الجمعة، 13 فبراير 2015

الحركة الاسلامية في السودان 4/8

الفصل الثالث
البنية الهيكلية

فدعْ ترَفَ الغمد ، ما للهلالْ
على فخره غيرُ شكل الحسـامْ
محمد إقبال

ليست البنية الهيكلية لأي حركة تغيير أمرا ثانويا ، بل هي الجسم الذي تودعه الحركة روحها ، والشكل الذي يحمل رسالة الحركة ويعبر عنها . والهيكل التنظيمي - مهما كانت أهميته - يظل وسيلة لا غاية ، فهو الإطار الذي يضمن ترشيد طاقات التدين وتسديدها ، وتصويبها إلى أهدافها بتناغم وانسجام وفاعلية .
بيد أن الهياكل التنظيمية تحولت إلى غايات في تفكير بعض الحركات الإسلامية التي لا تزال تحكمها نفس البنى الهيكلية منذ سبعين عاما ، دون اعتبار للحاجات المتغيرة . وذلك خلل كبير ، كنا قد رأينا في الفصل الثاني كيف حذر منه إقبال ، في دعوته إلى التحرر من زخرفة الغمد ، والتشبث بمضرب السيف .
كما أن الأشكال التنظيمية في تلك الحركات أشكال متخلفة عن مقتضيات الشرع والعصر معا ، في بنيتها الهيكلية وفي بنائها القيادي . فلا هي التزمت مبادئ الشرع في الشورى التي تنادي بها ، ولا هي احترمت القواعد العلمية في التنظيم التي تفتق عنها العقل البشري والتجربة البشرية في العصر الحديث . وقد نعى الترابي هذا المنحى ، فقال : "إن الحركات الإسلامية - حتى في أشكال تنظيمها - لا تضرب نموذجا صادقا للإسلام ، فمثلا تجد أن القيادة غير شورية ، أو تجدها شورى شبه وراثية ، وتجد علاقات المناصحة والمناصرة لا تمثل نموذجا للدولة الإسلامية التي يريدونها . ولو أنهم نقلوا الصورة التي تقوم عليها جماعتهم إلى المجتمع ، لكانت صورة شائهة للإسلام" (1) .
ونظرا لأن الحركة الإسلامية في السودان لم تنطلق من فراغ ، وإنما بنت على التراث التنظيمي الذي اكتسبه الإخوان في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان - كما أوضحنا في الحديث عن مصادر فكرها التنظيمي - فقد يكون من المفيد للمتأمل في تجربتها التنظيمية أن يلقي نظرة على الهيكل التنظيمي لكل من "الإخوان" و"الجماعة" ، حتى يدرك جوانب الاستفادة والاقتباس ، ومواطن الاستدراك والتجديد لدى الحركة السودانية ، ويفهم جذور القصور لدى الحركات الإسلامية التي اكتفت بتقليد تلك التجارب الأولى دون مساءلة أو نقد ، ووقفت عند حدودها دون تجاوز أو طموح .
في البدء كان "الإخوان" و"الجماعة" ..
يستمد العمل الإسلامي المعاصر فكرة العمل الجماعي المنظم من تجربة الإخوان المسلمين في مصر بقيادة الإمام الشهيد حسن البنا ، والجماعة الإسلامية في باكستان بقيادة العلامة أبي الأعلى المودودي . ولقد كان للإخوان المصريين الأثر الأعظم في هذا المضمار ، لأسباب عديدة أهمها :
* أنهم السابقون إلى تقديم فكرة العمل الحركي المنظم : فقد تأسس تنظيمهم عام 1928 ، بينما تأخر تأسيس الجماعة إلى عام 1941 .
* أن تجربتهم وصلت إلى الآخرين ، بفضل ما نشروه من فكرهم ، وما كتبه عنهم غيرهم . وقد نقل المهاجرون منهم تلك التجربة إلى كل الآفاق .
* أنهم كانوا أكثر تشبثا من غيرهم بعالمية الحركة الإسلامية ، وإن كان ذلك التوجه اتخذ طابعا إلحاقيا سلبيا أحيانا ، كما سنرى في الفصل السابع .
* أن التجربة المريرة التي عاشوها تحت الاضطهاد الناصري ، والمصابرة التي أبدوها أمام بطش الظلمة ، هزت ضمائر المسلمين في كل مكان ، وشدتهم إلى دراسة هذه التجربة والاستفادة منها.
ورغم أن الجماعة الإسلامية في باكستان كان لها حظها من الريادة كذلك ، إلا أن بعض العوائق حالت دون تأثير تجربتها التنظيمية على الحركات اللاحقة بشكل مؤثر . ومن هذه العوائق :
* أن المناخ السياسي في باكستان الذي اتسم بحرية نسبية ، وشخصية المودودي العلمية المجددة ، نحت بالجماعة نحو الاهتمام بالفكر السياسي أكثر من الفكر التنظيمي .
* أن أكثر تراث الحركة مكتوب بالأوردية أو الانكليزية - لا بالعربية - مما شكل حاجزا بينه وبين الحركات الإسلامية في الدول العربية ، بل وكثير من المسلمين في العالم .
وهكذا فإن تركيزنا على هاتين الحركتين في المقارنة هنا ، يرجع إلى أسباب ثلاثة :
* أهميتهما من حيث الريادة والسبق .
* وآثارهما العظيمة على التجارب التي تلتهما سلبا وإيجابا .
* وبيان أهمية الاستدراك والتجاوز .
البنية الهيكلية لحركة الإخوان بمصر (المخطط : أ)
يقدم المخطط الوارد في الصفحة التالية تصورا إجماليا عن البنية التنظيمية لحركة الإخوان المسلمين بمصر ، استنبطناه من النظام الأساسي للحركة الصادر عن جمعيتها العمومية يوم 8/9/1945 والمعدل يوم 30/1/ 1948 ومن اللائحة الداخلية العامة للحركة الصادرة عن مكتب الإرشاد يوم 2/11/1951.


المخطط (أ) : الهيكل التنظيمي لحركة الإخوان المسلمين بمصر

يتضح من المخطط (أ) أن حركة الإخوان المسلمين في مصر تتألف من عدد من الهيئات ، هي :
? المرشد العام : "المرشد العام للإخوان المسلمين هو الرئيس الأعلى للهيئة ، كما أنه رئيس مكتب الإرشاد العام والهيئة التأسيسية" (2) "..ويبايعه الإخوان في الشعب المختلفة عن طريق رؤسائهم ، ويجددون بيعتهم معه لأول لقاء يجتمعون به فيه" (3) و"يقوم المرشد العام بمهمته مدى حياته ، ما لم يطرأ سبب يدعو إلى تخليه عنه" (4) .
? الهيئة التأسيسية : وهي أعلى هيئة في الحركة ، ومجلس شوراها ، ومرجعيتها من حيث الشرعية القيادية ، وتتألف من الأعضاء المبادرين بتأسيس الحركة "من الإخوان الذين سبقوا بالعمل لهذه الدعوة" (5) . "ولهذه الهيئة أن تقرر في أي اجتماع .. منح بعض الإخوان حق العضوية للهيئة التأسيسية … ويجب أن لا يزيد عدد من يمنحون هذه العضوية على عشرة إخوان في كل عام" (6) . ولا بأس بالتذكير هنا أن "عدد أعضاء الهيئة التأسيسية عام 1948 - تاريخ الحل الأول - مائة عضو ، وفي عام 1954 أصبح عدد الأعضاء 146 ، بعد فصل أربعة في أحداث الانشقاق عام 1953" (7) .
? السكرتير العام "السكرتير العام يمثل مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين تمثيلا كاملا في كل المعاملات الرسمية والقضائية والإدارية ، إلا في الحالات الخاصة التي يرى المكتب فيها انتداب شخص آخر بقرار قانوني منه" (8) "مهمة السكرتير العام تنفيذ قرارات مكتب الإرشاد العام ، ومراقبة نواحي النشاط وأقسام العمل بالمركز العام ، وله أن يستعين بغيره من الأعضاء أو الموظفين ، ولكن هو المسؤول أمام المكتب عما يسند إليهم من أعمال . وفي حالة غياب السكرتير العام أو تعذر قيامه بعمله ، ينتدب المكتب من بين أعضائه من يحل محله مؤقتا" (9) .
? لجنة التحقيق والجزاء : "تنتخب الهيئة التأسيسية من بين أعضائها (ومن غير الأعضاء المنتَخبين للمكتب) لجنة مكونة من سبعة أعضاء ، ويفضل غير القاهريين ، وذوو الإلمام والصلات بالفقه الإسلامي والإجراءات القانونية ، مهمتها تحقيق ما يحال عليها من المرشد العام ، أو مكتب الإرشاد ، أو الهيئة نفسها ، خاصا بما يمس الأعضاء في سلوكهم أو الثقة بهم أو أي أمر آخر . ولهذه اللجنة أن تُوقِع ما تشاء من الجزاءات ، حتى الإعفاء من العضوية ، على أن تعتمد ذلك من المرشد العام" (10) .
? مكتب الإرشاد العام : ويتألف من ثلاثة عشر عضوا - بمن فيهم المراقب العام - تنتخبهم الهيئة التأسيسية من بين أعضائها لمدة سنتين "ويلاحظ في انتخابهم أن يكون تسعة منهم من إخوان القاهرة ، والثلاثة الباقون من بين إخوان الأقاليم" (11) . "ولمكتب الإرشاد أن يضم لعضويته عددا من أعضاء الهيئة التأسيسية من ذوي الكفاءة والمؤهلات والسبق في الدعوة ، على أن لا يزيد عدد هؤلاء عن ثلاثة أعضاء" (12) .
? الأقسام واللجان : وهي هيئات مركزية متخصصة تابعة لمكتب الإرشاد العام يؤلفها المكتب "من بين أعضائه أو من بين أعضاء الجماعة العاملين" (13) وهي "تخضع له وتتبعه ، ومقرها المركز العام" (14) . "وتعرض أعمال الأقسام واللجان على المرشد العام ، أو على المكتب إذا رأى المرشد ذلك أو رآه المكتب" (15) . "ويعين مكتب الإرشاد رؤساء الأقسام واللجان .. " (16) .
? الشعب والفروع الخارجية : "للمركز العام أن ينشئ للهيئة شعبا وفروعا في البلاد العربية والإسلامية وغيرها ، مع ملاحظة الأوضاع والظروف الخاصة . وتحدد الصلة بينه وبينها بلوائح وقرارات في مؤتمرات جامعة تضم ممثليه وممثلي هذه الشعب" (17) (انظر تحليل هذه النقطة ضمن الحديث عن العلاقة بين الحركات الإسلامية في الفصل السابع) .
? الأسر : وهي أصغر الوحدات التنظيمية في الحركة "بحيث لا يزيد عدد الأسرة عن خمسة يُختار أحدهم نقيبا للأسرة" (18) . فالأسرة هي اللبنة الأولى في البناء الحركي العام .
? الشعب : "وهي أصغر الوحدات الإدارية" (19) بحيث "يمكن أن تتكون شعبة في كل قرية أو بلدة" (20) . وهي تتألف من مجموعة الأسر الموجودة في تلك البلدة . "ويدير شؤون الشعبة مكتب مكون من خمسة أشخاص ، أحدهم يختاره المركز العام ، وهو رئيس الشعبة أو نائبها ، والأربعة الباقون تنتخبهم الجمعية العمومية" (21) .
? المناطق : وهي تتألف من مجموع الشعب الواقعة في حدود مركز إداري مصري . ويقود المنطقة "رئيس الشعبة الرئيسية رئيسا .. ويجوز أن يختار المركز العام رئيسا للمنطقة" (22).
? المكاتب الإدارية : وهي تتألف من مجموع المناطق الواقعة في حدود أي محافظة من المحافظات المصرية . ويقود المكتب الإداري رئيس الشعبة الرئيسية من بين شعبه "ويجوز أن يختار مكتب الإرشاد من الإخوان العاملين في الأقاليم وغيرها رئيسا للمكتب الإداري ، ولو لم يكن رئيس شعبة أو عضوا فيها" (23) .
نظرات في هيكل الإخوان بمصر
إن المتأمل في الهيكل التنظيمي لحركة الإخوان المسلمين بمصر ، وفي النصوص المنظمة لشأنها الداخلي على ضوء معايير التقييم التي أبرزناها في المقدمة ، يمكن أن يتوصل إلى الملاحظات التالية:
* الإخلال بمبدإ الشرعية القيادية التي تجعل الأعضاء هم أصحاب القرار الأخير في اختيار أجهزة الحركة وقادتها . وكل هيكل تنظيمي لا ينبني على هذا المبدإ ، فهو يؤصل الاستبداد والجمود . لقد نص النظام الأساسي على أن الهيئة التأسيسية تتألف "من الإخوان الذين سبقوا بالعمل لهذه الدعوة" (24) . ورغم غموض هذا النص قانونيا ، إلا أنه يمكن التغاضي عنه ، إذ لا بد من مبادرين في البدء . لكن مكمن الداء يظهر من خلال سكوت النص عن مصدر الشرعية القيادية الدائمة التي أعطاها هؤلاء المؤسسون لأنفسهم ، حيث نص النظام الأساسي على أن الهيئة التأسيسية "تعتبر مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين ، والجمعية العمومية لمكتب الإرشاد" (25) ولم تشر الوثائق القانونية للإخوان إلى أي نوع من التجديد الانتخابي تخضع له الهيئة . ومن المعروف أن سلطة التأسيس لا تعطي شرعية قيادية دائمة في أي تنظيم يريد لنفسه التوسع والنماء، لكن الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين بمصر منحت نفسها شرعية دائمة ، وحرمت أعضاء الحركة غير المؤسسين من أي حق في تغييرها ، ومنعتهم من أي حق في المشاركة فيها ، إلا ما تتكرم به الهيئة من إلحاق أعضاء جدد إن شاءت . ومن الواضح أن الإخوان المصريين أعطوا عنصر السبق الزمني أولوية على عنصر الكفاءة القيادية ، مما أورث الحركة تصلبا داخليا وجمودا واضحا بعد رحيل الإمام المؤسس وشيخوخة الجيل الرائد . وهو أمر حتمي في كل تنظيم يغفل معياري المرونة والاستيعاب في بنائه الداخلي . ولقد كان الإخوان في غنى عن ذلك : فليس كل سابق مؤهلا للقيادة ، ولا كل متأخر قاصرا عنها .
* لقد أشارت "الأحكام العامة" الواردة في ختام النظام الأساسي للإخوان المسلمين بمصر إلى أنه "ينعقد كل سنتين مؤتمر عام من رؤساء شعب الإخوان المسلمين ، بدعوة من المرشد العام ، بمدينة القاهرة ، أو بأي مكان آخر يحدده ، ويكون الغرض منه التعارف والتفاهم العام في الشؤون المختلفة التي تتصل بالدعوة ، واستعراض خطواتها في هذه الفترة" (26) . وكان من المفترض إعطاء هذه المؤتمرات سلطة قانونية تأسيسية ، بحيث تكون قادرة على انتخاب قادة الحركة ومحاسبتهم وعزلهم ، لأنها الهيئة العريضة الوحيدة التي تضم ممثلين عن جميع الإخوان في جميع أرجاء الدولة المصرية . لكن قوانين الإخوان - للأسف الشديد - لم تعط هذه المؤتمرات أية قيمة قانونية ملزمة ، بل تركتها مجرد حشد "للتعارف والتفاهم العام" . وبذلك ظلت السلطة التأسيسية محصورة في أيدي المرشد وزملائه أعضاء الهيئة التأسيسية ، وهم ثلة قليلة ، لا تمثل أعضاء الحركة ، ولا تضمن سير الأمور بالشورى والتداول الحر . ولسنا نقلل من شأن تلك المؤتمرات - التي سنشير إلى بعض ثمراتها فيما بعد - وإنما أردنا بيان الحقيقة المرة المتمثلة في إضاعة فرصة لبناء شرعية داخلية في الحركة ، وهي المعضلة الكبرى في كل مسارها .
* لم يكتف نظام الإخوان بحرمان القاعدة من اختيار القيادة العليا : المرشد العام ومكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية ، وإنما حرمها من اختيار القادة المحليين : رؤساء الشعب والمناطق والمكاتب الإدارية . فقد نص النظام الأساسي على أن مجلس إدارة كل شعبة يتألف "من رئيس يختاره المركز العام ، ووكيلين وسكرتير وأمين صندوق تنتخبهم الجمعية العمومية [المحلية] من بين أعضائها" (27) . وفي الحديث عن المناطق نصت اللائحة الداخلية على أنه "يجوز أن يختار المركز العام رئيسا للمنطقة ، أحد أعضاء مجلس إدارة الشعبة الرئيسية ، أو المعتبرة كذلك ، أو أخا عاملا يرى فيه الكفاية" (28) . ثم جاء دور المكاتب الإدارية ، فجاءت اللائحة الداخلية بما هو أكبر من ذلك ، حيث نصت على أنه "يجوز أن يختار مكتب الإرشاد من الإخوان العاملين في الأقاليم وغيرها رئيسا للمكتب الإداري ، ولو لم يكن رئيس شعبة أو عضوا فيها" (29) . وهكذا انتهى الأمر إلى غايته القصوى ، فأصبح من حق مكتب الإرشاد أن يعين رئيسا للمكتب الإداري الإقليمي ، حتى ولو لم تكن تربطه أي صلة تنظيمية أو جغرافية بالإقليم . وفي ذلك ما فيه من الإغراق في المركزية، والإخلال بمبدأيْ الشرعية القيادية والحرية الداخلية .
* لقد أراد المؤسسون أن يعوضوا عن حق أعضاء الحركة في الاختيار ، من خلال سياسة الإلحاق: فمنحوا الهيئة التأسيسية الحق في ضم عشرة أعضاء إليها سنويا . لكن هذه السياسة لا تحل الإشكال الرئيسي المتعلق بالشرعية القيادية ، ولا تضمن ولاء الناس لقادتهم ، ولا تترك مجالا للمرونة الداخلية التي تفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها ، بناء على اختيار حر من الأعضاء ، لا بناء على رأي القيادة القائمة . والمرونة الداخلية هي التي تضمن لأي تنظيم تجديد شبابه ، وتكييف نفسه مع الظروف المتغيرة . أما التنظيم الذي لا يستطيع تغيير نفسه ، فهو لن يستطيع تغيير مجتمعه بداهة . وربما اعترض البعض على هذا الطرح متعللين بأن عملية الإلحاق كافية للتجدد الذاتي ، لكن هؤلاء المعترضين ينظرون إلى الأشكال لا إلى المضامين ، وإلا فإن الفرق هائل - كمًّا ونوعا - بين اختيار القاعدة لقيادتها وتحكمها في تغييرها ، بما يضمن تلاؤمها مع حاجات الحركة .. وبين اختيار القيادة لمن تثق في ولائهم في إطار عملية تثبيت لنفسها ، وتوسيع لنفوذها ، وترسيخ لبقائها . هذا فضلا عن أن عملية الإلحاق - على علاتها - غير ملزمة للهيئة ، وإنما هي حق لها ، ففي وسعها - نظريا - عدم ضم أحد إلى الأبد .
* الخلط بين السلطة التأسيسية والسلطة الرقابية . فالأصل في التنظيمات القائمة على الاختيار الطوعي أن السلطة التأسيسية بيد الأعضاء جميعا ، وهي سلاحهم ضد السلطة التنفيذية وضد السلطة الرقابية (مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية في حالتنا) إذا أخلتا بمهمتهما . لكن حركة الإخوان في مصر امتازت بظاهرة فريدة في التنظيمات ، وهي أن السلطة التأسيسية والسلطة الرقابية اجتمعتا في أيدي هيئة واحدة ، فأدى ذلك إلى خللين : أولهما حرمان الغالبية الساحقة من الأعضاء من حقهم في السلطة التأسيسية : أي في انتخاب القيادة وعزلها ، وثانيهما : انعدام الرقابة على السلطة الرقابية ، بسد الباب أمام تجديدها . ومن الطريف أن الإخوان المصريين حاولوا التغلب على هذا الخلل الأخير من خلال إعطاء المرشد حق التحفظ على أعضاء الهيئة التأسيسية وتوقيفهم ، وهو نقيض ما هو مفترض : لأن الأصل أن الهيئة الرقابية هي التي تتمتع بهذا الحق تجاه السلطة التنفيذية ، لا العكس .
* من الواضح أن دور الهيئة التأسيسية ظل هامشيا مع ذلك ، رغم أنها ضمنت لأعضائها البقاء في مناصبهم مدى حياتهم . فقد انحصر هذا الدور في مهمتين : ما تقوم به لجنة التحقيق والجزاء من مراقبة لسلوك الأعضاء ، وانتخاب أعضاء مكتب الإرشاد كل عامين . أما المهمة الأولى فليس لها تأثير جدي على مسيرة العمل في عمومه ، وكان المفترض في مجلس شورى الإخوان - الهيئة التأسيسية - أن يكون له دور أكثر فاعلية في صناعة القرارات الاستراتيجية للحركة ، أو تأطيرها والرقابة عليها على الأقل . كما أن قرارات هيئة التحقيق والجزاء لا بد من اعتمادها لدى المرشد . وأما المهمة الثانية فيقلل من شأنها أن رئيس المكتب - المرشد العام - يتمتع بسلطة دائمة مدى الحياة . فانتخاب أعضاء المكتب كل عامين لا يضمن تجديدا جوهريا في مضمون السلطة التنفيذية أو تعديلا أساسيا في مسارها ، ما دام المرشد الذي هو رأس هذه السلطة في مكانه ، وهو رئيس الهيئة التأسيسية نفسها . ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الهيئة لا تجتمع في الحالات العادية إلا مرة واحدة في السنة ، وهو أمر يجعل رقابتها على شؤون الحركة قاصرا ، نظرا لعدم المتابعة . وسنرى كيف حاولت الجماعة الإسلامية في باكستان التغلب على ذلك من خلال فكرة إنشاء "مجلس العمل" ، فصنعت مشكلة أكبر من المشكلة القائمة .
* إن صلاحيات المرشد العام تجاوزت كل حدود معقولة . فالمرشد أولا "يقوم بمهمته مدى حياته" ، وهذا خلل كبير في الهيكل التنظيمي للإخوان ، قضى على كل إمكانية للتجدد الذاتي . وهو - ثانيا - يتمتع بسلطة وصلاحيات يعسر حصرها : فهو "الرئيس العام للهيئة، ولمكتب الإرشاد ، وللهيئة التأسيسية" كما أسلفنا ، ومن حقه نقض قرارات لجنة التحقيق والجزاء (30) وتوقيف أعضاء الهيئة التأسيسية (31) . وهنالك صلاحيات ممنوحة للمركز العام. وليس واضحا ما المراد بـ"المركز العام" هنا : هل هو المرشد العام أم مكتب الإرشاد . من هذه الصلاحيات : نقض قرارات الجمعيات العمومية المحلية (32) وتعيين رؤساء الشعب والمناطق والمكاتب الإدارية وإعفاؤهم من مهامهم (33) . ولا شك أن تراكم هذه الصلاحيات يظلم القاعدة لأنه يخل بمبدإ توزيع السلطة وتوازنها ، ويظلم القيادة لأنه يستنزف طاقتها ، ويشتت اهتمامها .
* يتسم الهيكل التنظيمي للإخوان بمركزية شديدة . ويكفي أن ينظر القارئ إلى صلاحيات المرشد العام ليدرك ذلك : إذ تتبع لمكتب الإرشاد الذي يرأسه عشرة أقسام ، و ست لجان ، وعدد غير محصور من الشعب والفروع في الخارج . كما أنه يشرف إشرافا مباشرا على فروع الحركة داخل المحافظات المصرية - إذ هي مجرد امتداد إداري له - وقد بلغ عدد المنتسبين حوالي المليون شخص قبيل اغتيال الإمام حسن البنا عام 1949م . وكأنما لم تجد الحركة المصرية هذه الصلاحيات كافية للمرشد العام، فمنحته رئاسة الهيئة عامة ، ورئاسة الهيئة التأسيسية . لا شك أن ديناميكية الإمام الشهيد ، وثقة الناس فيه ، وحبهم له ، قد سهلت الأمور بعض الشيء ، لكن إدارته المباشرة لهذه الهيئات والأقسام واللجان والفروع والشعب غير ممكنة عمليا إلا بالإخلال بالمهمة الأصلية للقيادة . كما أن أي بناء تأسس على المواهب الشخصية للقائد ، لا على الاطراد المؤسسي للتنظيم ، مآله الانقطاع والسقوط . ويبدو أن الخلل هنا نابع من أمرين : أولهما نقص في تصور مهمة القيادة العامة في التنظيمات، إذ المهمة الأصلية لأي قيادة عامة ليست الإدارة المباشرة للأمور الصغيرة ، وإنما هي التخطيط الاستراتيجي والإشراف العام (انظر الفصل الرابع) . والثاني : قصور في النظر إلى الامتداد الزماني ، وما انبنى عليه من تركيز على اللحظة الحاضرة وإهمال المستقبل . وربما كان هذا هو السبب فيما امتازت به حركة الإخوان في مصر والحركات السائرة على نهجها التنظيمي من حسن أداء في التربية الفردية - في جوانبها الأخلاقية والمبدئية- مع القصور في الرؤية الاستراتيجية العامة المتعلقة بحسم المعركة .
* يشتمل الهيكل الحركي للإخوان على إخلال خطير بمبدإ التوازن بين السلطات ، حيث طغت السلطة التنفيذية - ممثلة في شخص المرشد العام - على السلطتين التأسيسية والرقابية، بينما يقتضي التوازن أن تكون التأسيسية قادرة على محاسبة الرقابية ، والرقابية قادرة على محاسبة التنفيذية . ومرد الخلل هنا هو أن رئيس السلطة التنفيذية (المرشد العام) هو نفسه رئيس السلطتين الرقابية والتأسيسية ، مما يعني عمليا اجتماع السلطات الثلاث في يده ، بحيث أصبح خصما وحكما وشاهدا في ذات الوقت . وقد أدى ذلك إلى تحول كل الأجهزة القيادية إلى ملحقات بمكتب المرشد العام في الواقع العملي ، وإن حملت كل منها اسما مختلفا يوحي بغير ذلك. وكأن النص على بقاء المرشد في منصبه مدى الحياة غير كاف في ضمان ذلك المنصب لمتقلده .
هنا يكمن الخلل
ورب سائل يتساءل : إذا كان البناء الهيكلي للإخوان في مصر يشتمل على كل هذه المساوئ ، فكيف نجحت الحركة - أيام الإمام الشهيد البنا - في أن تصبح قوة فاعلة ، لها حيويتها المحلية ، وجاذبيتها الخارجية ؟ والجواب أن ذلك يرجع إلى شخصية حسن البنا أكثر من رجوعه إلى البناء التنظيمي والقوانين المتحكمة ، فقد كان حسن البنا يحب المشاورة ، ويحرص على المشاركة ، ولذلك "حاول - ما أمكنه - عدم التدخل في كل صغيرة وكبيرة من مجريات التنظيم والجماعة ، وأوكل ذلك إلى القيادات والمواقع المعينة" (34) . وكان من أمارات ذلك -كما لاحظ النفيسي بحق -حرص البنا على دعوة الحركة إلى تلك المؤتمرات العامة التي أشرنا إليها من قبل ، للتشاور وتبادل الرأي حول أمرها ، إذ "حرص البنا أشد الحرص على انعقاد المؤتمرات العامة للجماعة ، فانعقد الأول في مايو 1933 والثاني في أواخر نفس العام ، والثالث في مارس 1935 ، والرابع 1937 ، والخامس يناير 1939 . لقد كان لهذه المؤتمرات أثرها الكبير في تكريس الشورية ، وتبادل الرأي ، والمراجعات الإدارية والتنظيمية والسياسية للقرارات، وكانت فرصة كبيرة وهامة لتحسس نبض الجماعة قيادة وقاعدة . وكانت تمثل في هذه المؤتمرات كل الهيئات الإدارية للجماعة ، ابتداء من مكتب الإرشاد ، مرورا بمجلس الشورى العام الذي يتكون من نواب المناطق ونواب الفروع ومجالس الشورى المركزية ومؤتمرات المناطق وفرق الرحلات … لا شك أن لهذه المؤتمرات فائدتها العظيمة في تقوية القناعة العامة ضمن الجماعات بقراراتها وبوحدتها الفكرية والمنهجية في التعامل مع القضايا المطروحة في الساحة" (35) . لكن المشكلة تكمن في أن قيادة الإمام حسن البنا كانت دائما أحسن من قوانينه ، ولذلك لم يحول هذه الإجراءات والمؤتمرات إلى قانون ونظام يضبط أمر الجماعة ، وإنما كانت تلك المؤتمرات لقاء عاما "للتعارف والتفاهم العام" كما نص النظام الأساسي ، وللمشاورات غير الملزمة . ولم يمنح البنا للمؤتمرات أية صفة قانونية ، وهو أمر غريب حقا ، كما ذكرنا من قبل . ولذلك اختفت تلك المؤتمرات فيما بعد ، وتلاشت روح المشاركة تقريبا مع رحيل البنا . "ومن يدرس المراحل التي عاشتها الجماعة يعد مقتل البنا رحمه الله (12/2/1949) يلحظ غياب هذه المؤتمرات العامة ، ليس في مصر فقط، بل حتى في تنظيمات الإخوان في الأقطار الأخرى (سورية - اليمن - ليبيا - الجزائر) . نزيد فنقول : إن غياب هذه المؤتمرات العامة في تنظيمات الإخوان في معظم الأقطار التي تشكلت فيها هذه التنظيمات ، ساهم في خلخلة مراقبة القاعدة لقرارات وسياسات القيادة ، بل أدى لوصول الكثير من العناصر التي تفتقر للأهلية والشرعية إلى سدتها" (36) .
لقد كان لتنظيم تلك المؤتمرات دور أساسي في فاعلية الحركة وحيويتها أيام الإمام البنا والعكس بالعكس ، كما لاحظ الدكتور النفيسي في قوله : "يمكن القول إن فترة المرشد العام الأول للجماعة ، ومؤسسها حسن البنا رحمه الله - والذي تولى مسؤولية قيادة الجماعة منذ مارس 1928 حتى فبراير 1949 (21 سنة) ..كانت فترة الفعل والتأثير ، نظرا لأن أغلب فاعلياتها ومبادراتها كانت تعكس حركة في طور الصعود . واستطاع البنا - بسعته النفسية والشخصية - أن يثبت في تاريخ الجماعة بعض الأعراف والأصول التنظيمية والإدارية الإيجابية ، منها ظاهرة تنظيم المؤتمرات العامة التي عقدت تحت إشرافه الشخصي ومتابعته النشطة . لقد حرص البنا على اشتراك كل الهيئات الإدارية في الجماعة في هذه المؤتمرات ، وكانت الأعداد التي تحضر هذه المؤتمرات كبيرة ، والنقاشات والحوارات في اللجان المتخصصة تفصيلية . وفي ذلك فائدة كبيرة لرص صفوف الجماعة عبر "إسمنت" الحوار والنقاش ، وليس عبر الفرمانات [=القرارات] الفوقية، كما يحصل حاليا في الجماعة نفسها" (37) .
لقد غابت السلطة التأسيسية من تفكير الإخوان في مصر ، وبغياب الأساس كان البناء مهلهلا ضعيفا ، وهنا موطن الداء وأصل الخلل .
ولا بأس بتذكير القارئ الكريم أن قيادة الإخوان في مصر لم تلتزم بهذه القوانين - رغم الفجوات الخطيرة فيها - بل تجاوزتها في أغلب مراحل تاريخها ، خصوصا في مجال البناء القيادي . فإذا كانت قيادة البنا أحسن من قوانينه ، فإن القادة الذين خلفوه قصروا في الالتزام بتلك القوانين على علاتها ، وهو أمر نرجئ القول فيه إلى الفصل القادم .
البنية الهيكلية للجماعة في باكستان (المخطط ب)
نحاول في الصفحة التالية رسم تخطيط للهيكل التنظيمي الذي اعتمدته الجماعة الإسلامية في باكستان ، كما يمكن استنباطه من خلال المعلومات الواردة في كتاب الدكتور كليم باهادور:"الجماعة الإسلامية في باكستان ، فكرها ونشاطها السياسي" (38) وكتاب عساف حسين: "الحركات الإسلامية في مصر وباكستان وإيران" (39) ، ثم في موقع الجماعة على الإنترنت (40) ، مع الاستعانة بمواد من دستور الجماعة "دستور جماعت إسلامي باكستان" المنشور في "لاهور" عام 1990 باللغة الأوردية . وقد تكرم بعض الإخوة الباكستانيين بمساعدتنا على فهم أقسام منه .


المخطط (ب) : الهيكل التنظيمي للجماعة الإسلامية في باكستان
يتضح من المخطط (ب) أن الجماعة الإسلامية في باكستان تتألف من الهيئات التالية :
* الأمير : وهو رأس الجماعة وقائدها الأعلى ، ينتخبه أعضاء الجماعة المنتظمون (الأركان) انتخابا مباشرا ، لولاية مدتها خمس سنوات قابلة للتجديد عددا من المرات غير محصور .
* نواب الأمير : يعينهم الأمير من ضمن أعضاء مجلس الشورى المركزي ، ويتولى كل منهم الإشراف على أحد القطاعات المتخصصة .
* مجلس الشورى المركزي : عدده الحالي 70 عضوا ، ينتخبهم أعضاء الحركة المنتظمون انتخابا مباشرا ، وهو يجتمع كل سنة مرة أو مرتين (حسب الحاجة) لمراجعة المسار العام للجماعة ، والمصادقة على خطة التوجه العام . وتتبع لمجلس الشورى المركزي عدة لجان متخصصة في مختلف الشؤون ، مهمتها تزويد المجلس بالمعلومات ، والتحضير لقراراته .
* مجلس العمل المركزي : عدده الحالي 15 عضوا ، يعينهم الأمير من ضمن أعضاء مجلس الشورى المركزي ، ومهمته هي الرقابة على الأمير وسلطته التنفيذية نيابة عن مجلس الشورى في الفترات الفاصلة بين اجتماعاته .
* القيم : يعينه الأمير ، وهو المسؤول عن تسيير الشؤون اليومية للحركة من الناحية الإدارية . فهو المكافئ لمنصب السكرتير العام في تنظيم الإخوان بمصر . كما أنه يشرف على القطاعات المتخصصة بالتعاون مع نواب الأمير .
* القـيِّـمة : هي المسؤولة الأولى عن تنظيم الأخوات (حَلْقَتْ خَوَاتِينْ) التابع للجماعة ، يعينها الأمير بالتشاور مع الأعضاء المنتظمات في التنظيم النسوي ، وهو منفصل في هيكله عن التنظيم العام .
* مجلس شورى النساء : هو المعادل النسوي لمجلس الشورى المركزي ، ومهمته الرقابة على السلطة التنفيذية في التنظيم النسوي ، والمصادقة على خططه العامة .
* مجلس عمل النساء : وهو المراقب على عمل القيمة ، ومن يتبعها من العاملات التنفيذيات في التنظيم النسوي ، نيابة عن مجلس شورى النساء .
* الإدارة المركزية : وهي الجهاز المسير لشؤون الحركة اليومية تحت إشراف القيم . وتضم قطاعات تشمل : (المالية / العمال / التكوين / الخدمة الاجتماعية / التنظيم / الانتخابات / الشؤون البرلمانية / العلاقات بالصحافة / الشؤون العامة / المؤسسات الشرعية) وكل من هذه القطاعات يرأسه "ناظم" يعينه الأمير ، ويراقب عليه أحد نواب الأمير .
* الواجهات المستقلة : وهي تشمل اتحادات العلماء والعمال والطلاب والفلاحين التي ترتبط بالجماعة برباط الفكر والتنسيق العام ، دون أن تكون تابعة لها تبعية إدارية مباشرة .
* المؤتمرات الإقليمية : وهي تتألف من أعضاء الجماعة المنتظمين في الإقليم ، أو من ينتخبونه لتمثيلهم . وهي التي تتولى انتخاب أمراء الأقاليم ، ومجالس الشورى الإقليمية .
* مجالس الشورى الإقليمية : وهي صورة مصغرة لمجلس الشورى المركزي ، وتقوم بنفس وظيفته تجاه السلطة التنفيذية الإقليمية .
* مجالس العمل الإقليمية : وهي صورة مصغرة لمجلس العمل المركزي ، وتقوم بنفس وظيفته تجاه أمير الإقليم .
* قيم الإقليم : وهو المسؤول عن الشؤون الإدارية اليومية للجماعة في إقليمه ، وهو يستمد سلطته من أمير الإقليم .
* المقامات : وهي أصغر الوحدات الإدارية في الجماعة . ويتألف المقام من عضوين فأكثر من أعضاء الجماعة ، وهو إطار لتربية الأعضاء وتكوينهم .
* الشعب : وهي مجموع المقامات الموجودة في أي بلدة باكستانية . ودورها هو التنسيق بين المقامات التابعة لها ، وبين القيادة الأعلى منها .
* الفروع : وهي حاصل الشعب في مركز إداري باكستاني ، أو مدينة كبرى . وهو السلطة الوسيطة بين الشعب وبين إمارة الإقليم .
نظرات في هيكل الجماعة بباكستان
يشتمل هيكل الجماعة الإسلامية في باكستان على عدد من الأمور الإيجابية - لم نجدها في الهيكل التنظيمي للإخوان المصريين - يحسن التنويه بها ، قبل التعريج على جوانب القصور فيه :
* وضوح مبدإ السلطة التأسيسية : فالقيادة التنفيذية والرقابية في الجماعة ينتخبها الأعضاء. والإقرار بذلك - ولو نظريا - يحافظ على ولاء الأعضاء للجماعة ، وإيمانهم بمسيرتها ، ويغلق الباب أمام الجمود والاستبداد .
* مقدار لا بأس به من الحرية الداخلية ، ناتج عن اللامركزية في العمل . ومن شأن اللامركزية أن تحرر القيادة العامة من الاهتمامات الصغيرة ، وتمكنها من النظر العام في مستقبل العمل ، وتضع الهيئات الدنيا من التنظيم أمام مسؤولياتها دون لبس .
* التحديد الزمني لفترة ولاية الأمير وغيره من القادة . وهو أمر يضمن للقاعدة الاحتفاظ بخيار تغيير قادتها ، إذا تبين أنهم لم يعودوا مناسبين ، لسبب أو لآخر .
ويبدو أن الجماعة قد أدخلت إصلاحات في هيكلها لم تكن موجودة أيام التأسيس . إذ تشير بعض المصادر إلى أن المودودي تم انتخابه في البداية أميرا مدى الحياة ، كما أن الجماعة في أول عهدها كانت متشددة في قبول عضوية النساء ، فلا تقبل منهن إلا المتزوجات (41) .
لكن هذه الجوانب المضيئة ظلت - إلى عهد قريب - مكاسب نظرية محضة ، إذ شوش عليها أمران ، أخلا بسلامة البناء الحركي ، وشلا قابليته للنماء وحسن الأداء :
* أولهما هو لب الأزمة التي عاشتها الجماعة خلال العقود الماضية ، ولم تدرك أبعادها السلبية إلا في السنوات الأخيرة . ألا وهو عجزها عن التوفيق بين منهج الكم ومنهج الكيف، وكنا تناولنا هذا الأمر في الفصل الثاني من وجهة سياسية ، ولا بأس بالتطرق إلى آثاره التنظيمية هنا . لقد أشرنا في الفصل الثاني إلى أن منهج التشدد في الانتقاء الذي اعتمدته الجماعة من خلال التمييز الصارم بين "الأركان" و"المتفقين" أدى إلى حرمان الجماعة من التحول إلى قوة سياسية فاعلة باعتراف الجماعة ذاتها . لكن الأمر لم يقتصر على ذلك ، بل تجاوزه إلى تجميد المرونة الداخلية في هيكل الحركة ، وشل إمكانيات التغيير القيادي الموجودة - نظريا - في نظامها . ذلك أن "عددا وافرا من العاملين في الجماعة الذين يتولون معظم أعمالها محرومون من حق التصويت على القرارات الأساسية المؤثرة في سياسات الجماعة وإجراءاتها ، بحكم كونهم مناصرين [متفقين] فقط ، وليسوا أعضاء بالكامل [أركانا]" (42). وهنا دخل الخلل إلى مبدإ الشرعية القيادية : حيث من حق ستة آلاف أن يختاروا القيادة ويحتكروا سلطة القرار من بين ثلث مليون شخص . وحيث إن القيادة هي المتحكمة في قبول طلبات العضوية الكاملة أو رفضها ، فإن ذلك يزيد من تصلب الهياكل القائمة أمام التغيير القاعدي ، مما شل الجماعة ، وقضى على نموها . ولا شك أن الأمر هنا أخف من حال حركة الإخوان بمصر ، حيث احتكر أقل من مائتي شخص (أعضاء الهيئة التأسيسية) حق اختيار القيادة ، في حركة بلغ أعضاؤها ومناصروها المليون . لكنه يظل عائقا أساسيا أمام انطلاق الجماعة وحيويتها .
* والثاني تداخل السلطة التنفيذية والرقابية . فقد منح دستور الجماعة الأمير حق تعيين أعضاء "مجلس العمل" الذي يتولى الرقابة عليه وعلى مساعديه من القادة التنفيذيين . وبذلك أصبح الأمير هو الخصم والحكم !! وذلك إخلال كبير بمبدإ التوازن بين السلطات ، الذي يعصم من الاستبداد بالقرار والانفراد بالأمر . وكان الحل المنطقي لعدم إمكان اجتماع السلطة الرقابية الأصلية (مجلس الشورى المركزي) بشكل دائم ، أن يختار المجلس نفسه من بين أعضائه "مجلس عمل" في شكل لجنة مصغرة ، تتولى الرقابة الدائمة على عمل الأجهزة التنفيذية نيابة عن مجلس الشورى . وربما جادل البعض بأن الأمير ما دام يعين "مجلس العمل" من بين أعضاء مجلس الشورى ، فلا فرق بين الصيغتين . والواقع أن الفرق يظل كبيرا : إذ أن أي أمير حصل على ثقة الجماعة في مؤتمرها العام ، قادر عل العثور على 15 عضوا من أصل 70 من حاشيته داخل مجلس الشورى ، وتعيينهم أعضاء في "مجلس العمل" الذي سيتولى الرقابة عليه !! وما أبعد ذلك من مجلس مصغر ، اختاره مجلس الشورى دون تدخل من الأمير نفسه . والخلاصة أن "الجماعة" حاولت التغلب على إشكال إجرائي بسيط - هو تعذر انعقاد مجلس الشورى باستمرار - فارتكبت خطأ مبدئيا ، يؤثر على أداء القيادة كلها ، حين يسمح بالتداخل بين سلطتين ، يقتضي التوازن داخل الأجهزة استقلال كل منهما عن الأخرى .
البنية الهيكلية للحركة الإسلامية في السودان (المخطط ج)
بعد النظر في الهيكل التنظيمي لكل من الإخوان في مصر والجماعة في باكستان ، نرسم الهيكل التنظيمي للحركة الإسلامية في السودان ، كما يمكن استنباطه من دستور الحركة الصادر عن مؤتمرها العام سنة 1982 ، ومن المصادر الأخرى التي اعتمدناها في هذه الدراسة . ولا بد من التذكير هنا أن رسم مخطط لهيكل الحركة السودانية ليس بالسهولة التي نجدها في الحركات الأخرى ، لأن الهيكل يتغير باستمرار ، طبقا للتغييرات في دستور الحركة ، وتكيفاتها مع واقعها السياسي والاجتماعي . فقد أصدرت الحركة خلال ثلاثين عاما أربعة دساتير مختلفة (43) . وكانت قيادة الحركة واعية بضرورة التغيير والتطوير في الشكل ، كما عبر عنه الترابي بقوله : "ما ينبغي للوضع القائم للشكل أن يسجنك عن التطور ، وما ينبغي لبنيتك الراهنة أن تسجنك عنه"(44) . ثم وصف مساوئ الجمود في هذا السبيل ، وآثاره السيئة على بعض الحركات الإسلامية بقوله : "الحركات الإسلامية تتقدم في مجاهداتها ، ولكن تنظيمها يظل متخلفا باستمرار … فتجد التنظيم بسيطا ساذجا يحتكر كل شيء ، ويحتكر الرئيس داخله كل شيء ، بعيدا عن توزيع الاختصاصات والمسؤوليات ، والتوثيق والتخطيط" (45) .
لكننا سنركز في المخطط الآتي على الخطوط الثابتة ، والأشكال الأخيرة التي كانت آخر اجتهاد الحركة في هذا المضمار . وقبل النظر في المخطط أيضا ، لا بأس أن نعرض المبادئ التنظيمية التي قررت الحركة اعتمادها في تكوين أجهزتها . هذه المبادئ ، كما نص عليها دستور الحركة ، هي :
*"ارتباط إنشاء الجهاز التنظيمي بغرض محدد تسعى الجماعة لتحقيقه ، وفقا لبرامجها المرحلية تخطيطا وتنفيذا .
* التخصص في إطار مفهوم الشمول ، بما يحقق أقصى درجات الكفاية ، ويضمن توسيع دائرة المشاركة .
* مراعاة تجمعات أفراد الجماعة وانتشارهم وأحوالهم ، تربية لهم على تحمل المسؤولية ، ووصلا لهم بتيار الجماعة العام ، وتأمينا لحركتهم في وجه الطوارئ والشدة .
* البساطة في التكوين ، بما يتيح للأجهزة المرونة ، وسهولة الوصل بين القيادة والقاعدة ، والفاعلية في تحقيق أغراضها .
* مراجعة الأجهزة وتطويرها ، تفاعلا مع تنوع برامج الجماعة وتجاربها" (46) .
والمراد بالبساطة في الفقرة الثالثة نقيض التعقيد ، لا نقيض التركيب ، إذ التركيب سمة من سمات الحركة السودانية - كما سنرى فيما بعد - بل خاصية من خصائص أي تنظيم ناجح ، كما رأينا في المقدمة .
والآن لنتأمل المخطط في الصفحة الموالية :







المخطط (ج) : الهيكل التنظيمي للحركة الإسلامية في السودان

يتضح من المخطط (ج) أن البنية الهيكلية للحركة الإسلامية في السودان تتألف من أربع هيئات قيادية ، ومن بعض الهيئات الأخرى . أما الهيئات القيادية فهي :
أو لا : المؤتمر العام
*"يتكون المؤتمر العام بالتمثيل النسبي لأعضاء الجماعة في كل الشعب والمناطق والأقاليم ، مع مراعاة التخصصات المهنية والفئوية وفق لائحة يضعها مجلس الشورى .
* ينعقد المؤتمر العام مرة كل أربع سنوات ، أو بدعوة من مجلس الشورى ، أو المكتب التنفيذي.
* يمثل المؤتمر العام عند انعقاده السلطة الأعلى في تنظيم الجماعة ، وتكون قراراته ملزمة لكافة أجهزة التنظيم وأعضائه .
* يبحث المؤتمر العام عند انعقاد دورته نشاط الجماعة في السنوات الأربع الماضية ، على ضوء تقرير مكتوب يقدمه الأمين العام ، كما له أن ينظر في موجهات السياسة العامة للجماعة في دورتها المقبلة .
* يختص المؤتمر العام بانتخاب مجلس الشورى والأمين العام ، وبصلاحية تعديل الدستور بأغلبية الثلثين" (47) .
ثانيا : مجلس الشورى المركزي
*"يتكون مجلس الشورى من ستين عضوا : أربعين منهم عن طريق الانتخاب المباشر في المؤتمر العام ، وعشرين بالانتخاب التكميلي داخل مجلس الشورى ، وتكون دورته أربع سنوات .
* يكون مجلس الشورى السلطة العليا في التنظيم بعد المؤتمر العام ، وله صلاحية إجازة خطط الجماعة وسياساتها ولوائحها ، وتكوين المكتب التنفيذي .
* تؤول لمجلس الشورى بعد انفضاض المؤتمر العام سلطة مراجعة توصيات المؤتمر العام ، إذا اقتضت الضرورة ذلك . وفي حالة تعذر انعقاد المؤتمر العام ، يتولى المجلس سلطات المؤتمر العام الواردة في المادة (58) الفقرة هـ [=الأخيرة من صلاحيات المؤتمر] .
* يحاسب مجلس الشورى الأمين العام والمكتب التنفيذي على أداء أجهزة التنظيم ، بناء على تقرير سنوي يقدمه الأمين العام .
* يجوز لمجلس الشورى حجب الثقة عن الأمين العام بأغلبية ثلثي الأعضاء ، أو عن أي من أعضاء المكتب التنفيذي بأغلبية بسيطة ، وبناء على اقتراح يقدمه عشرة من أعضاء المجلس"(48) .
فمجلس الشورى - إذن - هو "الجهاز القائم مقام المؤتمر في فترته ، يجيز الخطط والبرامج والموازنات ، ويحاسب مَن دونه ، وينتخب ، ويملك عليهم سلطة في سياستهم ، بل في أصل ولايتهم" (49) .
ولمجلس الشورى سلطة خاصة في مجال العلاقات والتحالفات السياسية ، حيث رأت الحركة أن لا تترك ذلك الأمر لتقدير القيادة التنفيذية ، نظرا لخطورته . وقد نص دستور الجماعة على أنه : "يختص مجلس الشورى بالتقرير في الشؤون التالية :
* الدخول في الحكم ، أو تأييد النظام الحاكم أو معارضته .
* التحالف أو فض التحالفات مع القوى السياسية المختلفة .
* التنسيق أو التعاون مع أي حركة أو جهة رسمية خارج السودان ، أو العدول عن ذلك .
* إنشاء علاقة عضوية مع أي حركة إسلامية" (50) .
ثالثا : الأمين العام
*"ينتخب المؤتمر العام أمينا عاما للجماعة من بين ثلاثة مرشحين يرشحهم مجلس الشورى، ممن تتحقق فيهم شروط الأهلية .
? تسري ولاية الأمين العام لمدة أربع سنوات من تاريخ انتخابه .
* يكون الأمين العام المسؤول التنفيذي الأول في الجماعة ، ويتولى الإشراف على إنشاء أجهزة التنظيم ، واقتراح الخطط والمناهج لحركة الجماعة ، كما يتولى قيادة العاملين التنفيذيين ومحاسبتهم .
* يكون الأمين العام مسؤولا لدى المؤتمر العام ومجلس الشورى عن سير القيادة التنفيذية ، وعليه أن يرفع تقارير دورية عن أداء أجهزة الجماعة وأحوالها" (51) .
ويكون للأمين العام نواب له يساعدونه ، يرشحهم الأمين العام ، ويصادق عليهم مجلس الشورى المركزي . وقد يتولى كل منهم جانبا خاصا من العمل ، وتخصصا يكون المشرف التنفيذي عليه .
رابعا : المكتب التنفيذي
*"يتكون المكتب التنفيذي من الأمين العام ونوابه ، والأعضاء الذين يرشحهم الأمين العام، ويوافق عليهم مجلس الشورى .
* تكون دورة المكتب التنفيذي سنتين .
* تصدر قرارات المكتب التنفيذي بأغلبية الأعضاء الحاضرين .
يختص المكتب التنفيذي بالآتي :
* تقرير مواقف الجماعة ، ووضع البرامج والخطط والسياسات التي تحقق مقتضى الإسلام في الحياة ، وفقا لأهداف الجماعة ووسائلها .
* اقتراح العلاقات بالنظم الحاكمة ، والقوى الإسلامية والسياسية داخل وخارج السودان.
* الإشراف والتنسيق بين الأجهزة الإدارية للجماعة مركزيا وإقليميا .
* وضع الميزانية السنوية للجماعة وفقا لأهدافها وبرامجها ، والإشراف على تنفيذها" (52).
فالمكتب التنفيذي يمثل "القيادة التنفيذية التي تسيِّر دولاب الحركة ، وتحضر مقترحات سياساتها ، وتأمر مَن دونها من المستوى الإداري الذي يباشر الفعل والتطبيق" (53) .
وقد قسمت الحركة مكتبها التنفيذي في الستينات والسبعينات إلى قسمين :
* مكتب سياسي يهتم بعمل الحركة العام ، وصلتها بالسلطة والقوى الاجتماعية والسياسية من نقابات وأحزاب .. الخ . ويحظى بعضوية استحقاقية في المكتب السياسي كل من رئيس المكتب الإداري ، ورئيس مكتب الفئات وآخرون . (54) .
* ومكتب إداري يركز على الهم الداخلي ، من عضوية ، وجمع اشتراكات ، وتكوين للأعضاء ، وربطهم بالقيادة . وتتبع لهذا المكتب عدة مكاتب متخصصة وعامة نتحدث عنها فيما بعد .
لكن دستور 1982 ألغى هذه الازدواجية الهيكلية ، حيث "تم توحيد المكتب التنفيذي ، وإبطال تشعبه إلى شق إداري ، وآخر سياسي . ولم يرض بعض الإخوان عن ذلك ، إذ حسبوا أن تلك خطوة لتهميش دور السياسة في حركة التنظيم ، استجابة لضغوط النظام" (55) . ورغم أن الفصل بين الشقين تم إلغاؤه داخل المكتب التنفيذي ، إلا أن الفصل الوظيفي بين المهمتين الإدارية والسياسية ظل قائما ، بل ظل سمة دائمة من سمات الحركة السودانية ، وقد أوردنا كلام الأفندي حول استمرار ذلك النهج في الثمانينات (انظر : فقرة "استراتيجية الفصل والوصل" من الفصل الأول). كل ما في الأمر أن ما كان يعرف في السبعينات بالمكتب الإداري تحول في الثمانينات إلى مكاتب عدة ، تتولى الهم الداخلي ، بينما "أصبح همُّ المكتب [التنفيذي] الإشراف على العمل السياسي العام ، ورعاية الأهداف الكلية للحركة" (56) . لذلك أبقينا على الفصل الهيكلي في المخطط أعلاه ، تنبيها على أن الفصل بين الوظيفتين السياسية والإدارية ظل خطا ثابتا في عمل الحركة (57) .
أما الهيئات غير القيادية فهي :
* المكاتب المتخصصة : وهي مكاتب يشكلها كل من المكتبين السياسي والإداري لتتولى عنه بعض المهام الخاصة ، الداخلة ضمن سلطاته التنفيذية .
* المكاتب الإدارية : وهذه تسمية أطلقناها على المكاتب العامة التابعة للمكتب الإداري ، والتي تشمل : "مكاتب العضوية والولايات والاتصال ، ومكاتب التنظيم العام ، والمال والمعلومات ، والاستراتيجية والخطط ، والتنسيق والتبعية الداخلية ، والعلاقات الخارجية الخاصة" (58) .كما تشمل مكتب الدعوة ومكتب الفئات (العمال الطلاب …الخ).
*"المجالس الاستشارية : وقد صممت هذه المجالس لاستيعاب مقدرات قدامى الإخوان الذين رؤي أن يستفاد من طاقاتهم ، بالمساهمة بآرائهم في دفع حركة التنظيم ، ومناقشة السياسات العامة ، بدلا من تقييد حركتهم بالنشاط الجاري التقليدي" (59) .
* المحاور المستقلة : وهي هيئات مستقلة يقودها أعضاء من الحركة ، أو يشاركون في قيادتها، لكن لا يربطها رباط إداري مباشر بالهيكل الحركي . وهي تشمل الهيئات الطلابية والعمالية والنسوية المتعددة التي تتحرك في الفضاء الاجتماعي بطلاقة ، ضمن الاستراتيجية العامة التي تعتمدها الحركة ، وتحتفظ بعلاقة تنسيق مع الجسم الحركي من خلال "هيئة التنسيق مع المحاور والواجهات" .
* الواجهات العامة : وهي هيئات مستقلة ذات وظائف اجتماعية أو ثقافية عامة ، مثل الهيئات الخيرية ، والروابط الثقافية ، والمؤسسات الدعوية . وهي تسير على نفس النهج الذي تسير عليه المحاور ، من حيث الاستقلالية الإدارية عن الهيكل الحركي ، والتنسيق المرن معه ، ضمن الاستراتيجية العامة للحركة ، فقد "خرجت هذه الهيئات من المحور المركزي الآمر ، ولكنها لم تخرج عن المحور الاستراتيجي الموجه" (60) شأنها شأن المحاور المستقلة . ولا تجد الحركة غضاضة في تعدد الواجهات والمحاور ، كما سنشرحه فيما بعد بإذن الله .
* هيئة التنسيق مع المحاور والواجهات : وهي هيئة جامعة تعمل على إدماج عمل المحاور والواجهات المستقلة ضمن الاستراتيجية العامة للحركة ، من خلال التنسيق والتوجيه والتأثير النوعي ، دون أن تكون لها سلطة إدارية على تلك الهيئات . وقد وصف الترابي وظيفة هذه الهيئة بقوله : "في سبيل الوحدة بين منظومة محاور العمل الإسلامي ، تقوم الاستراتيجية العامة هاديا لها جميعا ، بعد الاهتداء بالإسلام ، ويقوم كيان تنسيقي جامع ، لا يملك عليها إلا التوجيه ، أو أن يتيح مجالا لتبادل المعلومات ، وتنسيق الأدوار ، وعلاج المشكلات . ثم يقوم العنصر الحركي منبثا في قاعدة هذه الكيانات أو قيادتها ، غير غالب بعدده ، بل بأثره ووعيه بمقتضيات حركة الإسلام" (61) .
* المؤتمر العام للمحافظة : وهو يشبه المؤتمر العام المركزي ، لكنه ينحصر في حدود المحافظة التي تنتمي إليها الهيئات القاعدية التابعة له . وللمؤتمر الإقليمي صلاحيات المؤتمر العام داخل إقليمه ، من انتخاب مجلس شورى الإقليم ، وانتخاب أمين الإقليم ، وغير ذلك من الصلاحيات التي يتمتع بها المؤتمر العام المركزي ، مع بعض القيود التي تحافظ على التوازن بين التنظيم المحلي والهيئات المركزية .
* مجلس شورى المحافظة : وهو المرادف المحلي لمجلس الشورى المركزي ، وله نفس صلاحياته ، من حيث الرقابة على السلطة التنفيذية المحلية ، وإجازة خطط الحركة وسياساتها على مستوى المحافظة . وهو "لا يقل عن أربعين عضوا داخل السودان ، وخارجه عشرين"(62) .وليس للقيادة التنفيذية المركزية سلطة حل مجالس الشورى الإقليمية ، ولكن "للأمين العام أن يرفع توصية لمجلس الشورى العام ، طالبا الحل لأي من مجالس الشورى المحلية" (63) ثم يقرر مجلس الشورى المركزي في ذلك .
* أمين عام المحافظة : وهو رئيس السلطة التنفيذية على مستوى المحافظة ، وينتخبه المؤتمر العام في المحافظة "من بين ثلاثة يرشحهم الأمين العام [للحركة]بعد التشاور مع أمانة التنظيم [المركزية] والاستئناس بالرأي المحلي . ويتم عزله بقرار من المكتب التنفيذي المركزي ، بموجب توصية الأمين العام ، أو بقرار من ثلثي أعضاء مجلس الشورى" (64) . ويعمل معه - عادة - مسؤولون عن كل من : التنظيم العام ، والسياسة ، والفئات ، والطلاب ، والمال والاقتصاد ، والدعوة ، والنساء ، والسكرتارية (65) .
* المكتب التنفيذي الإقليمي : وهو مرادف المكتب التنفيذي المركزي على مستوى المحافظة، ويتألف من أمين عام المحافظة رئيسا ، ثم من نوابه وأعضاء المكتب الآخرين الذين يقترحهم أمين الإقليم ويصادق عليهم مجلس الشورى المحلي . وتتبع للمكتب التنفيذي المحلي عدد من المكاتب ، منها - في الغالب - مكاتب : التنظيم العام ، والمالية ، والفئات ، والمعلومات ، والطلاب ، والمكتب الاجتماعي ، والسياسي ، والثقافي ، والاقتصادي ، والنسائي ، والصوفية ، والقبائل .
* الحلقة : وهي المرادف للأسرة في تنظيم الإخوان المسلمين بمصر ، والمقام في تنظيم الجماعة الإسلامية بباكستان . وفي الحلقة يتعلم العضو المبتدئ الالتزام بالدين ، والولاء للجماعة ، والارتباط بالعاملين .
* الشعبة : وهي الشعبة نفسها في تنظيم "الإخوان" و"الجماعة" ، وهي حاصل مجموع الحلقات في بلدة معينة .
* المنطقة : وهي المكافئ للفرع في تنظيمي "الإخوان" و"الجماعة" ، وهي حاصل مجموع الشعب في محافظة معينة .
نظرات في هيكل الحركة السودانية
إن المتأمل في الهيكل التنظيمي للحركة الإسلامية في السودان سيلاحظ اختلافات أساسية عن الفكر التنظيمي التقليدي الذي أسسته مدرسة الإخوان المسلمين بمصر ، وأخذته عنها العديد من الحركات الإسلامية . ومن هذه الاختلافات :
أولا : اتساع السلطة التأسيسية
فبينما حصرت حركة الإخوان بمصر كل السلطة التأسيسية بأيدي عدد محدود من الأفراد غير المنتَخَبين ، هم أعضاء الهيئة التأسيسية ، جعلت الحركة السودانية لكل عضو من أعضائها حقا في السلطة التأسيسية : حيث يتمتع كل عضو بحق المشاركة فيها بنفسه ، أو من خلال انتخاب من سيمثله في مؤتمرات المحافظات وفي المؤتمر العام . ولا ريب أن هذا اختلاف جوهري بين الحركتين، لأنه يتعلق بالشرعية القيادية التي هي أقوى سبب للوحدة ، وأكبر داع للولاء ، وخير ضمان للمرونة الداخلية اللازمة للتطور والنماء . وفي اعتماد مبدإ التمثيل النسبي للأعضاء في المؤتمر ما يكشف عن حرص الحركة السودانية على توزيع السلطة بعدل بين أعضاء التنظيم ، وهو السبب الحقيقي في تماسكها الداخلي ، وفي قوتها وفتوتها .
ثانيا : من البساطة إلى التركيب
"فقد كانت الحركة في عهدها الأول تدير شأنها كله في محور واحد . وكان ذلك ممكنا ، لضآلة وظائف الحركة ، ومحدودية تدينها الفعلي ، مهما ادعت الشمول . وكان ذلك أيضا تقديرا واجبا لضمان وحدة الحركة ونقائها ، حين كانت غريبة موحشة في مجتمع فتنة . لكنها في عهود الانفتاح الدعوي والانشراح الحركي ألفت وظائفها متكاثرة لا يسع الجهاز القيادي المركزي أن يليها جميعا بكفاءة أو فاعلية تامة" (66) . هذا التطور من البساطة إلى التركيب لا تجد له نظيرا في العديد من الحركات الإسلامية ، التي جمدت على أشكال بسيطة في طور التأسيس ، فجمدت رسالتها وأثرها الاجتماعي .
ثالثا : التوسع الرأسي
فقد طبقت الحركة النظام اللامركزي كما هو واضح من المخطط . وقد لخص دستور الحركة الدواعي إلى تبني اللامركزية في ثلاثة :
*"بسطا لمبدإ الشورى ..
* وتوسيعا لقاعدة المشاركة في العمل والمسؤوليات ..
* وتربيةً لعناصر الجماعة في تولي المهام التي تليهم ، وتحمل هموم الدعوة في مناطقهم" (67).
وقد كان تطبيق اللامركزية محطة تاريخية هامة في عمر الحركة ، ومعلما بارزا من معالم تطورها . وكان من دواعي اللامركزية - إضافة إلى ما ورد في دستور الحركة - إقرار حكيم من القادة بأن "تنظيما مركزيا واحدا لن يقدر على تلبية حاجات العمل الإسلامي ، والإحاطة بمختلف مناشطه بشكل فعال … فحتى لو تمكن الإسلام في السلطة لن يتجسد أمره كله في سلطان شمولي، يحتكر كل شيء ، ويدعي إمكان الوفاء به" (68) .
وقد أثمرت تلك اللامركزية عددا من الثمرات ، يمكن إجمالها فيما يلي :
* حماية الوحدة بالشورى : "إن تلك التطورات التركيبية اللامركزية كانت موازنة بين دواعي الوحدة ودواعي البسط ، بوجوه تحفظهما جميعا ، وتحفظ بعضهما ببعض . فمن وجه كان بسط شعب التنظيم الفرعية في جملة كيانات متخصصة أو محلية ، أو مستقلة ، بسطا للمشاركة والشورى . والمشاركة والشورى ضمانتان للوحدة ، بغيرهما يقع الشعور بالمجانبة والانفضاض . فضلا عما فيهما من تجميع الجهد والرأي ، وعدم الاستغناء بكسب الجهاز المركزي القيادي" (69) .
* سلامة البناء الحركي : عبر توزيع السلطة على مكوناته بعدل ، بما ضمن حمايته من الاختلال البنيوي ، الذي أصاب بعض التنظيمات الإسلامية ، كما رأينا في النخبوية العضوية لدى"الجماعة" الباكستانية ، والجمود القيادي لدى "الإخوان" المصريين . ذلك أن "التنظيم لا يكون قويا إلا إذا خُوِّل كل طرف من الأطراف المكونة له نصيبا من السلطة ، يتناسب مع مسؤولياته . وإلا فإن أحد الأطراف سينال سلطة زائدة ، تؤدي إلى الفساد والاستبداد" (70) سواء كانت تلك الأطراف هيئات قيادية ، أو فروعا تابعة .
* تفريغ القيادة المركزية للهموم الكبرى ، بدلا من استنزافها في الجزئيات الإدارية . "إن تفريغ القيادة من هم الوظائف الصغيرة الراتبة ، ومن ضغط الرقابة على الفروع - بعد اللامركزية - قد أهَّلها لأن تطور خططها ، وتدبر حالها . بحيث لم تُقدِم الحركة بعدئذ على مشروع تنظيمي أو حركي ذي بال ، إلا بناء على تدبير وتخطيط مسبق" (71) "وربما يكون نهج التخطيط ناشئا عن تكامل تجارب الحركة وثقافة قيادتها التنظيمية ، ولكنه لم يزدهر إلا عقب اللامركزية ، التي فرغت القيادة العليا من الهموم الصغيرة الكثيرة ، حيث ألقت بها إلى الفروع المحلية أو الوظيفية ، وتحررت هي للنظر الإجمالي في مغزى حركة الجماعة ومنظومتها الشاملة ، وفي مراجعة كسبها وتجربتها ، وللتقدير الكلي لمسير الحركة ومصيرها ، في إطار ظروف الواقع ، وآجال الزمن ، ومقاصد الإسلام" (72) . وهكذا تفرغ كل لمسؤولياته وتخصصاته ، فالقيادة المركزية اتجهت إلى التخطيط الاستراتيجي والتوجيه العام "أما الوظائف التقليدية (العضوية والاشتراكات والتجنيد) فقد تفرغت لها القيادات والمؤسسات المحلية"(73).
* نقل الخبرة المركزية إلى الأطراف : حيث "قدرت الحركة أن التطور البعيد الذي كسبته الأجهزة المركزية … ينبغي أن يُهدَى للفروع الإقليمية ليدفع قاعدة الحركة قدما" (74) . وهذا ما وقع بعد تطبيق اللامركزية ، حيث نُقلت صورة الهياكل المركزية إلى المحافظات "وكل ما صاحب ذلك من خبرة في الإدارة والتنظيم" (75) "كما نُقل إلى الفروع غالب الكسب المركزي ، من الانضباط اللائحي والمنهجية وترقية الأداء" (76) . وهي خبرة ثمينة ، نقلت الأطراف من طور التلقي السلبي ، إلى طور المبادرة والعطاء .
* توسع العضوية في المناطق البعيدة ، التي كانت خارج نطاق الكسب الحركي . ويرجع الفضل في ذلك إلى قرار نقل المسؤوليات إلى الفروع ، ومنحها الصلاحيات للتركيز على من يليها ، حيث "تضطلع الأجهزة الإقليمية بكافة شؤون الدعوة والجماعة في الإقليم ، في حدود الصلاحيات التي توضحها اللوائح" (77) . وقد أشار الأستاذ عبد الوهاب الأفندي إلى أن "اللامركزية وسعت من نطاق العضوية في المناطق البعيدة" (78) وهو مكسب له قيمته الكبرى في حركة ظلت محصورة - لأمد بعيد - في قطاع المثقفين وسكان الحضر .
رابعا : التوسع الأفقي
فقد أنشأت الحركة - ضمن نظامها اللامركزي - عددا من المحاور والواجهات ، المستقلة عنها إداريا ، المرتبطة بها استراتيجيا . وقد أفاد هذا التوسع الأفقي الحركة إفادات عظمى ، منها على سبيل المثال ، لا الحصر :
* التمكن من التفاعل مع فطرة الخير ، حيث "قدرت [الحركة] أنها - كما خرجت بتربية أعضائها نحو مشاركة المجتمع ، لتنفع وتنتفع بالتفاعل - يجدر بها أن تخرج ببعض هذه الوظائف المتكاثرة عن دائرتها التنظيمية والعضوية المباشرة ، وتتفاعل بها مع فطرة الخير والدين المنبثة في المجتمع" (79) . وكلما كان التفاعل بعيدا عن الأطر الحركية الضيقة ، والعصبيات الحزبية المتحيزة، كان أقرب إلى قلوب عموم الناس ، الذين لا يتبنون خيارا سياسيا محددا .
* توسيع هامش المناورة السياسية : فقد قضت على الحركة علاقاتها وتحالفاتها الظرفية بنوع من المداراة في المواقف ، والغموض في الطرح السياسي أحيانا ، ثم وجدت في هذه المحاور المستقلة متنفسا ، عبرت فيه للناس عن موقفها الأخلاقي الأصيل ، متحررا من تلك القيود . ومن أمثلة ذلك أن دعم نميري للسادات في زيارته لإسرائيل كان إحراجا كبيرا للحركة الإسلامية ، التي بدأت لتوها نهج المصالحة معه ، وما كان في وسع قيادة الحركة أن تعارضه علنا ، لاعتبارات استراتيجية كثيرة ، فكان الحل أن "اجتهد الإخوان في تمييز موقفهم عبر الاتحادات الطلابية التي رفضت الاتفاقية" (80) ولولا الاستقلالية التي يتمتع بها محور الطلاب عن هيكل الحركة وواجهاتها، لما استطاعت الحركة أن تحافظ على ماء وجهها وتميز خطابها السياسي .
* إتاحة منابر إضافية للعمل والمنازلة . إذ كان العديد من تلك المحاور والواجهات "وطنية الواجهة ، نافست التحرك الشعبي الشيوعي ، وأتاحت للحركة منابر عمل غير مباشر ، حتى حيثما لم تكن لديها القوة لتجعلها إسلامية خالصة" (81) ولم يكن من الحكمة أن تحصر حركة تغيير نفسها ضمن الهياكل التابعة لها ، ففي ذلك انعزال عن المجتمع ، واستهداف لرمية العدو.
* تحقيق فعالية الأداء في عمل هذه المؤسسات ، إذ "كثيرا ما يكون في عزل بعض الوظائف، وإيلائها إلى كيان مستقل متخصص مزيد كفاءة في ممارستها ، من زيادة التفرغ لها والتخصص فيها ممن يليها" (82) . وهو أمر يسهل فهمه في عصر التخصص الذي نعيش فيه ، حيث يستلزم الإتقان في أي مجال من مجالات الحياة تركيزا وتفرغا .
* استيعاب الواقع من خلال الحضور في كل المواقع ، وهو ما لاحظه النفيسي ، فقال : "التركيب القيادي في الجبهة السودانية (القومية الإسلامية) يحسن التواصل مع التطورات في الساحة ، ويدرك أهمية التفاصيل في تلك التطورات وضرورة متابعتها . بينما يلاحظ أن قيادة جماعة الإخوان في مصر لا تحسن ذلك ، ولا تهتم بتفاصيل الموقف وتطوراته في ساحة مصر ، ودائما تنطلق من عموميات غير مبنية أساسا على نظرة موضوعية واقعية" (83) . وهذا القصور في إدراك تفصيلات الواقع ، لدى قيادة حركة الإخوان في مصر وغيرها ، أثر مباشر من آثار الإغراق في المركزية .
* إتاحة الحرية لجوانب مخصوصة من العمل . "فبعض الوظائف بطبيعته يستدعي قدرا من الحرية والاستقلال ، كالنشاط الفني الذي قد يكون في قربه من محور الجماعة الدينية ما يحرِّج عليه أو عليها" (84) . لذلك كان استقلال المؤسسات التي تشرف على هذه الأعمال ، خدمة للحركة وللعمل نفسه .
ولم يكن هذا التوسع الرأسي والأفقي سهلا في البداية ، بل صاحبته بعض المعاناة ومصاعب الانتقال أولا ، قبل أن يستوي على سوقه ، إذ "ظروف الانتقال عادة ما تكون مصحوبة بالحيرة والمعاناة في سبيل التكيف .." (85) . لكنه استقر ونضج في النهاية ، فأفاد الحركة ثمرات كثيرة كما رأينا .
خامسا : التوازن بين السلطات
والتوازن بين السلطات أمر لا مناص منه ، إذا ما أرادت الحركة تطورا صحيا في بنيتها ، وأداء مستقيما في عملها . وقد تجسد هذا التوازن في هيكل الحركة السودانية من خلال ما يلي :
* التوازن بين المركز والأطراف ، بحيث ظل لكل منهما صلاحيات كافية لأداء دوره ، دون طغيان على الآخر . ومن أمثلة ذلك أن الأعضاء المحليين يمتلكون هامشا كبيرا في اختيار قادتهم ، ولا يُفرَضون عليهم فرضا . في نفس الوقت الذي يبقى للسلطة التنفيذية المركزية نصيبها ، من خلال ترشيح الأمين العام المركزي الأسماءَ الثلاثة التي سيكون من بينها الأمين العام المحلي . ولمجلس الشورى المحلي كامل الصلاحيات في الرقابة على السلطة التنفيذية المحلية، بل عزلها إذا اقتضى الأمر . كما أن لمجلس الشورى المركزي عزلها بتوصية من الأمين العام للحركة .
* التوازن بين السلطة التنفيذية والرقابية : ومن أمثلة ذلك أن للأمين العام للحركة - باعتباره قائد السلطة التنفيذية - صلاحية اختيار نوابه وأعضاء مكتبه التنفيذي الآخرين ، في نفس الوقت الذي لا يكون فيه هذا الاختيار نافذا إلا بعد إقرار مجلس الشورى . وللأمين العام للحركة تقديم توصية بعزل أحد الأمناء المحليين - باعتباره جزءا من السلطة التنفيذية التابعة له - لكن هذه التوصية لا تصبح نافذة إلا بإقرار من مجلس الشورى ، على اعتبار أن الأمناء المحليين تقلدوا مناصبهم من خلال عملية مركبة من التعيين والانتخاب … وهكذا .
ولك أن تقارن ذلك بهيكل الإخوان في مصر ، حيث لا تتمتع التنظيمات الفرعية بأي استقلالية ، بل هي امتدادات إدارية مباشرة للمركز العام . والمركز العام هو الذي يعين قادتها ، ولو من خارج أعضاء الحركة في المنطقة . كما أن التوازن بين السلطة التنفيذية والرقابية من جهة ، معدوم في الحركة المصرية ، ولا توجد سلطة تأسيسية تُلجم التنفيذية والرقابية . وينسحب نفس القول حول انعدام التوازن بين السلطتين على "الجماعة" في باكستان ، فقد رأينا كيف يعين الأمير "مجلس العمل" الذي يفترض أن يكون رقيبا عليه !!
سادسا : حضور العمل التنظيري
إن اختصاص هيكل الحركة السودانية بوجود "مجالس استشارية" تهدف إلى الاستفادة من الخبرة النظرية لدى قدماء الإخوان ، وآرائهم في السياسات العامة التي تنتهجها الحركة ، يدل على إدراكها لأهمية العامل التنظيري في العمل . إذ بدون هذا العامل ، سيظل عمل الحركة مبنيا على منهج التجريب والخطإ ، بعيدا عن أي تخطيط أو رؤية استشرافية مستقبلية . ومن الواضح أننا لا نعني التنظير المجرد من الغايات الموضوعية ، الذي بينا مساوئه على العمل الإسلامي والمجتمع الإسلامي بشكل عام في مدخل هذه الدراسة ، وإنما نعني الفكر العملي : تخطيطا وتقويما واستنطاقا لدلالات الواقع ، واستشرافا لاحتمالات المستقبل . وخير من يتولى مهمة التنظير - بهذا المعنى - هم أولئك الذين جمعوا بين المواهب النظرية والخبرة الميدانية . وتشبه المجالس الاستشارية في الحركة السودانية ما يدعى "لجان التفكير" Think Tanks التي لا تكاد تخلو منها منظمة أو مؤسسة في الدول المتقدمة حاليا . وربما يجد الباحث هذا الاهتمام عند الحركة ، من خلال حرصها على توظيف طاقات ذوي المواهب من مثقفيها في الكتابة عن تاريخ الحركة كتابة تقييمية ، والتنظير لمستقبلها تنظيرا موضوعيا . ففي عام 1989 تقدم إلى جامعة لندن اثنان من خيرة مثقفي الحركة بأطروحتي دكتوراه عن تاريخ الحركة ومستقبلها . وهما الدكتور التجاني عبد القادر : " الإسلام والطائفية والإخوان المسلمون في السودان المعاصر" (لم تنشر بعد) والدكتور عبد الوهاب الأفندي الذي نشر قسما من أطروحته في شكل كتاب سماه "ثورة الترابي" ، أما الدكتور حسن مكي فقد انصبت كل جهوده العلمية على هذا المجال، حتى أصبح مؤرخ الحركة بدون منازع . ومن الواضح خلو هيكل كل من "الإخوان" و"الجماعة" من مثل هذه المجالس ، وهو أمر يعبر عن قصور في إدراك أهمية الأفكار في العمل . وربما اعترض البعض مشيرا إلى أن عددا من الحركات الأخرى دونت تاريخها ومآثر رجالها باستفاضة ، فما الذي استحق الإشادة في التجربة السودانية هنا ؟ والجواب أن كثرة الكتابات عن تاريخ تلك الحركات ورجالها ليست هي مناط الاهتمام بالنسبة لنا ، بقدر ما يهمنا نوع تلك الكتابات وغايتها . وقد اطلعنا على العديد منها ، فلم نجد أكثر من قصائد مدح للحركة ، أو هجاء لأعدائها ، أو دفاع عن رؤية شخصية لتاريخ الحركة ، ضد رؤى عبر عنها آخرون من قبل .. وكل ذلك خارج عن نطاق "الفكر الفني الذي يعجل بحركة التاريخ" حسب تعبير بن نبي ، وهو الذي قصدناه بالعمل التنظيري هنا .
سابعا : نظام الأسر المفتوحة
فقد رأت الحركة أن من الخير لمنهاجها التربوي أن يكون منفتحا على المجتمع ، إذ ليس هدفه منحصرا في تكوين الأعضاء ، بل يستهدف اكتساب آخرين للحركة ، وزيادة مساحة الخير في المجتمع . لذلك تبنت - بعد تجاوز طور الانغلاق والتوجس - التمييز بين نمطين من الأسر/الحلقات : نمط مغلق سري ، خاص بالمبتدئين الذين يحتاجون إلى نوع من الحجز التربوي ، ونمط مفتوح علني - في نشاطه على الأقل - وهو لغير المبتدئين ، ممن أصبحوا قادرين على التأثير والتفاعل الإيجابي . يحكي لنا الترابي أبعاد هذا التطور في قوله : "طرأت على نظام الأسر - أو الحلقات - أطوار حسب تطور التربية ، فبدأت تلمذة للنقيب الذي يعلِّم ويزكي ويضبط - وظلت نحو ذلك للمبتدئين - وانتهت محور تعاون وثيق لكل عضو ، حسب تكليفه وكسبه ، ليس لرئيسها إلا الإدارة . وبدأت سرية مغلقة - وظلت على شيء من الخصوصية للمبتدئة - وانتهت موسعة مفتوحة" (86) . كما يشرحه مكي بقوله : "ألغيت [عام 1975] وظيفة الأسرة بوصفها أداة تأصيل ثقافي ، وحلت محلها الأسرة وحدة تنظيمية حركية ، ذات وظائف إدارية وسياسية : "جمع الاشتراكات ، رصد المعلومات ، تنزيل البلاغات ..الخ" بينما أصبحت الثقافة نشاطا مفتوحا يمارَس خارج نطاق الأسرة لمصلحة المجتمع العريض ، وإن قامت الأسرة بتنظيمه والإشراف عليه" (87) . وبهذا التمييز أصبحت وظيفة الأسرة التي تتألف من غير المبتدئين وظيفة "عضوية وليست ثقافية" كما يقول الترابي (88) .
وقد أشرنا في المخطط (ج) إلى اختلاف هذين النمطين من الحلقات ، باستخدام الدوائر ذات المحيط المتقطع للمفتوحة ، وذات المحيط الصلب للمغلقة .
ولا يجد القارئ هذا التمييز في هيكل "الإخوان" المصريين . أما الجماعة في باكستان فقد كان تصنيفها للأعضاء إلى "أركان" و"متفقين" تصنيفا لائحيا يحتكر القرار في أقلية ، وليس تصنيفا وظيفيا يخدم نمو الحركة وتطورها .
أرجو أن تكون هذه المقارنات المجملة كافية لدلالة القارئ الكريم على بعض الفروق الجوهرية بين الحركة الإسلامية في السودان ، وبين الحركتين المصرية والباكستانية ، اللتين تمثلان أعرق وأرسخ الحركات الإسلامية ، وأبعدها أثرا على غيرها من الحركات اللاحقة .. كما أرجو أن تكون معينة له على فهم أزمة الحركتين ، والفرق الأساسي بين الأزمتين : حيث إن أزمة الحركة المصرية تكمن في قمتها ، بينما تكمن أزمة الحركة الباكستانية في قاعدتها . فهل ستظل الحركات الإسلامية تنسج على منوال متأزم ؟؟ !!
-----------------------------------------
هوامش الفصل الثالث
(1) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 65
(2)-النظام الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين بمصر ، المادة 10
(3) - نفس المرجع ، المادة 11
(4) - نفس المرجع ، المادة 17
(5) - نفس المرجع ، المادة 33
(6) - نفس المرجع ، المادة 36
(7)- إبراهيم زهمول : الإخوان المسلمون ، أوراق تاريخية ص 175 (صادر عام 1985دون إشارة إلى جهة الطبع)
(8) - النظام الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين بمصر ، المادة 27
(9) - نفس المرجع ، المادة 28
(10) - نفس المرجع ، المادة 37
(11) - نفس المرجع ، المادة 19
(12) - نفس المرجع ، المادة 26
(13) - اللائحة الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين ، المادة 53
(14) - نفس المرجع ، المادة 54
(15) - نفس المرجع ، المادة 55
(16) - نفس المرجع ، المادة 56
(17) - النظام الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين بمصر ، المادة 31
(18) - اللائحة الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين ، المادة 9
(19) - نفس المرجع ، المادة 2
(20) - اللائحة الداخلية ، المادة 3 . والنظام الأساسي ، المادة 40
(21) - اللائحة الداخلية ، المادة 11
(22) - نفس المرجع ، المادة 25
(23) - نفس المرجع ، المادة 29
(24) - النظام الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين بمصر ، المادة 33
(25) - نفس المرجع ، المادة 34
(26) - نفس المرجع ، المادة 61
(27) - نفس المرجع ، المادة 44
(28) - اللائحة الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين بمصر ، المادة 25
(29) - نفس المرجع ، المادة 29
(30) - النظام الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين بمصر ، المادة 37
(31) - نفس المرجع ، المادة 39
(32) - نفس المرجع ، المادة 43
(33) - النظام الأساسي ، المادة 44 . واللائحة الداخلية ، المواد : 11 ، 25 ، 29
(34) - النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية ص 214)
(35) - نفس المرجع ص 209
(36) - نفس المرجع ص 210
(37) - نفس المرجع ص 214
(38) - Dr. Kalim Bahadur : The Jamaa't -I- Islami of Pakistan , Political Thought and Political Action p. 42
(39) - Assaf Hussain : Islamic Movements in Egypt, Pakistan & Iran p. 51
(40) - www jamaat org
(41) - حول هذين النقطتين ، لاحظ : Dr. Bahadur p. 45
(42) - Dr. Bahadur p. 147
(43) - انظر الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 49-50
(44) - نفس المرجع ص 51
(45) - نفس المرجع ص 52
(46) - دستور جماعة الإخوان المسلمين في السودان ، المادة 55 (ملحق بكتاب حسن مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 335-350
(47) - دستور جماعة الإخوان المسلمين في السودان ، المادة 58
(48) - نفس المرجع ، المادة 59
(49) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 64
(50) - دستور جماعة الإخوان المسلمين في السودان ، المادة 59
(51) - نفس المرجع ، المادة 61
(52) - نفس المرجع ، المادتان 62-63
(53) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 64
(54) - انظر : مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 151
(55) - نفس المرجع ص 160
(56) - نفس المرجع والصفحة
(57) - لمزيد من التفصيلات عن الهيئات القيادية في الحركة السودانية ، راجع الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 64 . وقارن مع AL-Affendi : Turabi's Revolution p. 112 .
(58) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 161-162
(59) - نفس المرجع ص 158
(60) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 41
(61) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 68
(62) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 159
(63) - نفس المرجع ص 160
(64) - نفس المرجع ص 159
(65) - انظر : نفس المرجع ص 159
(66) - الترابي : الحركة الإٍسلامية في السودان ص 66-76
(67) - دستور جماعة الإخوان المسلمين في السودان ، المادة 64
(68) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 39
(69) - الترابي : الحركة الإٍسلامية في السودان ص 77
(70) - Greenleaf : Servant Leadership p. 170
(71) - الترابي : الحركة الإٍسلامية في السودان ص 34
(72) - نفس المرجع ص 72 ولاحظ الفكرة ذاتها في ص 77
(73) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 38
(74) - نفس المرجع ص 66
(75) - نفس المرجع والصفحة
(76) - نفس المرجع ص 63
(77) - دستور جماعة الإخوان المسلمين في السودان ، المادة 64
(78) - AL-Affendi : Turabi's Revolution p. 63
(79) - الترابي : الحركة الإٍسلامية في السودان ص 67
(80) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 105
(81) - الترابي : الحركة الإٍسلامية في السودان 29
(82) - نفس المرجع 67
(83) - النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 256
(84) - الترابي : الحركة الإٍسلامية في السودان 29
(85) - د. حسن مكي : الحركة الطلابية السودانية بين الأمس واليوم ص5 دار الفكر ، الخرطوم (بدون تاريخ)
(86) - الترابي : الحركة الإٍسلامية في السودان ص 69
(87) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 153
(88) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 21


0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية