئ : العضوية وشروطها ومراتبها ، ضرورة وجود مجلس للشورى إلى جانب المكتب التنفيذي ، الالتزام بالشورى ونتيجتها في جميع أجهزة الجماعة ..الخ .
* الالتزام بفهم الجماعة للإسلام ، المستمد من الكتاب والسنة والمبيَّن في الأصول العشرين. والالتزام بالنهج التربوي الذي يقره مجلس الشورى العام .
* الالتزام بسياسات الجماعة ومواقفها تجاه القضايا العامة ، كما يحددها مكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى العام .
* الالتزام بالحصول على موافقة مكتب الإرشاد العام ، قبل الإقدام على اتخاذ أي قرار سياسي هام" (45) . ولم ينس "النظام العام" أن ينص على أن اللائحة الداخلية المنظمة لشأن الحركات الإسلامية محليا "يجب اعتمادها من مكتب الإرشاد العام قبل تنفيذها" (46) .وكل من هذه النقاط تدل على وجود خلل فكري وسياسي وتنظيمي :
* فالالتزام بمضامين "النظام العام" محليا قيدٌ على الحركات الإسلامية ، وتجاهل لواقعها الداخلي. إضافة إلى أن تسمية تلك الأمور الإجرائية المستحدثة - المتعلقة بالعضوية ووجود مكتب تنفيذي ومجلس شورى - "مبادئ أساسية" يدل على وجود لبس كبير في التمييز بين المبدإ والمنهج ، بين الفكرة ووسائل تطبيقها . فهل هذه هي الوسائل الوحيدة المتصورة شرعا وعقلا في تربية الأفراد وبناء الجماعات ونصرة الإسلام ؟؟!!
* والحديث عن "الالتزام بالشورى ونتيجتها في مختلف أجهزة الجماعة" كان من الأحسن تفاديه هنا، لأنه وعْظ بما لم تلتزم به القيادة المصرية - الدولية في شأنها الداخلي . فهي من أبعد الحركات الإسلامية عن بناء الشرعية القيادية المستمدة من شورى الناس وحرية اختيارهم ، وكان هذا من مظاهر الاعتراض التي أبداها بعض أهل الرأي من الإسلاميين على التنظيم الدولي ، حيث "تحفظٌ آخر أثير وما زال يثار ، أن قيادة الجماعة آنذاك وامتدادها حتى اليوم، لم تنبثق من اجتماع قانوني، عقدته الهيئة التأسيسية للإخوان في مصر والتي لم تجتمع منذ 1954" (47) رغم كل المساوئ المترتبة على احتكار تلك الهيئة للشرعية القيادية في الحركة.
* والالتزام بـ"فهم الجماعة للإسلام المستمد من الكتاب والسنة .." مجرد مذهبية جديدة، وحجر على العقل المسلم ، وسد لأبواب الاجتهاد والتجديد . وإلا فلمَ يكون من حق المسلم أن لا يلتزم بفهوم أئمة أعلام في الفقه والتربية ، قلدتهم الأمة في دينها قرونا مديدة ، ثم يكون عليه الالتزام بفهم حركة أو جماعة معينة ؟! . لست أشك في أن فهم الجماعة للإسلام مستمد من الكتاب والسنة ، لكن أليس فهم أولئك الأئمة للإسلام مستمدا منهما أيضا ؟؟!!
* أما الالتزام "بسياسات الجماعة ومواقفها العامة" فهو تقييد لهامش المناورة السياسية الذي هو أثمن ما تملكه الحركات الإسلامية في بلدانها . وهبْ أن حركة إسلامية اصطدمت بحاكم غاشم في بلدها ، وأن ذلك الحاكم يؤوي إسلاميين من حركة أخرى في ذات الوقت مجانبة للحاكم الآخر .. فهل يكون من الحكمة التزام نمطية واحدة في المواقف السياسية والعلاقات السياسية هنا ؟؟
* وأما اشتراط اعتماد اللوائح الداخلية في كل قطر من قبل مكتب الإرشاد العام في التنظيم الدولي ، فهو تحكم لا ضرورة له ، ووصاية لا معنى لها . كما أنه يتجاهل حقيقة بسيطة ، وهي أن الحركات الإسلامية لا تعمل في بلدان تحترم كرامة الفرد وحرية الناس ، وإلا لما احتجنا إلى حركات سرية يجرمها القانون الظالم . فهل ستبقى اللوائح الداخلية - وهي جزء من أسرار الحركات الإسلامية -سرا بعد تداولها عبر الأقطار ، وانتشارها في أيدي الكبار ؟!
* وأخيرا فإن "الالتزام بالحصول على موافقة مكتب الإرشاد العام قبل اتخاذ أي قرار سياسي هام" غفلة عن حقيقة بينة ، وهي أن المكتب الموقر لا يملك في الغالب المعطيات الكافية التي تمكِّنه من الحكم على واقع محلي بعيد عنه ، فتدخُّله في ذلك لن ينتج سوى سوء التقدير ، وضعف التحليل ، واتخاذ قرارات غير ناضجة ، والوقوع في مآس يمكن تفاديها .
"حماه" المثال النازف
لقد أورد الدكتور عبد الله النفيسي في دراسته التقييمية لأداء التنظيم الدولي خلال الثمانينات مثالا معبرا في هذا الشأن ، وهو المأساة التي وقع فيها الإخوان المسلمون في سوريا ، والتي بلغت قمتها بتدمير مدينة "حماه" على رؤوس ساكنيها ، ومقتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال والشباب الأبرياء من الإخوان وغيرهم .. وتوصل النفيسي إلى أن التنظيم الدولي بتدخله في الأمور الداخلية للحركة الإسلامية السورية ، وسوء استيعاب قادته لمعطيات الواقع المحلي في سوريا ، لم يكن بعيدا من المسؤولية عن تلك المأساة . يقول الدكتور النفيسيي : "المشكلة الذهنية والنفسية لدى أعضاء "مكتب الإرشاد العام" الحالي [= منتصف الثمانينات] هي أنهم يصنعون عالما من الأوهام ، ثم يتصورون أنه الحقيقة ، ويتعاملون معه على أنه كذلك : أي حقيقة فعلية وواقعة . لقد تورطوا في أكثر من مأساة نتيجة ذلك : كانت تأتيهم الأخبار غير الدقيقة والتقارير التي أعدها الهواة والشعراء والخطباء حول الوضع السياسي والعسكري في حماه (سوريا 80-1982) فتورطوا في تحريض الناس على المواجهة العسكرية مع الحكومة السورية آنذاك . وعندما سالت الدماء ، وطحنت الرؤوس تحت الأنقاض ، ودمرت المدينة من أثر القصف ، وزهقت الأرواح (30 ألف روح ) نفض مكتب الإرشاد يده من الأمر ، وأخذ يبرر ويتلعثم ، ويُسقط كل إخفاقاته على الجهات الأخرى . إن جريمة حماه هي في الأساس جريمة قرار غير مسؤول وغير مدروس ، في مواجهة لم تستكمل بعد شروطها الموضوعية ، هذا إذا سلمنا بضرورة المواجهة أو بشرعيتها . وكان ينبغي أن تشكِّل جماعة الإخوان محكمة لمحاكمة أعضاء قيادتها ، ابتداء من المرشد العام ، مرورا بأعضاء مكتب الإرشاد العام ، ووصولا لأعضاء مجلس الشورى ، لتحديد المسؤولية ، وفرض العقوبات التنظيمية عليهم ، ومحاسبتهم على سوء تقديرهم للموقف ، وعلى تجاهلهم لأصوات العقل والتريث والمدارسة التي انطلقت من قواعد الإخوان ، قبل حلول مأساة حماه . لقد تم فصل أعضاء في جماعة الإخوان ، قضوا حياتهم في صفوفها و(جرائمهم) لا تتعدى مقالة هنا أو رأيا هناك مناقضا لرأي القيادة ، وهاهي القيادة تتورط في جريمة حماه ، يذهب ضحيتها ألوف الناس ، دون أن يُمَس فرد منها بسوء ، أو بما ينكد مزاجه : أين المؤسسات العدلية في الجماعة ؟ ثم كيف - إذن - تجيز قيادة الجماعة لنفسها المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هزيمة حزيران 1967 (القتلى 12 ألف جندي) ولا تقبل محاسبتها على جريمة وهزيمة حماه 1982 (القتلى 30 ألف نسمة من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب) ؟ … لقد كان سوء تقدير الموقف داء بارزا في ممارسات "مكتب الإرشاد العام" خاصة في مجال العلاقات السياسية ، وتفسير الأحداث الكبيرة والخطيرة" (48) .
ومهما يكن حجم المسؤولية التي يتحملها التنظيم الدولي في المأساة السورية ، فليس بمستغرب أن تقع المآسي حينما تتحكم قيادة فوقية في قرارات استراتيجية لم تستوعب حيثياتها . وليس يهمنا هنا تحميل أية جهة مسؤولية ما حدث ، بقدر ما يهمنا بيان جوانب القصور البنيوية والسياسية والتنظيمية التي تؤدي إلى مثل تلك المآسي .
ملاحظات على بنية التنظيم الدولي
في ضوء المخطط أعلاه ، ومن خلال التأمل في "النظام العام للإخوان المسلمين" الذي يحكم عمل التنظيم الدولي ، يمكن التوصل إلى أن هذا التنظيم تجسدت فيه كل المساوئ الهيكلية الموجودة في تنظيم الإخوان بمصر - وقد شرحناها في الفصل الثالث - بعد أن نُقلت إلى مستوى عالمي ، وفُرضت على حركات أخرى ، فزاد ذلك من مضاعفاتها السلبية . ومن أمثلة ذلك :
* المركزية الشديدة : وقد تحدثنا في أكثر من موضع من هذا الكتاب عن مساوئ الإغراق في المركزية داخل التنظيم الواحد ، فكيف بتنظيمات مختلفة ، تتعاطى مع وقائع متباينة . ومن مظاهر هذا الإغراق في المركزية تدخل التنظيم الدولي في جزئيات بسيطة ، هي من صميم العمل المحلي : مثل شروط العضوية في التنظيمات المحلية (ستة شهور اختبار ، ثم ثلاث سنوات أخا منتظما ، ثم أخا عاملا بعد ذلك) (49) وكأن هذا أصل من أصول الإيمان، لا بد من إلزام الإسلاميين به عبر العالم . ومنها فرضه ألفاظا معينة للبيعة على الأعضاء المنتسبين إلى الحركات المحلية ، وكأنها نص من الوحي المنزل ، يتعبد الناس بلفظه . وقد تجلى طغيان المركزية أكثر ما تجلى في النص على أنه "إذا كان عضو المكتب [= مكتب الإرشاد العام في التنظيم الدولي] مراقبا عاما في قطره ، فعلى القطر أن يختار مراقبا بدله" (50) . وطبقا لهذا المنطق ، فإن قائد أي حركة إسلامية - مهما كانت كفاءته وبراعته وبلاؤه في بلده - بمجرد اختياره أو تعيينه عضوا في مكتب الإرشاد العام ، يصبح ملزَما بالاستقالة ، والتخلي عن رسالته ، ليكون سفيرا لتلك الحركة - محدود الصلاحيات - لدى حركة الإخوان في مصر !! فأي اختلال في سلم الأولويات أكبر من هذا؟؟!! ومن مظاهر المركزية الطاغية صلاحيات المرشد العام التي فاقت كل حدود ، حيث "للمرشد صلاحيات هائلة ، ولمدة قد تطول إلى نصف قرن ، لأنه منصب مدى الحياة ، ولم تحدد له فترة زمنية كأربع سنوات أو غيرها . ومن الغريب أن يكون هذا في جماعة الإخوان ، والتي تعترض على القيادات السياسية المتشبثة بالسلطة مدى الحياة" (51) . ولم ينس "النظام العام" أن يشدد على أنه "لا يكون القرار المتخذ في غياب المرشد ونائبه نافذا ، إلا بعد اعتماده منهما" (52). وبذلك يكون مسار الحركات الإسلامية عبر العالم معلقا على فردين !!!
اختلال في البناء القيادي . ويظهر ذلك من خلال منح المرشد حق الاستمرار في منصبه مدى الحياة . فرغم أن "النظام العام" جعل مدة ولاية كل من مكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى العام أربع سنوات هجرية (53) إلا أنه لم يحدد فترة زمنية لولاية المرشد ، وكأن استمرار الشخص أهم من استمرار المؤسسات . بل نص "النظام العام" على أن المرشد "يبقى في مسؤوليته ما دام أهلا لذلك" (54) وهو ما يعني عمليا بقاءه فيه مدى الحياة ، لأن الأهلية هنا ليست مبنية على المعايير الشرعية الموضوعية من الأمانة والقوة ، ولكنها الأهلية القيادية في عرف الإخوان التي تحدثنا عنها من قبل ، وأساسها استغفال القاعدة ، وفرض الوصاية عليها ، بالتاريخ المهيب ، وعدد سنوات الانتظام ، لا بالكفاءة الفكرية والجدارة العملية . وقد اتضح ذلك حينما اشترط "النظام العام" شروطا فيمن يمكن أن يكون مرشدا عاما للتنظيم الدولي ، بعد شرط القرشية الجديدة - أعني المصرية - وأجملها في ثلاثة شروط، هي :
*"أن لا يقل عمره عن أربعين سنة هلالية .
* أن يكون قد مضى على انتظامه في الجماعة أخا عاملا مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة هلالية [تضاف إليها ثلاث سنوات ونصف قبل أن يصبح أخا عاملا ، كما يلزم بذلك النظام]
* أن تتوافر فيه الصفات العلمية (وخاصة فقه الشريعة) والعملية والخلقية التي تؤهله لقيادة الجماعة" (55) .
والترتيب الذي وردت به هذه الشروط لا يترك مجالا للشك حول ضعف الثقافة القيادية لدى الإخوان ، وبعدها عن معايير الأمانة والقوة كما وضعها الإسلام ، والانشغال بشروط مبتدَعة ما أنزل الله بها من سلطان . وقد وردت هذه الشروط المبتدَعة نفسها في الحديث عن أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس الشورى ، حيث اشترط "النظام العام" أن يكون عمر أعضاء كل منهما ثلاثين سنة هلالية (56) كما زاد شروطا في عضو مجلس الشورى منها:
*"أن يكون من الإخوان العاملين الذين مارسوا عضوية المكتب التنفيذي أو مجلس الشورى في أقطارهم .
* أن يكون قد مضى على اتصاله بالدعوة خمس سنوات على الأقل …
* أن لا تكون قد صدرت في حقه عقوبة التوقيف خلال الخمس سنوات" (57) .
وكل هذا يدل على النزوع إلى الاستبداد ، وعلى ضعف الثقة في الحركات الإسلامية التابعة ، وإلا فلم لا يكون من حق تلك الحركات أن تختار من يمثلها حسب الكفاءة ، بغض النظر عن عمره وتاريخه في الحركة ؟ أليست الحركات المحلية أدرى بأعضائها من القيادة الدولية-المصرية ؟!
على أن أمرا إيجابيا ورد في النظام العام للتنظيم الدولي ، ولم يوجد في النظام الأساسي للتنظيم المصري الأصل ، وهو النص على أن من حق مجلس الشورى إعفاء المرشد العام من منصبه بنسبة الثلثين "إذا أخل بواجباته ، أو فقد الأهلية" (58) . ولا يشوش على هذا الأمر سوى أن مفهوم الأهلية فقد مدلوله الشرعي في عرف قادة الإخوان بمصر منذ أمد بعيد ، وأن معايير الإخلال بالواجب وفقدان الأهلية ظلت غائمة بدون تحديد ، وأن مجلس الشورى نفسه مختل التركيب ، كما يظهر في النقطة التالية .
* الاختلال في تمثيل الأقطار : وذلك من خلال التحيز الشديد للمركز المصري ، على حساب الحركات الإسلامية الأخرى ، وبعضها أصبح أعظم كسبا ، وأنضج تجربة ، وأوفر عددا ، من جماعة الإخوان المصرية . وقد تجلى هذا التحيز في النص على أن هيئة الإخوان - التنظيم الدولي - "مقرها الرئيسي مدينة القاهرة" (59) ثم القول بأن ثمانية أعضاء من الثلاثة عشر المشكلين لمكتب الإرشاد "ينتخبهم مجلس الشورى من بين أعضائه، من الإقليم الذي يقيم فيه المرشد[= مصر]" (60) أما الخمسة الباقون فهم الذين "يُراعَى في اختيارهم التمثيل الإقليمي" (61) . والمرشد العام لا بد أن يكون مصريا ، ما دام مقر الجماعة هو مصر نصا . وقد لاحظ الدكتور عبد الله النفيسي هذا التحيز والاختلال ، فقال: "… فتأكيد المادة الأولى [من "النظام العام"] على أن القاهرة هي المقر الرئيسي للقيادة ، تأكيد أيضا أن النشاط الإسلامي على المستوى الدولي ينبغي أن يؤول في النهاية للتنظيم المصري وقيادته . وهذا ما حصل بالفعل للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين . فرغم اتساع النشاط الإسلامي اليوم من انواكشوط إلى جاكارتا ، وتفريعاته في أوربا والأمريكتين ، وبرغم تواجد أعداد كبيرة من أصحاب الخبرات والملكات والمواهب في الفكر والقيادة والإعلام والسياسة والاقتصاد خارج مصر ، نجد ثمة ميلا قويا في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين نحو تأكيد (مصرية) القيادة . فالمرشد العام - وإن لم ينص على ذلك صراحة - ينبغي أن يكون مصريا ، وهذا ما حدث بالفعل" (62) . ولأن أعضاء مكتب الإرشاد - وثلثاهم تقريبا من المصريين - هم أعضاء استحقاقيون في مجلس الشورى ، فقد انتقل اختلال التوازن بين الأقطار إلى مجلس الشورى أيضا . ثم اتسع الخلل في التطبيق ، لأن الإخوان لا يلتزمون بقوانينهم على علاتها كما رأينا في الفصل الرابع . ذلك ما لاحظه الدكتور النفيسي - بحق - خلال تأمله في بنية "مجلس الشورى العام" نهاية الثمانينات ، فقال : "مصر ممثلة بثقل غير عادي ، بالمقارنة بتمثيل باقي الأقطار ، فالمرشد العام هو رأس التنظيم الإخواني في مصر ، بالإضافة إلى أن بين أعضاء مكتب الإرشاد العام 8 أعضاء [من أصل 13] من الإخوان المصريين ، وكذلك مندوب أمريكا ، وكذلك مندوب السعودية هو من الإخوة المصريين المتجنسين بالجنسية القطَرية . هكذا يصبح الثقل المصري في مجلس الشورى العام مؤكدا بـ13 عضوا من جملة 38 ، وهذه نسبة كبيرة جدا ، بالقياس لأعداد ممثلي الأقطار الكبيرة، مثل سوريا والجزائر ، على سبيل المثال لا الحصر" (63) . وقد لا يكون مناسبا مطالبة الحركة الإسلامية في مصر - بتاريخها وحجمها - أن ترضى بتمثيل مكافئ لتمثيل دول صغيرة فيها حركات إسلامية ناشئة، لكن لم لا ترضى بالتكافئ مع الحركات الإسلامية في سوريا والعراق والجزائر والسعودية والسودان واليمن ؟؟ . ولأن باب التناصح والنقد النزيه لا يزال يثير حساسية بعض إخواننا ، كان لا بد للدكتور النفيسي أن يستدرك - ونحن نستدرك على أثره - أننا "لا يحركنا في هذا النقد لهذه الجزئية أي دافع إقليمي ، بقدر التأكيد على نقطة تجاوزها هذا التشكيل ، ألا وهي مراعاة التمثيل الإقليمي المتوازن ، الذي أشارت له المادة (19) من (النظام العام)" (64) .
* عدم التوازن بين السلطات وتضاربها : فكما رأينا في بنية حركة الإخوان المصريين من طغيان سلطة المرشد العام على الأجهزة ، ظهر هذا الخلل في بنية التنظيم الدولي بشكل واضح . ومن مظاهر ذلك النص على أن من مهام المرشد العام "الإشراف على كل إدارات الجماعة" و"تمثيل الجماعة في كل الشؤون " (65) . وهو ما يوحي بأن المراقب العام أخطبوب هائل له ذراع في كل أرجاء الأرض ، وأن قادة الحركات الإسلامية لا شأن لهم بتمثيل جماعاتهم ، وأن أعضاء أجهزة التنظيم الدولي لا هم لهم ، ولا قدرة لديهم على الإشراف على إداراتهم . وذلك إخلال بالتوازن المفترض بين قيادة عامة ، كان ينبغي عليها التركيز على الشأن العام والمسيرة الكلية للعمل الإسلامي العالمي ، وقيادات فرعية تابعة ، ينصب اهتمامها على الفعالية الإدارية وحسن الأداء الفني . ومن مظاهر التضارب بين الصلاحيات والاختصاصات ما ورد في "النظام العام" من أن من مهام مكتب الإرشاد العام "تحديد مواقف الجماعة الفكرية والسياسية من كافة الأحداث العالمية أو تلك التي ترتبط بسياسة الجماعة ، أو تؤثر في أي قطر من الأقطار" (66) ثم ورود نفس الصلاحيات - تقريبا - منسوبة إلى مجلس الشورى العام ، الذي جاء ضمن اختصاصاته "إقرار الأهداف والاتجاهات العامة للجماعة ، وتحديد موقفها من مختلف الاتجاهات والتجمعات والقضايا المتنوعة" (67) فما هو الفرق بين "مواقف الجماعة الفكرية" وبين "اتجاهاتها العامة" ؟ وما هو الفرق بين "مواقفها السياسية من كافة القضايا العالمية .." و"مواقفها من مختلف الاتجاهات والتجمعات والقضايا المتنوعة" ؟ أليس كل ذلك كلاما متشابها مبهما ، لا يحمل أي مدلول قانوني ؟؟ ومن مظاهر التضارب وعدم التوازن القول بأن من حق المرشد إيقاف أي عضو من أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس الشورى ، ثم العطف على ذلك بالقول إن ذلك العضو الموقوف "له أن يتظلم لدى فضيلة المرشد العام" (68) بحيث يصبح المرشد خصما وحكما في ذات الوقت . وكأن محرر "النظام العام" هنا يخلط بين القانون والأخلاق ، ولا ينتبه إلى أن القانون ليس مواعظ لإصلاح ذات البين ، تحرك ضمائر الأفراد ليراجعوا الحق ، ويتوبوا من خطاياهم ، أو ضغوط يفرضها أب على أبناء له طائشين ، حتى يرجعوا إلى طاعته . بل هو ضوابط ملزمة تحمي حقوق الأفراد وتوازن بين السلطات ، طبقا لسنة المدافعة التي جعلها القرآن الكريم أكبر حام من الفساد . وينطبق نفس القول على ما ورد من أنه "يُحدَّد عدد ممثلي كل قطر [في مجلس الشورى] بقرار من مجلس الشورى" (69) مما يجعل ميزان التمثيل بيد الأعضاء الموجودين في المجلس من قبل ، بل بيد الأقطار التي طغى تمثيلها في السابق على تمثيل الأقطار الأخرى . وكان الأنسب أن يتحدد ذلك في مؤتمرات أوسع ، أو أن يتم التنصيص عليه في القانون ، كما تفعل الدول الفيدرالية .
تلكم بعض التوضيحات الضرورية حول"التنظيم الدولي للإخوان المسلمين" ، نحتاجها لوضع علاقة الحركة الإسلامية في السودان به في سياقها التاريخي والفكري والعملي .
العلاقة بالتنظيم الدولي
لا يمكن الفصل بين مشكلة الحركة الإسلامية في السودان مع التنظيم الدولي عن مشكلتها مع حركة الإخوان في مصر ، نظرا لهيمنة الإخوان المصريين على هذا التنظيم كما رأينا . فقد ظلت العلاقة بين التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وبين الحركة الإسلامية في السودان متوترة في الغالب الأعم ، تبعا لتوتر العلاقة بين الحركتين المصرية والسودانية . وقد لاحظ الدكتور النفيسي نهاية الثمانينات "غياب د. حسن الترابي زعيم الجبهة الإسلامية القومية في السودان - بما يمثله من ثقل فكري وسياسي عربي وإفريقي - عن عضوية مكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى العام، لأن د. الترابي رفض مبايعة التنظيم الدولي للإخوان" (70) . وكان لذلك الغياب تاريخه ، ولرفض البيعة مسوغاته . والذي يتتبع مسار الخلاف بين الحركة الإسلامية في السودان وبين التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ، يمكن أن يتوصل إلى بعض الأسباب منها :
أولا : اختلاف الرؤى حول طبيعة العلاقات : فحين طرحت فكرة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين لأول مرة في الستينات ، اشترك الإخوان السودانيون في تشكيلة مكتبه "لكن على أساس أنهم لا يلتزمون ولا يُلزمون إلا تنسيقا وتعاونا طوعا بين التنظيم السوداني المستقل وسائر التنظيمات الإخوانية الملتزمة . وشاطرهم في ذلك الموقف إخوة العراق" (71). وهكذا اعتبر السودانيون العلاقة بين الحركات الإسلامية مجرد علاقة تنسيق وتعاون دون إلزام أو التزام ، وأرادوا التنظيم الدولي محض هيئة استشارية وقناة لتبادل الخبرات ، بينما اعتبرها المصريون علاقة بيعة لهم ملزمة ، وأرادوا التنظيم وحدة اندماجية بقيادتهم . و"كان موقف السودانيين أن الوحدة لا تستلزم قيادة واحدة" (72) بينما أصر المصريون على وحدة القيادة . لكن الطرفين سكتا على ما في النفوس ، وقبلا نوعا من التعايش داخل التنظيم الدولي بضغط من المحنة التي كانت تعيشها الحركة المصرية . وفي هذه الفترة كان للسودانيين حضور كبير في التنظيم الدولي ، خصوصا وأن مكتب العلاقات الخارجية في الحركة السودانية"نجح في الوصول إلى وفاق حول صيغة التنسيق مع التنظيم العالمي [=الدولي]" (73) . وفهم القادة السودانيون أن قيادة التنظيم الدولي قد أقرتهم على منهج التنسيق نهائيا ، وأن الخلاف حولها أصبح جزءا من تراث الماضي ، ولم يكن لدى قيادة الحركة المصرية وقت للخلاف والمشاكسة، وهي في أوج محنتها . لكن السبعينات جاءت بما لم يكن في الحسبان ، وذلك حين "خرج القادة الإخوان المصريون ، وعرضوا على السودان وسواه الرجوع إلى علاقة توحيدية تضع التنظيمات في مختلف الأقطار بل الأمصار موضع الشعب التابعة رأسا للقيادة بمصر"(74). ولم يكن السودانيون ليقبلوا هذا المقترح ، بحكم رؤيتهم الفكرية لمسألة العموم والخصوص بين الحركات الإسلامية ، وسلم الأولويات الذي تبنوه ، وكانوا محقين في ذلك فكريا وعمليا . لكن القيادة المصرية سارت في مشروعها الدولي ، ورفض الترابي الانضمام إلى مكتب الإرشاد العام "وذلك لأنه يعتقد - حسب قراءتانا لموقفه - [والكلام هنا للنفيسي] أن لكل قطر خصوصيته ، ولا يجب أن تخضع كل الأقطار لتوجيه سياسي وفكري واحد، وأن خير من يصوغ نظرية العمل في القطر هم أهله ، وليس أي طرف خارجي . وأن هذا لا يمنع التنسيق والتشاور في الإطار العام للعمل الإسلامي ، ودون أي صورة من صور الالتزام والإلزام أو الطاعة والأمر" (75) .
ثانيا : اختلاف النموذج التنظيمي : لقد بسطنا القول حول الفلسفة التنظيمية والنموذج التنظيمي الذي اعتمدته الحركة السودانية في الفصول السابقة ، بما يغني عن إعادته هنا . وإنما نذكِّر ببعض الخصائص التي أثرت على رؤية الحركة لعلاقتها بالحركات الأخرى . ومن هذه الخصائص : المرونة الداخلية ، والشورى ، والمشاركة ، واللامركزية . لقد أصبحت هذه المفاهيم جزءا من تفكير الحركة السودانية وتجربتها ، ولذلك طالبت بتنظيم دولي يتأسس على هذه المفاهيم ، حيث التنسيق المرن ، والحرية الواسعة محليا ، والإجماع الملزم للجميع ، دون أن يكون أحد الأطراف سيدا مطاعا ، أو خليفة ذا بيعة . يوضح الترابي أن حركته "رأت الالتزام المركزي الشامل اليوم اعتسافا للمراحل ، وجنوحا بالتوازن بين الوحدة والفاعلية إلى ما يوقع خللا ، ويحدث ضررا بالتدين المحلي . فالحركة الإسلامية في العالم أوْلى في هذه المرحلة بأن تبقى فكرا واحدا مشتركا دون إلزام ، وتجربة واحدة تتجاوب دون تقليد ، وجبهة تتناصر دون رهق أو حرج . لذا اقترحت الحركة [السودانية] منهجا للعدل بين التركيز المحلي، تمكينا وتأمينا بغير تعصب ، والامتداد نحو الوحدة العالمية بغير تسيب . وأرادته تنسيقا وسطا بين الانقطاع والاندماج الفوري ، وأعلى من مجرد التعاون العفو الوارد بين أي جهتين، لخصوص العلاقة بين الحركات الإسلامية" (76) . أما الحركة الإسلامية في مصر فهي تعتمد نهجا تنظيميا مركزيا تتركز السلطة بمقتضاه في يد المرشد العام وزملائه أعضاء مكتب الإرشاد. ولذلك فقد طبقت هذا النموذج على التنظيم الدولي ، وهو ما لم يعجب الإسلاميين السودانيين الذين اعتادوا غير ذلك في تنظيمهم المحلي . وقد رصد الأفندي أصل هذا الخلاف، فقال : "كان كل من الطرفين يريد صياغة التنظيم الإسلامي الدولي على منواله الخاص : فالمصريون يريدون مؤسسة هرمية على شكل خلافة ، والسودانيون يريدونها بنية لامركزية على غرار بنيتهم" (77) . وكان لهذا الاختلاف في النموذج التنظيمي محليا ، أثره على الخلاف في العلاقات دوليا، وقد تبين ذلك حينما "أخذ التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بالقيادة المصرية يشترط البيعة والاندراج التنظيمي الكامل، ويعبر عن ضيق شديد جدا بالتباين بينه وبين السودان في الأفكار والمناهج الحركية" (78) .
ثالثا : اختلاف الموروث السياسي فربما يجد الباحث في تاريخ الشعبين ما يساعد على فهم هذا الخلاف التصوري : فالمركزية الشديدة التي طبقها التنظيم المصري محليا ، وأراد تطبيقها دوليا ، ليست غريبة على تقاليد شعب يعيش في ظل دولة مركزية قاهرة منذ سبعة آلاف عام ، واللامركزية السودانية ليست غريبة على شعب لم يعرف تقاليد الدولة المركزية في تاريخه تقريبا . ويميل بعض الدارسين الغربيين إلى اتهام الحركة الإسلامية المصرية - بل المصريين عموما - بالعجز عن تجاوز ما دعاه دكمجيان "الجبرية الفرعونية" (79) أي الإيمان بالدولة ، وعدم القدرة على الخروج من الطوق الذي ترسمه . وفي نفس المعنى يقول "فيورست" : "إن فشل مبارك لن يؤدي إلى ثورة شعبية ضده ، فيما يبدو ، فالشعب المصري الذي لا حدود لصبره ، لم يثر على حكامه أبدا" (80) . والذي نراه أن ذلك مبالغة وتجن على الشعب المصري ، الذي برهن مرارا على رفض الظلم ومقاومته ، وإنما تكمن الأزمة في العجز القيادي الذي تعاني منه الحركة الإسلامية المصرية . وسيظل الأمل مرتبطا بالأجيال الجديدة في الحركة الإسلامية بمصر، أن تخرج من الطوق ، وتجدد شباب العمل الإسلامي ، وتكسر حلقة الجمود التي شوهت الحركة المصرية ، فتحولت من نموذج يطمح كل مسلم غيور إلى الاقتداء به ، إلى مضرب مثل في التخلف القيادي ، والجمود في التفكير والعمل . وقد بدأت بوادر ذلك التجديد وتلك الثورة الذاتية نهاية التسعينات .. والحمد لله رب العالمين . أما ما نعاه أولئك الكتاب الغربيون من سلبية تجاه الظلم السياسي في مصر ، فليس خاصا بالمصريين دون سواهم ، بل هي ظاهرة في أغلب الشعوب الإسلامية الحالية ، وترجع جذورها التاريخية والفكرية إلى ميراث حرب "صفين" منتصف القرن الأول الهجري .
رابعا : التنافس على القيادة العالمية : فحينما بدأت بوادر التنظيم الدولي تتبلور ظهرت مطامح من كلا الطرفين لقيادته وتوجيهه الوجهة التي يراها أصلح . وكان لكل من الحركتين مسوغاته الخاصة للمطالبة بالقيادة : "لقد طالب الإخوان المصريون بالقيادة كحق تاريخي ، بينما كان السودانيون يعتبرون أنفسهم الأقوى والأكثر تقدما من الناحية الفكرية في العالم الإسلامي ، ويطالبون بالقيادة كاستحقاق" (81) . ولا ريب أن للإخوان المصريين فضلهم وسابقتهم التأسيسية التي لا تنكر ، لكن حركتهم أصابها من التصلب الداخلي وأحاط بها من الكيد الخارجي ما جعلها غير مؤهلة من حيث الفاعلية والمرونة لقيادة تنظيم عالمي . ولا ريب أن للإخوان السودانيين فاعليتهم وإقدامهم ، وليس من الفخر أو المبالغة قولهم إنهم "كانوا تقدميين إلى حد كبير بالنسبة للحركة الأم بمصر في نشاطهم الاجتماعي نظريا وعمليا" (82) لكن حدود إمكاناتهم ، والمعضلات التي يعيشها بلدهم ، لا تسمح بالاضطلاع بمثل تلك القيادة ، كما اتضح من تجربة المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي فيما بعد. بل إن وجود تنظيم دولي معلن للحركات الإسلامية ، في ظروف الاضطهاد المحلي والكيد الدولي الراهن ، أمر فيه نظر ، كما سنشرحه فيما بعد .
خامسا : رفض الهيمنة المصرية والعربية : لقد أسلفنا بيان الخلفية التاريخية المعقدة ، وأثرها على العلاقة بين الطرفين . ونضيف هنا أن التنظيم الدولي لم يكن متوازنا كما رأينا . فالهيكل التنظيمي الذي تقدم به الإخوان المصريون ، وقبلته حركات أخرى ، هو هيكل يضمن للإخوة المصريين مستوى من الهيمنة زاد عن حد المعقول. وهو أمر لم يكن السودانيون ليقبلوه ، لأنه لا ينسجم مع فلسفتهم في الشورى والعمل الجماعي ، ولا يرضي مطامحهم إلى حضور أكبر في القيادة العالمية للعمل الإسلامي . ولم يكن الأمر هنا مجرد تعبير عن المزاج الوطني السوداني النازع دوما إلى الاستقلال وإثبات الذات تجاه مصر - رغم حضور ذلك - بل كان الأمر يرجع إلى اختلالات موضوعية في بنية التنظيم الدولي ، تنافي العدل والقسط، وتهدر الشورى والحرية ، وتضحي بالفاعلية لصالح التبعية . ولا يحتاج المرء إلى أن يكون سودانيا ليكتشف تلك الاختلالات ، بل يكفيه أن يعد على أصابعه ثم يقارن . لذلك فإن العديد من أهل الرأي والدراية من الإسلاميين غير السودانيين انتقدوا هذا الهيكل التنظيمي غير المتوازن ، كما يظهر من ملاحظات الدكتور النفيسي التي أوردناها من قبل . وكان السودانيون لا يرون ضرورة لوجود تنظيم عالمي موحد ، بناء على حساباتهم الإقليمية والدولية ، وهم محقون في ذلك . وهكذا "رفض الإخوان السودانيون - الذين كانوا دائما يعارضون إنشاء تنظيم [دولي] واحد - أن ينضموا إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين"(83) نهاية السبعينات وما بعدها . وكما رفض السودانيون الهيمنة المصرية على التنظيم الدولي، فقد رفضوا قصره على الحركات الإسلامية في البلدان العربية "فكانوا يتساءلون عن الأسباب في قصر التنظيم الدولي على الجماعات العربية ، ويطالبون بتجمع أوسع يضم كل الحركات الإسلامية ، بما فيها التركية والباكستانية والماليزية" (84) .
ثمن الخصوصية والفاعلية
وقد دفعت الحركة الإسلامية في السودان ثمن رفضها البيعة للتنظيم الدولي للإخوان ، وترجيحها منهج الخصوصية والفاعلية على منهج العالمية الفضفاضة ، وتعرضت للكثير من ظلم ذوي القربى جراء مواقفها التي أملتها عليها مصلحة العمل الإسلامي في السودان ، والمسؤوليات الشرعية تجاهه . وكان من مظاهر ذلك الثمن :
أولا : تغذية الانشقاقات في صفها ، فقد ظهرت انشقاقات داخلية في الحركة ، غذاها التنظيم الدولي وشجعها بكل أسف "ففي سبتمبر 1980 فجع الإخوان ببيان من السيد الصادق عبد الله عبد الماجد، [وهو] من رواد الإخوان المسلمين ، والذي أفنى زهرة شبابه في خدمة الحركة ، وشعر بضغط وإيقاع الزمن من خلالها : أعلن السيد الصادق عبد الله أنه باق في تنظيم الإخوان المسلمين الجديد ، الذي سيواصل السير في الخط الذي يتفق مع منهج الحركة الإسلامية وتاريخها. تداخلت عدة اعتبارات في تقديم الأستاذ صادق لاستقالته ، ولكنه آثر التركيز على :
* عدم رضائه عن الفتاوى والاتجاهات التنظيمية التي يقودها الترابي ، وعدم اقتنائه بمسوغات المصالحة [مع النميري] …
* إيمانه بوحدة الحركة الإسلامية العالمية ، وتمسكه بصيغة الموالاة للتنظيم الدولي الإخواني .
* إيثاره لأسلوب التربية والتنظيم الدقيق [على أسلوب العمل السياسي العام] .
* إعلان د. الترابي لصحيفة خارجية في مقابلة صحفية حل تنظيم الإخوان المسلمين … [وقد] نظرت القيادة [السودانية] إلى التنظيم الجديد ، على أنه محاولة من التنظيم الدولي للضغط على تنظيم السودان ، لارتضاء صيغة مبايعة التنظيم الإخواني المصري [في شكله الدولي] والعمل من خلال أطره" (85) . ولو أن التنظيم الدولي نأى بنفسه عن الخلاف الداخلي في الحركة السودانية ، لما كان عليه من ملام ، لكنه "عمد - حين انشقت طائفة محدودة عن إخوان السودان - إلى ضم المنشقين" (86) لإعطائهم قيمة أكبر من حجمهم داخل السودان ، ولإحراج قيادة الحركة وإرباكها . وهكذا أصبح في السودان منذ ذلك التاريخ حركة إسلامية عريضة لها جذورها وحضورها ، وقوتها وفاعليتها ، لا يعترف التنظيم الدولي بشرعيتها أو وجودها ، وثلة من قدامى الإخوان ، تبناهم التنظيم الدولي ، فأصبحوا يستمدون شرعيتهم من الخارج - شأن القيادة الإسلامية المصرية - دون أن يحظوا بأي حضور كمي أو نوعي داخل السودان .
ثانيا : التشهير بقادتها "لقد شن التنظيم الدولي للإخوان حملة واسعة ضد رأي د. الترابي، وفصلوا كل التنظيمات المشايعة له في أمريكا وأوربا ، وحاولوا عزلها عن المؤسسات والمراكز الإسلامية هناك ، وشككوا في توجهاته وحتى في شخصه ، إذ اتهموه بأنه يطلب الزعامة … غير أن الرجل أصر على موقفه (التنسيق لا البيعة)" (87) . ولست متأكدا أن قادة التنظيم الدولي ، الذين اتهموا الترابي بطلب الزعامة آنذاك ، كانوا زاهدين فيها ، خصوصا وهم من فرضوا لأنفسهم منهج البيعة مدى الحياة ، ورفضوا كل محاولة لإعادة بناء الشرعية القيادية في حركاتهم على أساس الشورى والاختيار الحر من الأعضاء .
ثالثا : عزل أبنائها إذ تبنى التنظيم الدولي سياسة عزل أبناء الحركة السودانية عن المؤسسات الإسلامية عبر العالم . وتعقدت العلاقة "بالإصرار على عزل السودانيين من التنظيمات المنسقة والموحدة في مواطن الاغتراب بالبلاد العربية وأوربا" (88) . وكان العديد من أطر الحركة السودانية يقودون العمل الإسلامي في الغرب ضمن التنظيم الدولي ، قبل حدوث الخلاف بين الطرفين ، حيث "برز دور الإخوان السودانيين في قيادة العمل الإسلامي في أوربا وأمريكا ، حيث أصبح د. الأمين محمد عثمان مسؤولا عن حركة تنظيم الإخوان المسلمين الدولي في المملكة المتحدة وأوربا ، وأحمد عثمان مكي عن أمريكا وكندا ، كما وقع الاختيار على عدد من الإخوان السودانيين ليكونوا رؤساء لاتحاد الطلاب المسلمين في أمريكا، والاتحاد العام للجمعيات الإسلامية في المملكة المتحدة" (89) .
استمرار التنسيق المرن
ومهما يكن من أمر فإن الحركة السودانية استمرت في التعويل على منهج التنسيق المرن ، وطبقته في صلتها بالآخرين "فصدرت دراسة الحركة الإسلامية في السودان :"الأصول الفكرية والعملية لوحدة العمل الإسلامي" ، حيث دعت إلى عقد مؤتمر تأسيسي جامع للحركات الإسلامية للتباحث حول السياسات والنظم والعلاقات التنظيمية . واقترحت قيام تنسيق تكاملي يكون فلسفة للعلاقات التنظيمية ، وإحداث مركز تنسيق عالمي يتجاوز الإطارات الإقليمية والقومية ، ويكون له مجلس شورى كامل الشورية ، تمثل فيه الحركات الإسلامية كافة ، وتنظم نشاطه لائحة تحدد مقاعد ووظائف هذا المركز ودوائر صلاحياته" (90) . ولما لم يقبل قادة التنظيم الدولي هذه الصيغة ، استعاضت الحركة السودانية عن فكرة الكتلة الدولية بالعلاقات الثنائية و"طورت الحركة علاقة التنسيق من مستوى التفاهم العارض إلى الاتفاق الثنائي الموثق مع حركات كثيرة ، مما يشتمل على عهد ملزم يهدف لتوثيق الصلة وتعزيز التعاون في مجالات شتى ، ويتوسل إلى ذلك بالاتصالات النظامية تراسلا أو تزاورا ، وباللقاءات الدورية بين القيادات أو القطاعات المتضاهية أو اللجان المشتركة ، أو بتأسيس ما تيسر من الأعمال والمرافق الموحدة . وذلك كله دون وحدة عضوية تنظيمية ، أو مبايعة مركزية" (91) . كما طبقت الحركة هذا النهج على الجماعات الإسلامية المغتربة في السودان "فإن سياسة الحركة معها أن ترعاها حق رعايتها ، على أن تحفظ لها اعتبارها القومي ، واستقلالها الحركي الذاتي ، لتتفرغ لهمومها الخاصة عاجلا ، ولتتهيأ للاستجابة المخصوصة لتحديات بلادها آجلا" (92) . ومن الواضح أن قادة التنظيم الدولي أخطأوا التقدير في رفض الصيغة التي اقترحتها الحركة الإٍسلامية في السودان ، لأن منهج التنسيق المرن هو المنهج الملائم للعلاقة بين الحركات الإسلامية. حيث تشير كل الدلائل إلى أن مشكلة الحركات الإسلامية ليست مشكلة كم وحشد على المستوى الدولي ، بل هي مشكلة كيف وفاعلية في الواقع المحلي . والتركيز على الهم المحلي هو الذي يكسب الحركة فاعليتها وحيويتها ، وكل تبعية لقيادة دولية أو إقليمية ستكون على حساب الهم المحلي .كما أن منهج التنسيق المرن هو الذي ينسجم مع روح الشورى والعمل الجماعي . وما سوى ذلك مصادرة للاجتهاد المحلي ، وتحكم من القيادة الدولية في شؤون لم تحط بها علما ، وهو ما سيؤدي إلى أخطاء عملية فادحة . وحري بالحركات الإسلامية وهي تدعو الناس إلى الشورى أن تلتزم بها في قراراتها وفي علاقاتها ، ما أمكن ذلك .
انحراف عن المنهج
لقد كانت الحركة الإسلامية في السودان دائما من أكثر الحركات الإسلامية تحفظا على دعاوى العالمية الحركية ، وحذرا في إرسال الكلام على عواهنه بهذا الصدد ، كما لاحظ "ميلتون فيورست" فقال : "حينما سألت الترابي "هل تعتقد أن بقية دول العالم الإسلامي ستحذو حذو السودان ؟" لم يجبني - تلك الإجابة النمطية السهلة - بالإيجاب . وإنما قال بعد لأي :"أنا متأكد تماما أن كل دولة مسلمة تتجه الآن نحو إحياء إسلامي … لكني لا أؤمن بالحتمية التاريخية" (93). بيد أن الحركة السودانية انحرفت عن هذا النهج مطلع التسعينات ، وصدرت عن الترابي تصريحات أقل تحفظا ، وأكثر إثارة من ذي قبل . كما ظهرت من الحركة السودانية مطامح إلى قيادة عالمية لم تستعد لها ، ولا يتحملها واقع بلدها الهش ، ولا تخدم العمل الإسلامي والحركات الإسلامية . وقد تجسد ذلك في فكرة "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي" الذي يشرح لنا الدكتور الترابي فلسفة الحركة السودانية حول إنشائه ، ونظرتها إلى طبيعته وأدائه ، فيقول : "وحين عمرت علاقة الحركة الثنائية بالحركات الإسلامية على نحو ما تقدم ، وتعاظم هم الحركة العالمي ، دعت الحركة وسعت لإقامة مؤتمر عالمي دائم للحركة الإسلامية ، وقدرت أن ذلك المشروع تجسيد وتطوير لمفهوم التنسيق ، لأنه ينبني بتدبير نظامي ثابت على صعيد جامع ينتظم العالم متجاوزا للدائرة الإقليمية العربية وغيرها . وتصورته الحركة توفيقا بين شتى الاعتبارات ، إذ يراعي تعدد صور الاستجابة الإسلامية في العالم : اجتهادات رأي ، وأنماط تنظيم وتشكيل ، بسبب اختلاف الرؤى أو تباين واقع البلاد ، كما يحاصر دواعي الانقطاع والتباعد الإقليمي ، والتجافي بعصبية الولاءات التنظيمية . ومهما كان الانتماء [إلى هذا المؤتمر] نظاميا راتبا يتيح محورا للتعارف والتعاون والتفاعل في شتى الأطر والمجالات ، فإنه غير إلزامي ، لا يؤسَّس على علاقة رئاسية مجبرة كابتة ، إلا أن يتمخض التشاور الائتماري عن إجماع والتزام . وقد اقترحت الحركة أن يضم المؤتمر الحركات العامة ، والتنظيمات الوظيفية المتخصصة ، والشخصيات من كل إقليم بكل لغة عالمية ، ولو تعدد وتمايز المشاركون من البلد الواحد . فلا بأس بالتعددية ما دامت الأسرة المؤتمرة كلها تجديدية النزعة ، جهادية المسعى ، شمولية التصور ، تؤمن بالتزكية الفردية الصادقة ، والتنظيم والعمل الجماعي الملتزم" (94) . ثم يعقب الترابي على هذا الوصف المستفيض قائلا : "هذه صورة تنسيقية جماعية سمحة ، تتسع لرؤى الحركات الإسلامية كافة ، ولا تكلف أيا منها ما لا تقبله أو تطيقه ، وتنفتح نحو علاقة توحيدية مرجوة بين الأمة الإسلامية"(95). وقد طعَّم السودانيون مؤتمرهم الشعبي العربي الإسلامي ببعض القوى القومية واليسارية ، ترسيخا للعلاقات السياسية بين الإسلاميين وغيرهم من القوى الاجتماعية ، وربما تخفيفا من الطابع الإسلامي الصارخ ، الذي لا يتحمله العدو المتربص من حكام الفساد وظهيرهم الدولي .
ولفائدة المقارنة نشير إلى أن أحد قدامى الإخوان في مصر ، وهو المفكر الإسلامي الدكتور فتحي عثمان ، دعا إلى نفس الصيغة التنسيقية التي دعت إليها الحركة الإسلامية السودانية ، حيث اقترح "قيام "هيئة شورية" على نطاق عالمي ، تجتمع سنويا أو مرتين في العام ، وتمثل فيها الجماعات الإسلامية التي تقبل العضوية … وتصدر الهيئة توصيات لا قرارات ملزمة … وليس لهذه الهيئة أية صلاحيات إدارية بالنسبة للتنظيمات المنضوية إليها" (96) .
ورغم أن صيغة المؤتمر الشعبي هذه تشتمل على فوائد مبدئية وعملية لا توجد في "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين" ، منها تجاوزها حدود الدائرة العربية الضيقة ، والتزامها بمبدإ التنسيق المرن الذي طالما دعت إليه الحركة السودانية ، فإن تأسيس المؤتمر كان خطأ جسيما ، وغفلة كبيرة عن الواقع الإقليمي والدولي ، وانحرافا كبيرا عن فلسلفة الحركة ورؤيتها المتبصرة لموضوع العلاقات بين الحركات الإسلامية . ومما يوضح ذلك :
* أنه ليس من منطق الدولة - أي دولة مهما كانت قوتها - أن تستضيف كل المعارضين والمتمردين والمغضوب عليهم في الدول الأخرى على صعيد واحد ، وتنصب لهم منابر القول، وتوفر لهم وسائل الفعل ، ثم تطمع بعد ذلك في التعايش مع حكام تلك الدول . فكيف إذا كانت دولة هشة البنية ، ممزقة الأحشاء بصراعاتها المحلية ، محاطة بسور من الأعداء المتربصين، مراقَبة من طرف القوى الدولية الحاقدة ، حاملة لرسالة الإسلام أيام غربته !!!
* أن وجود أي تنظيم دولي للحركات الإسلامية بشكل معلن يستفز الحكام المستبدين والقوى الدولية المتربصة ، ويزيد من خوفهم وعدائهم ، وربما أدى إلى تضافر جهود الأعداء ضد هذه الحركات ووقوفهم جبهة واحدة . وقد كان في الاستفادة من تناقضات أولئك الحكام وتلك القوى ثمرات طيبة على الصحوة في الماضي . فكانت الصحوة إذا ضاق بها بلد انسابت إلى بلدان أخرى ، فانبسطت فيها . وهو ما لا يتاح في حرب الجبهات العريضة . وفي هجرة الإخوان المصريين والسوريين إلى بلدان إسلامية و غير إسلامية ، وما نشروه من خير في أركان الأرض ، أبلغ دليل على ذلك .
* أن الحكام الظلمة في العالم الإسلامي بعضهم أولياء بعض ، يجامل كل منهم الآخر في مجال سياسة البقاء . وقد أدرك المجاهد الجزائري "الفضيل الورتلاني" هذه الظاهرة ، حين اشترك مع "الأحرار اليمنيين" في محاولة للتخلص من الحكم الملكي الفاسد باليمن عام 1948 ، ثم وجد نفسه مشردا بعد فشل المحاولة ، ومكث شهورا على ظهر سفينة يبحث عن مرسى في أي دولة عربية دون جدوى . وقد كتب الفضيل في إحدى رسائله يصف هذا الأمر ، فسماه "استحكام حلقات المجاملة" (97) . وكان حريا بالحركة الإسلامية في السودان - بعد نصف قرن على رسالة الفضيل - أن تكون أكثر حيطة وانتباها لهذا الأمر . فكل ما تغير بعد رسالة الفضيل الورتلاني هو تحول "حلقات المجاملة" إلى حلقات مؤامرة" كما هو واضح .
* أن المآخذ التي طالما أخذها الإخوة السودانيون على "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين" ليست مآخذ فرعية فقط : هيمنة مصرية تستبدل بقيادة أكثر توازنا ، أو بيعة ملزمة تستبدل بـ"صورة تنسيقية جماعية سمحة" ، أو هيئة عربية ضيقة تستبدل بهيئة إسلامية واسعة ، وإنما كانت المآخذ تتناول المبدأ الأصلي : مبدأ وجود تنظيم دولي إسلامي . لكن السودانيين بتأسيس "المؤتمر الشعبي" ارتكبوا نفس الخطإ الذي كانوا يأخذونه على إخوانهم المصريين .
* أن تبادل الخبرات العامة والخاصة بين الحركات الإسلامية أمر واجب ، وفريضة تستلزمها وحدة الغاية . والحركة الإسلامية في السودان تملك خبرة نوعية وتجربة غنية يحتاجها الإسلاميون في كل أرجاء الأرض ، ونقل هذه الخبرة لا يستلزم وجود تنظيم دولي موحد ، أو مؤتمر إسلامي عالمي ، بل الأحوط أن يتم بشكل ثنائي . وكل حشد مثير للعدو سيضر بتلك العملية الحيوية ، التي هي أهم من التنظيمات والمؤتمرات ، ومن البيانات والشعارات .
لقد أدرك السودانيون هذه الحيثيات ، بعد أعوام من الحشد والشعارات ، فبادروا إلى حل "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي" ثم جاءت أحداث الرابع من رمضان 1420 هـ خطوة عنيفة في طريق التنصل من تلك الأخطاء . ويبدو أن تلك الأحداث ستكون فاتحة لتوجه جديد في العمل ، يعطي المظهر الوطني أولوية على المظهر الإسلامي - دون تنازل في المضامين - ويجعل للفاعلية في العلاقات أولوية على الشعارات ، تمهيدا للمرحلة التي يدعوها الترابي "مرحلة الفناء" : فناء الحركة في المجتمع . ومهما يكن من أمر ، فإن أحداث الرابع من رمضان وما تلاها من تطورات تبشر بالخير : إذ تدل على أن الحركة الإسلامية في السودان لا تزال ممسكة بزمام أمرها ، قادرة على الاستدراك ، مستعدة لدفع ثمن التصحيح ، وأن فقه الحركة لم يعد أنضج لديها من فقه الدولة ، كما كان الحال في الماضي.

---------------------------------
هوامش الفصل السابع
(1)- الترابي : أولويات العمل الإسلامي في ثلاثة عقود قادمة ص 7-8
(2)- EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 166
(3)- نقلا عن : مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 146 ط 1982
(4)- مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان ص 152
(5)- مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان ص 6 ط 1982
(6)- الترابي : أولويات العمل الإسلامي ص 9 -11
(7)- نفس المرجع ص 11
(8)- د. محمد عمارة : "من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة" ضمن كتاب : "الحركة الإسلامية ، رؤية مستقبلية ص 336
(9)- الترابي : أولويات العمل الإسلامي ص 28
(10)- الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 27
(11) - نفس المرجع ص 5
(12) - نفس المرجع ص 264
(13) - نفس المرجع ص 271
(14) - نفس المرجع ص 269
(15) - نفس المرجع ص 270
(16) - نفس المرجع ص 269
(17) - نفس المرجع والصفحة
(18) - نفس المرجع ص 270
(19) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 19 ط 1982
(20) - نفس المرجع ص 26-27
(21) - نفس المرجع ص 27 (هامش)
(22) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 54
(23) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 263
(24) - هذا تعبير الأستاذ مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 176
(25) - انظر : أبو القاسم حاج حمد : "السودان : المأزق التاريخي وآفاق المستقبل" الجزء الأول ، فقرة بعنوان : "مصر حجاب لمطامع الآخرين"
(26) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 13
(27) - نفس المرجع ص 61
(28) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 264
(29) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 100 ط 1982
(30) - نفس المرجع ص 112
(31) - نفس المرجع ص 131
(32) - نفس المرجع ص 112
(33) - Viorst : In the Shadow of the Prophet p. 111
(34) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 23
(35) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 264
(36) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 107(هامش)
(37) - نفس المرجع ص 144
(38) - د. عبد الله فهد النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (ضمن كتاب :"الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية) ص 242
(39) - النفيسي : نفس المرجع 243
(40) - النظام العام للإخوان المسلمين ، المادة 9 (ملحق بكتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية " ص 401-416)
(41) - النظام العام للإخوان المسلمين ، المادة 18
(42) - نفس المرجع ، المادة 31
(43) - نفس المرجع ، المادة 19
(44) - النظام الأساسي للإخوان المسلمين بمصر ، المادة 31
(45) - النظام العام للإخوان المسلمين ، المادة 43
(46) - نفس المرجع ، المادة 44
(47) - النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 242
(48) - النفيسي : نفس المرجع ص 247-248
(49) - النظام العام للإخوان المسلمين ، المادة 4
(50) - نفس المرجع ، المادة 22
(51) - النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 244
(52) - النظام العام للإخوان المسلمين ، المادة 26
(53) - انظر نفس المرجع ، المادتان 22 و 30 على الترتيب
(54) - نفس المرجع ، المادة 13
(55) - نفس المرجع ، المادة 10
(56) - انظر نفس المرجع ، المادتان 20 و 32 على الترتيب
(57) - نفس المرجع ، المادة 32
(58) - نفس المرجع ، المادة 16
(59) - نفس المرجع ، المادة 1
(60) - نفس المرجع ، المادة 19
(61) - نفس المرجع والمادة
(62) - النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 244
(63) - النفيسي : نفس المرجع ص 251
(64) - النفيسي : نفس المرجع والصفحة
(65) - النظام العام للإخوان المسلمين ، المادة 9
(66) - نفس المرجع ، المادة 24
(67) - نفس المرجع ، المادة 33
(68) - نفس المرجع ، المادة 40
(69) - نفس المرجع ، المادة 31
(70) - النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 253
(71) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان 265
(72) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 145
(73) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 159
(74) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 265
(75) - النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 253
(76) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 272
(77) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 146
(78) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 266
(79) - انظر Dekmejian : Islam in Revolution p. 205
(80) - Viorst : In the Shadow of the Prophet p. 77
(81) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 146
(82) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 174
(83) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 118
(84) - EL-Affendi p. 145
(85) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 121
(86) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 266
(87) - النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 253
(88) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 266
(89) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 155
(90) - نفس المرجع ص 181
(91) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 272
(92) - نفس المرجع ص 270
(93) - Milton Viorst : In the Shadow of the Prophet p. 140
(94) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 273
(95) - نفس المرجع والصفحة
(96) - د. فتحي عثمان : "الحركة الإسلامية ، العنصر الدينامي الاجتهادي في أسسها الفكرية" ضمن كتاب : "الحركة الإسلامية ، رؤية مستقبلية ص 310
(97) - انظر نص رسالة الفضيل في كتاب أحمد بن محمد الشامي : "رياح التغيير في اليمن" ص 307 ط أولى ، المطبعة العربية ، جدة 1984


0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية