الجمعة، 13 فبراير 2015

الحركة الاسلامية في السودان 2/8




مدخل الكتاب
فقه المبدإ وفقه المنهج

" من عزم على أمر هيأ آلاته. لما كان شغل الغراب
الندب على الأحباب، لبس السواد قبل النَّوْح"
ابن الجوزي
لقد تواترت معاني الشرع وحكمة العقل على أن الوسيلة القاصرة تخذل المبدأ السامي ، وتقضي على وظيفته في الحياة ، وأن حسن النوايا وصدق التوجه لا يغيران اتجاه التاريخ ، إذا لم يصحبهما اجتهاد نظري وعملي في استنباط المناهج والوسائل المحققة للغايات . فلا يصلح أن نحاول خدمة المبادئ الإسلامية الجليلة بوسائل متخلفة عن عصرها ، ومناهج مهلهلة في منطقها .
ولقد كان من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن تضمن وحيه إلى الناس نمطين من المفاهيم لا يستغني عن أي منهما العقل البشري :
مفاهيم تتعلق بالمبدإ : فصلت نظام القيم في الإسلام وبينت مضامين الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ، وتجسيدات تلك الرسالة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع .. فهي مفاهيم تتعلق بـ"ماذا"؟ لا بـ"كيف"؟
ومفاهيم تتعلق بالمنهج : بينت طرائق التطبيق ومناهج التغيير ، إما من خلال قواعد منطوقة أو ضمنية في النص ، أومن خلال الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم . فهي تتعلق بـ"كيف"؟ لا بـ"ماذا" ؟
لكن المتتبع لمسيرة الحركات الإسلامية المعاصرة ، المتأمل في الثمن الفادح الذي تدفعه ، والتعثر الواضح في مسيرتها- رغم تعاظم الصحوة المستمر - يدرك بسهولة أنها تعاني من أزمة منهجية عميقة ، لا تزال تشل عملها ، وتعوق وصولها إلى الغاية . وهو أمر عبر عنه البعض بأن "الإسلاميين يعرفون ما لا يريدون أكثر مما يعرفون ما يريدون" أو "أنهم يجيدون صناعة الموت أكثر مما يجيدون صناعة الحياة" . ويمكن أن نعبر عنه بتخلف الثقافة العملية
إن الصيرورة التاريخية للحضارة الإسلامية عانت من ضمور خطير في الفقه السياسي والإداري والتنظيمي ، وعدم توازن مزمن بين فقه المبدإ وفقه المنهج . و يرجع هذا الضمور وعدم التوازن إلى أسباب عدة ، نذكر منها :
? جدلية الاكتساب والاستيعاب : فقد كان مستوى اكتساب المنضوين إلى الإسلام أيام الفتوح أوسع من مستوى استيعابهم في الأطر المنظِّمة لمجتمع المؤمنين : كان الإسلام أوسع من الإيمان.
? انهيار الخلافة الراشدة ، وما نتج عنه من تحويل وجهة التدين وحصره في الشؤون الفردية بعدما انهار نظام الجماعة . فالواقع المنحرف له أثره السيئ على الفكر لا محالة .
? الجفاء الذي ساد بين أهل القرآن وأهل السلطان ، نتيجة سيادة الملك العضوض ، وبعده عن مقتضيات الدين ، مما دفع الفقهاء إلى الإعراض عن هذه الجوانب المهمة من فقه التدين .
? أن العقل المسلم فقَدَ مرونته العملية بعد قرون من الانحطاط فتحول العديد من المبادئ الإسلامية إلى أفكار نظرية مجردة : قد تُساق للتمدح بجلال الرسالة الإسلامية ، لكنها لا تُتَّخذ قاعدة منهجية هادية للعمل .
? أن القواعد المنهجية ذاتها ليست على القدر نفسه من البداهة والوضوح اللذيْن نجدهما في القواعد المبدئية . كما أنها ليست مفصولة عن القواعد المبدئية في نصوص الوحي ، فلا بد من استنباط لها في ثنايا النص . وهو أمر يستدعي جهدا نظريا لم يبذله الإسلاميون بعدُ بالقدر الكافي .
? أن القواعد المنهجية - بما هي ارتباط بالواقع التاريخي وتفاعل معه ، وليست تعاملا تجريديا مع النص - لا بد من البحث عنها في ثنايا الحكمة الإنسانية عامة ، طبقا لمقاصد النص الشرعي وغاياته ، لا في حدوده اللفظية فقط ، وهو أمر لا يزال غائبا عن أذهان بعض الإسلاميين .
? النقص الواضح في الوعي التاريخي الذي يمكِّن من الفصل بين الدين والتدين ، بين المبدإ الشرعي وتجسيده التاريخي ، ويسمح بتجريد المبدإ من ملابسات الواقع أيام الرسالة ، من أجل تنزيله على واقع مغاير .
? أسر الأشكال التاريخية : فحتى الذين استنبطوا بعض القواعد المنهجية والتنظيمية من الوحي لم يهتدوا في الغالب إلى التحرر من شكلها التاريخي وطرائق تنزيلها في المجتمعات الإسلامية القديمة ، ولم يستطيعوا تجسيدها في أطر جديدة تتناسب مع المجتمع المعاصر .
? عدم الاستفادة من التراث الإنساني المعاصر في مجال الفكر التنظيمي . فمنهج الدفاع عن الذات الذي انتهجه كثير من الإسلاميين تجاه الحضارة المعاصرة قضى عليهم بالتمحور حول الذات ، والتوجس من استيراد الحكمة الإنسانية من مواطنها .
? تخلف الثقافة السياسية في العالم الإسلامي عموما ، مما جعل بعض الإسلاميين أسرى صور تاريخية بائسة من القيادة . وبذلك تحولت مبادئ الإسلام السياسية الجليلة - كالشورى والأمانة والقوة والعدل والطاعة - إلى شعارات مجردة ، بدلا من أن تكون دليلا عمليا هاديا للمسيرة .
وبذلك يتضح أن الاكتفاء بالنظرات التي يمكن استخلاصها من التجربة التاريخية للمسلمين نوع من التبلد والجمود الذي قضى على الصحوة الإسلامية بالتخلف التنظيمي ،كما يتضح أن تجديد القول في هذا الشأن أمر ضروري ، من خلال التنقيب بين الركام عن أي تجربة رائدة ، أو فكرة مبدعة ، تنير الدرب ، وتمهد الطريق للسائرين . حتى لا تظل الصحوة المباركة تراوح مكانها ، ويظل أعداؤها يتلاعبون بها ، ويوجهون طاقتها حيثما شاءوا .

لقد أدركَتْ خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين أن المشكلة المبدئية في المجتمع الإسلامي لا تنفك عن المشكلة المنهجية والعملية . وقد شاد الفيلسوف الشاعر محمد إقبال فلسفة متكاملة في هذا الشأن عبر عنها في شعره البديع ، من مثل قوله وهو يحاول دلالة المسلم المعاصر على قوته الكامنة التي لم يسبر غورها ، ومكانته الرفيعة التي لم يقدرها حق قدرها ، فرضي بالدون ، واستكان للظلمة
:إمامك يفقد معنى الخشـوعْ *** وينقص نجـواك عــزُّ القيامْ
أمثلك يرضى بهذا الخنــوعْ *** وتلك الصلاة وهـذا الإمـامْ (1)
وحينما شخص إقبال المأساة الإسلامية لخصها في عدم الفاعلية ، وإفراغ المبادئ الإسلامية من أثرها في الحياة العملية ، وفقدانها لطاقتها الخلاقة في القلوب :
والمنبر اليوم والمحراب قد فرغا *** من صيحة الحق أم من صرخة السحرِ
أين الأذان الذي كانت تميد له *** صم الجبال ، وأين الصعْق في السورِ
طوَّفْتُ في أمة الصحراء أسألها *** فإذْ بهـا أمة الصحـراء في خَــوَرِ
رأيتهم في سجود لا اتجاه لـه *** وما له في وجوه القـوم من أثـرِ (2)
ومفهوم الحب عند إقبال ليس استعباد الإنسان لأهوائه الأرضية . بل الحب عنده قرين للثورة ومرادف للعز ، ذلك العز الذي يجسده الخليل عليه السلام وهو يحطم الأصنام :
وجائزة الحـرِّ غيرُ الخمـورْ *** وغير الغواني وغير الخيامْ
على الطُّعْم يسقط من لا يطيرْ *** ومن لا يحلِّق فوق الغمامْ (3)

هو الحب ينسيك وقع الجراحْ وتفضـح سرَّك آثــارُهُ
وما الحب إن لم تمت عـزةً ؟ وما العيش جلَّلَـه عارُهُ ؟ (4)

نحتُ أصنــام آزَرٍ صنعةُ العاجز الذليلْ
والذي يطلب العـلا حسبه صنعة الخليلْ (5)
وفي تعريفه للزهد رفض إقبال خرافات بعض المتصوفة وشعوذاتهم . ورأى في خنوعهم عقابا دنيويا على الجبن والخور ، واستبدال السيوف بالدفوف ، والسجود وقت القيام :
الزهد إخضاع هذا الطين والشررِ *** وليس في بعدنا عن عالم البشـرِ
فـقل لصوفية بالفـقر راضيـةٍ *** هذا العذاب عقاب الجبن والخورِ (6)

فانظر إلى قدَر الشعوب *** وكيف يبدأ بالسـيوفْ
فإذا انتهى ، فإلى المـزا *** مير الشجية والدفوفْ (7)

هذه الأغبياء تسجد لمـــا *** يقتضي الأمر أن يكونوا وقوفا (8)

أبداً مرقعة الجنيد لوحدها *** لن تستطيع لأمـرنا ترقيعا (9)
وقد ذهب إقبال إلى أن آفة التربية الإسلامية الآن هي التنظير في غير طائل ، وسيادة التجريد والجدل في الحديث عن أصول الإسلام العظيمة . بينما يحتاج المسلم إلى القوة أو "صرخة التوحيد" حسب تعبير إقبال :
ما في مدارسك التي ترتادهـا *** إلا بحوث مغفَّـل وبـليـدِ
سرُّ الدراسة في فؤادك كامن *** لو كنت تحسن صرخة التوحيدِ (10)
وعلى خطى إقبال جاء الفيلسوف الإسلامي مالك بن نبي ، فاستخلص أن أزمة المجتمع المسلم هي أزمة منهجية عملية في الأساس ، وصاغ نظريته في التغيير الاجتماعي على أساس مبدإ الفاعلية . وقد أخذ مالك بن نبي على بعض حركات الإصلاح التي ظهرت في العالم الإسلامي مطلع القرن العشرين إغراقها في الحديث عن العقائد المجردة على طريقة علم الكلام القديم ، ففقدت رسالتها ودورها التاريخي ، لأن "المسلم لم يتخل مطلقا عن عقيدته ، فلقد ظل مؤمنا .. ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها ، لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي … وعليه فليست المشكلة أن نعلِّم المسلم عقيدة هو يملكها ، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها ، وقوتها الإيجابية ، وتأثيرها الاجتماعي . وفي كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله، بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده" (11) . وحين قارن بن نبي بين منهج محمد عبده ومنهج محمد إقبال اكتشف الفرق بين المدرستين : مدرسة كلامية تتعامل مع المشكلة الإسلامية في الإطار الذهني المجرد ، ومدرسة عملية تهدف إلى تغيير جوهر الإنسان ومحيطه الاجتماعي ، ومن هنا اختلاف المدرستين في رؤيتهما للنهضة الإسلامية المرجوة : "إن المدرسة الإصلاحية [بقيادة الشيخ محمد عبده] صاغتها بلغة علم الكلام ، بينما صاغها إقبال في مصطلحات أخرى ، حين نبه على أن المطلوب ليس العلم بالله ، ولكنه - في أوسع وأدق معانيه - الاتصال بالله . ليس المطلوب مفهوما كلاميا، ولكنه انكشاف للحقيقة الخالدة ، وبحسب تعبيره هو :"تجلي هذه الذات العلوية"" (12) . ولذلك لا عجب أن المدرسة الإصلاحية سرعان ما فقدت رسالتها التاريخية ، نظرا لفقدانها الروح العملية "فظلت تعاليم تهدف إلى تخريج متخصصين بارعين ، أكثر مما تتجه إلى تكوين دعاة مخلصين" (13) . والمتخصص البارع الذي لا يحمل هما ولا رسالة ، إنما يغذي - في أحسن الأحوال - وقود الجدل على حساب العمل ، إن لم يقع في شراك الظلمة وينضم إلى صفهم .
ومن المساوئ التي جرها النزوع النظري لدى المدرسة الإصلاحية الانشغال بالكليات والعموميات عن جزئيات الواقع المتعين . وقد عبر بن نبي عن ذلك بأسلوبه الخاص ، موردا كلمة الأديب الفرنسي "بلزاك" : "أو ليس عجابا أن أتجه إلى إصلاح الوطن ، بينما قد عجزت عن إصلاح فرد في هذا الوطن ؟؟!!" (14) . ولو نقلنا هذه المعادلة من ثنائية الفرد-الوطن ، إلى ثنائية الوطن -الأمة ، لأمكننا القول : إن تلك المدرسة الإصلاحية اتجهت إلى إصلاح الأمة الإسلامية ككل ، مع عجزها عن إصلاح بلد واحد من البلدان المنتمية إلى تلك الأمة . وسبب ذلك هو فقدان الحس المنهجي العملي ، والابتعاد عن الواقع المعيش . وهو الداء الذي لم تسلم منه الحركات الإسلامية المعاصرة التي تنشغل أحيانا بأهداف "من شدة ضخامتها تصبح مبهمة" (15) . وسنرى أعراض هذا الداء بشكل آخر من خلال حديثنا - في الفصل السابع - عن إغفال الحركات الإسلامية لمراتب العموم والخصوص فيما بينها .
والمراقب لبعض الحركات السلفية الحالية ، من حيث الأثر الاجتماعي والدور التاريخي ، يدرك بسهولة كيف أصابها هذا الداء : داء الجدل والتجريد النظري ، ففقدت وظيفتها الاجتماعية ، وتحولت إلى مدرسة كلامية في الواقع العملي ، رغم التسمية السلفية . وهو الأمر الذي اشتكى منه الدكتور عبد الله نصيف بمرارة فقال : "نحن المسلمين أشد أعداء الإسلام … لا نزال نحارب المعتزلة ، بينما يجب علينا التعامل مع الأفكار الطرية fresh ideas في ثقافتنا" (16) . وإلا فما معنى شغل المسلمين المعاصرين بالحديث عن الجهمية والمعتزلة والمرجئة ، وغير ذلك من مبتدعة وبدع عاشت وماتت في قرون الإسلام الأولى ؟ وقد كان من الأفضل لهؤلاء المساكين أن يتعلموا الإسلام ويعيشوه دون أن يعرفوا عن هذه الترهات التي ستستنزف جهدهم ، وتشوش إيمانهم . وما ضرَّ الصحابةَ رضي الله عنهم أنهم لم يسمعوا عنها . ثم إن في أطروحات وممارسات الملحدين والإباحيين والمستبدين المعاصرين شغلا ، والاهتمام بها أولى شرعا ومنطقا ، لأنها هي التي تهدد إيمان المسلم المعاصر .
لقد خرجت هذه المدرسة عن منهج أئمة السلفية الأقدمين الذين لم يكونوا يهتمون بالجدل المجرد عن الغايات الموضوعية ، ولم يتحدثوا إلا عن أمور عملية تهدد دين المسلم في عصرهم . وتلك ميزة شيخ الإسلام ابن تيمية كما لاحظ بن نبي : "فابن تيمية لم يكن "عالما" كسائر الشيوخ ، ولا متصوفا كالغزالي ، ولكن كان مجاهدا ، يهدف إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي" (17) . والذي يدرس سيرة الرجل ويطلع على دوره الجوهري في صد هجمات الصليبيين والتتر ، ووقوفه في وجه حكام الجور وعلماء السوء ، وتحمله أذية الطرفين ، يدرك أنه كان رجل عمل لا جدل . ومثله الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي كان رجلا عمليا : انطلق من وعي بهموم مجتمعه ، فعلم الناس وقادهم ، وبنى التحالفات السياسية والقبلية ، وحمَل السلاح، وهدَم أوكار الخرافة والدجل . لكن الأتباع الذين فقدوا الإحساس بعنصر الزمن في تفكيرهم لا يدركون قيمة المنهج العملي في الإسلام ، فتستعبدهم مصطلحات الماضي ، ويغفلون عن حاجات الحاضر
وما نعاه الدكتور عبد الله نصيف على السلفيين الحاليين أشار إليه الشيخ راشد الغنوشي بلهجة لا تقل مرارة ، فقال : "ما الذي يهمنا نحن المسلمين المتخلفين المهزومين ، وبلادنا تتقاذفها مختلف التيارات الثقافية ، ومجتمعنا يمر بأخطر التناقضات والأزمات ، أن نعرف موقف المعتزلة من صفات الله ، هل هي قائمة بذاته ، أم هي زائدة عن الذات ، ثم موقف ابن رشد من الكون هل هو قديم أم محدث ، ورأي ابن سينا في النفس وخلودها ، وموقف الأشعري من الكسب؟؟… … أقترح أن تعاد هذه الأكفان إلى قبورها ، ويوارَى التراب على هذه المشكلات الزائفة ، وكفاها ما أحدثته في تاريخنا من اضطرابات وفتن وحروب وتشتت.. " (18) .
لكن لا يبدو أن هذه الصيحات تجد لها صدى كبيرا عند المستغرقين في الجدل الكلامي . والأمثلة في هذا الشأن مثيرة للاستغراب حقا : ففي أحد البلدان الغربية تعرفتُ على شيخ يؤم مسجدا جل رواده طلاب من إحدى الدول العربية ، وأخبرني الشيخ أنه يقدم دروسا لأولئك الطلبة في العقيدة ، ثم أضاف - باعتزاز - على ما يبدو : "لقد قضيت شهرين متتابعين في تدريسهم شُبه المعتزلة ، والله أعلم كم سأحتاج من الوقت لتدريسهم شبه المرجئة والشيعة والخوارج .. " . فأحسست بالضياع ، وتساءلت : هل جاء هؤلاء الشباب إلى الغرب من أجل هذا ؟ أليس أمامهم ما يدرسونه ، وما تحتاجه أمتهم غير هذا ؟ ألا يكفي تضييع أعمار الآلاف من الشباب في الجامعات الإسلامية بهذه المتاهات ؟ هل من اللازم أن يظل فكرنا المتخلف يطاردنا حتى في ديار الغربة ؟ لمصلحة من يتم تحريف طاقات أولئك الشباب وتصريفها فيما لا طائل من ورائه ؟؟ ألم يكن من الأجدى لهم أن يكتفوا من العقائد بالجمل ، ثم يتجهوا إلى العمل ؟؟ أسئلة كثيرة محيرة لا يملك الشيخ المسكين جوابها ، وربما لا يهمه جوابها أصلا ما دامت سفارة تلك الدولة تدفع له .. وهو بالتأكيد يستحق عليها البذل بسخاء ، ما دام يشغل أولئك الشباب الأغرار بتلك الترهات عن هموم دينه وأمته . ولا ريب أن حكام الفساد والاستبداد أدرى بفائدة هذه الثقافة العليلة التي انشغل بها الشباب المسلم عن تدبر الوحي وفهم الواقع ، وهم حريصون على إسكات كل صوت ينتبه إلى هذه العلل ، وقد نبه على ذلك الشاعر السعودي عبد الله الحامد بأسلوب أدبي لطيف ، فقال :
وتحفيـظٌ لقرآنٍ *** وويل للذي فسَّـرْ
وإدغامٌ وإخـفاءٌ *** وويل للـذي أظهر
وليس بعيدا من هذا المنهج "السلفي-الكلامي" انشغال شباب الحركات الإسلامية بأدب المرافعات ، ورد الشبهات ، عن الثقافة الإيجابية العملية . فما الفائدة من رد شبهة إذا كنت ستترك الفراغ لأخرى لتحل محلها في ذات الوقت ؟! أليس ذلك استنزافا للجهد والوقت في معركة خاسرة ؟؟ لقد شغلت كتب المرافعات شباب الصحوة لفترة مديدة عن الإنتاج الفكري الرصين الذي يبني العقل ويهدي العمل .
كما أصيبت بعض الحركات الإسلامية - في عقدي الستينات والسبعينات - بداء الفكر الإطلاقي الذي لا يولي اعتبارا للواقع العملي ، بل ينشغل بالتغني بالمبادئ الجليلة ، دون تفكير في المناهج العملية التي تخدم تلك المبادئ . والفكر الإطلاقي الذي تجسد - أكثر ما تجسد - في كتب الشهيد سيد قطب المتأخرة ، هو فكر يريح الضمير ، لكنه لا يقود إلى العمل . إنه إدانة للواقع الظالم ، لكنه ليس سعيا لتغييره . ولم تكن تلك طريقة الإمام الشهيد حسن البنا ، الذي كان رجلا عمليا ، وكان يوصي الشباب الإسلامي بذلك ، وقد عبر عن ذلك بصيحاته المتكررة: "كونوا عمليين لا جدليين" (19) . وقد أورث الاتجاه العملي عند البنا حراكا اجتماعيا ، وتفاعلا مع جهد الحركة ورسالتها ، بينما كان للفكر الإطلاقي لدى سيد قطب ثمرة مناقضة تماما . وهو أمر أدركه الدكتور طارق البشري بعمق ، ووصفه بدقة في قوله : "إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا رحمهما الله … فكر حسن البنا فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس بعامة ، وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى . وفكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة ، وفكر امتناع عن الآخرين . فكر البنا يزرع أرضا ، وينثر حبا ، ويسقي شجرا ، وينتشر مع الشمس والهواء . وفكر سيد قطب يحفر خندقا ، ويبني قلاعا ممتنعة عالية الأسوار" (20) .
ومن المساوئ المنهجية الخطيرة في العمل الإسلامي المعاصر ، ضعف الوعي بالزمان والمكان . فالعيوب المنهجية التي ذكرنا اشتمال الخطاب السلفي المعاصر عليها - والتي سنزيدها تفصيلا فيما بعد - ترجع كلها تقريبا إلى عيب واحد ، هو فقدان الإحساس بالزمان . أما ما اتسمت به بعض الحركات الإسلامية من فكر إطلاقي ، وانشغال بالعموميات عن التفاصيل ، وعدم إدراك الخصوصيات بينها ، فهو فقدان للإحساس بالمكان . ولذلك ليس من النادر أن تجد إسلاميا من المغرب العربي يستطيع أن يحدثك عن دقائق تاريخ الإخوان في مصر ، وعن قادة الأحزاب الأفغانية من منهم من البشتون ومن منهم من الطاجيك ، وعن الجامعة الألمانية التي حصل منها نجم الدين أربكان على دكتوراه الهندسة ، وعن تفاصيل المؤامرة السياسية على أنور إبراهيم ...الخ وهذا أمر محمود في ذاته ، لأنه اهتمام بأمر المسلمين ، وإحساس بالرباط الذي يربط بينهم. لكن الخلل وعدم التوازن يظهر حينما تجد أن نفس القيادي الإسلامي لم يسمع باسم الفضيل الورتلاني ، ولا قرأ لعلال الفاسي أو مالك بن نبي .. ولا هو يعرف عدد الوزراء في حكومة بلاده، فضلا عن خلفياتهم السياسية والأديولويجية ، ولا يدري شيئا عن التغلغل الفرنسي في مواقع النفوذ والسيطرة في بلده . وليس من النادر أن تلقى قياديا إسلاميا من الجزيرة العربية يحدثك عن تفاصيل عمل الحركات التنصيرية في العالم الإسلامي ، ووسائل تأثيرها على المسلمين في غرب إفريقيا وجنوب شرق آسيا - وتلك شهامة ومروءة إسلامية - لكنه غير مطلع على أساليب عمل السلطة في بلده ، وصلاتها الدولية ، وتحالفاتها ومعاهداتها التي تحتمي بها ، وتدفع ثمنها من ثروة وكرامة بلده . كما أنه لا يعرف عدد أفراد الأسرة المالكة ، فضلا عن خلفياتهم الفكرية والسياسية . ولا هو يدري شيئا عن تاريخ حركات الإصلاح في الجزيرة العربية ، وكيف جنى بعض الحكام ثمرتها ، وركبوا موجتها ، وحرفوا رسالتها . وكأن القادة الإسلاميين متخصصين أكاديميين ، وليسوا قادة حركات سياسية ، هي أمل التغيير في بلدانهم
إن المنهج العملي الذي انتهجه الإمام حسن البنا ، هو الذي لفت انتباه عالِم الاجتماع مالك بن نبي ، فتحدث عنه بغبطة ، ورأى فيه بارقة الأمل لأمة طالما احترقت بنار الكلام الفارغ من كل أثر عملي . يقول بن نبي : "لم يكن الرجل [حسن البنا] يتحدث عن ذات الله كما صورها علم الكلام ، أي عن (الله) العقلي ، بل كان يتحدث عن (الله) الفعال لما يريد ، المتجلي على عباده بالرحمة والقهر ، تماما كما كان المسلمون الأولون يستشعرون حضوره فيما بينهم ، ونفحته المادية في بدر وحنين" (21) . وحينما تحدث بن نبي عن تجربة الإمام البنا الاجتماعية توصل إلى أن عنصر التجديد فيها عنصر عملي ، لا نظري ، فقال : ".. وظفرت الحركة [=حركة الإخوان] بزعيم [=حسن البنا] لم يكن فيلسوفا أو عالم كلام ، فقد اكتفى بأن بعث في الناس الإسلام بعد أن أزاح عنه سدول التاريخ . وما كان له من نظرية يركن إليها سوى القرآن نفسه ، ولكنه القرآن الذي يحرك الحياة" (22) . وهذا هو منهج الأنبياء عليهم السلام كما يبين بن نبي : "فموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، لم يكونوا علماء كلام ، ينطقون أفكارا مجردة، ولكنهم في الحق كانوا مجمِّعين لتلك الطاقة الأخلاقية ، التي أوصلوها إلى نفوس فطرية" (23) . ومن المهم عند بن نبي أن الإمام البنا "لم يكن يفسر هذا الذي يقرؤه ، فلقد ترك التفسير لشيوخ الأزهر ، وهم أكثر منه علما به ، فإن بابه متسع للجدل حول مسائل اللغة والكلام والفلسفة والفقه والتاريخ … وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيرا عميقا في سامعيه ، فما ذلك إلا لأنه لم يكن يفسر القرآن ، بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها . فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة ، أو قانونا محررا ، بل كان يتفجر كلاما حيا ، وضوءا آخذا يتنزل من السماء فيضيء ويهدي .. " (24) . ولا يظنن القارئ الكريم أن بن نبي يحمل موقفا سلبيا إزاء التفسير كعلم ، وإنما كان يدرك ضرورة صياغة منهج جديد لتدبر الكتاب العزيز ، يستنطق النص بحثا عن حلول لإشكالات المجتمع المعاصر ، ويتحرر من جدل الماضي وخلافاته اللفظية .
ولأن البنا كان مدركا لأدواء الثقافة الإسلامية ، التي شغلها الجدل عن العمل ، فإنه لم يبدأ عمله في المسجد - مركز تلك الثقافة - بل في المقهى ، حيث الناس على الفطرة ، وهكذا فإن "البنا عندما بدأ تحركه في الإسماعيلية لم يبدأ في المساجد لأنه يقول : إن جمهور المسجد يذكرون دائما الموضوعات الخلافية ، ويثيرونها في كل مناسبة . فاتجه إلى المقاهي يقف هناك بين روادها ، ويقول كلمة قصيرة جذابة مشوقة رطبة ، لا تزيد مدتها على عشر دقائق ، فكان لهذا الأمر سحره في الجمهور الإسماعيلي" (25) .
وقد ذهب مالك بنْ نبي إلى أن المدرسة الإصلاحية كان في وسعها أن تؤثر في مسار المجتمعات الإسلامية تأثيرا أكثر إيجابية "لو أنها استطاعت أن تقوم بتركيب أفكارها ، وتجميع عناصرها ، لتوحد ما بين الأفكار الأصول التي ذهب إليها الشيخ محمد عبده ، وبين الآراء السياسية والاجتماعية التي نادى بها جمال الدين ، الأمر الذي كان سيؤدي حتما إلى طريق أفضل من مجرد إصلاح مبادئ العقيدة"(26) . وهذا التركيب هو الذي قام به الإمام البنا فيما بعد ، وأضاف إليه روحا شعبية ، قربته إلى قلوب عموم المسلمين ، بعد أن كان محصورا في صفوة طغى عليها الاهتمام النظري .
إنما ذكره بنْ نبي عن تعامل الشهيد البنا مع القرآن الكريم بمنهجية عملية هو تعبير بصورة أخرى عما بينه محمد إقبال من قبل ، من أن النفوس المؤمنة إذا لم يشفها تدبر القرآن واستنطاقه بمنهجية عملية ، فلا الذوق الصوفي (الكشف) بمغن عنها ، ولا الجدل الكلامي (الكشاف) بنافعها :
نفس إذا القرآن ما انتفعت به *** لا الكشف ينفعها ولا الكشافُ (27)
والسر في هذا التشخيص الذي اتفق عليه محمد إقبال ومالك بن نبي وغيرهما من خيرة العقول المسلمة ، هو أن علم الكلام - الذي رمز إليه إقبال بكتاب "الكشاف" للزمخشري - يزيف المشكلة الإسلامية من أساسها ، كما دلت عليه التجربة التاريخية للمسلمين "حيث لم يكن المتجادلون يبحثون عن حقائق وإنما عن براهين" (28) . كما أن "علم الكلام لا يواجه مشكلة "الوظيفة الاجتماعية" للدين" (29) وهي جوهر أزمة المجتمع المسلم الآن ، ومن أجل استرجاعها ظهرت الحركات الإصلاحية والإسلامية المعاصرة ، بل يشغل الناس بالجدل حول أمور غيبية لا مجال للتوصل إلى نتائج حاسمة بشأنها ، ولا تترتب عليها ثمرة عملية . أما التصوف فهو يجعل المسلم يهرب من الحياة ، ويتحلل من مسؤولياته الاجتماعية . ولذلك جَهِد الإمام البنا في إقناع الجيل المسلم الجديد بشمولية الإسلام وإيجابيته وواقعيته .
وليس المراد بعلم الكلام - عند بن نبي - تلك المقولات التجريدية التي شغلت المسلمين ما بين القرن الثالث والسابع الهجري - حتى جاء ابن تيمية ، فذكَّرهم بمنهج السلف - بل المراد كل فكر لا تترتب عليه ثمرة عملية .. وليس المراد بالتصوف - عند إقبال - تلك الفلسفات الهرمسية الباطنية التي نخرت روح المجتمع الإسلامي خلال القرون .. بل المراد كل فكر تحول إلى انعكاس للذات ، وراحة للضمير ، دون أثر موضوعي .
لقد صدق بنْ نبي : فالبنا والمودودي كان جوهر جهدهما هو أنهما علما الأمة المسلمة أسلوبا عمليا يضعها على طريق التغيير . وما جعل الرجلين رائدين للصحوة الإسلامية ليس فكرهما فقط - فما أكثر العلماء والمفكرين والكتاب سواهما - وإنما ما اتسم به فكرهما من صبغة عملية .
والذي جعل الخميني يحرك المسلمين الشيعة ليس فكره النظري ، وإنما أفكاره العملية . وأهم هذه الأفكار هي فكرة "ولاية الفقيه" التي استطاع من خلالها إقناع أبناء طائفته أن انتظار "الإمام الغائب" موقف سلبي ، حكم على الشيعة بالسلبية والخنوع لحكام الجور ألف عام ، وأن لا مكان للمواقف السلبية في عالمنا المتحرك . ومهما يكن الضعف في الصياغة الشرعية والمنطقية لفكرة ولاية الفقيه ، فإنها قد أيقظت الشيعة من رقدتهم الطويلة ، وأعادتهم إلى مسرح التاريخ من جديد.
لكن بن نبي لم يكن ليفوت عليه نقص النظام والتنظيم في جهود الإمام البنا ، وحاجتها إلى مزيد من الفكر الفني المعاصر : منهجية وتنظيما وتخطيطا ، من أجل التغلب على عوائق الطريق ، واختصار الرحلة . فالبنا الذي بدأ حياته الروحية متصوفا ، وحياته التنظيمية سكرتيرا لجمعية خيرية (30) ، لم تتجاوز ثقافته التنظيمية حدود تنظيم الطرق الصوفية والجمعيات الخيرية ، وهو أمر لم يكن أبدا ليلبي حاجات حركة تغيير اجتماعي وسياسي عريضة ، مثل حركة الإخوان المسلمين التي أسسها . كما أن ثقافته المعاصرة لم تكن بمستوى التحديات التي واجهها . وقد كان محمد إقبال بيَّن أن المجتمع الإسلامي المعاصر لن ينهض إلا "بقلب شرقي وعقل غربي"(31) فالقلب الشرقي تعبير عن الأصالة والمبدئية ، والعقل الغربي تعبير عن الفاعلية والروح العملية (32) . لكن بن نبي كان متفائلا بقدرة الحركة الإسلامية على تجاوز الإشكالات العملية ، فقال : "ولئن كان التركيب الاجتماعي الجديد [الذي جسدته جهود الإمام البنا] قد بدأ مع شيء من الفوضى، فسرعان ما تزول هذه الفوضى، حين يتغشاها الفكر الفني ، الذي أصبح الآن عاملا يعجل بحركة التاريخ" (33) . ولا ريب أن مالك بن نبي كان مصيبا في تشخيصه ، لكنه أخطأ في تنبئه بقدرة الحركة على اختصار الزمن ، وتبني الوسائل الفعالة في ذلك . وهو خطأ لا يتحمل بن نبي مسؤوليته على أية حال ، فقد رأى من قوة الحركة وفتوتها أيام الإمام البنا ما يزكي طرحه ، وهو أمر يرجع إلى عبقرية القائد أكثر من رجوعه إلى قوة النظام . وإنما يتحمل مسؤولية الخطإ هنا قادة الإخوان المسلمين بمصر الذين خلفوا حسن البنا ، وقادة الحركات الإسلامية الأخرى التي تقيدت بأسلوبهم في العمل ، لأنهم لم يدركوا قيمة الفكر الفني المعاصر ، وضرورة تجديد الوسائل وشحذها باستمرار ، في سبيل الوصول إلى الغاية . فبعد نصف قرن على كتابة بن نبي هذا الكلام، لم تخط تلك الحركات خطوات نوعية في هذا المضمار. لكن بن نبي قد يعتبر مصيبا بشكل عام ، إذا أخذنا تحليله للظاهرة في عمومها ، غير محصورة في التجربة المصرية وما شاكلها . فقد استفادت حركات إسلامية أخرى -كالحركة الإسلامية في السودان - من الفكر الفني المعاصر ، وأدركت قيمته ، وهي امتداد لحركة الإمام البنا على أية حال .
لقد كان حسن البنا رحمه الله أحوج إلى من يقدر جهده ، ويبني عليه ، أكثر من حاجته إلى من يقدسه ، ويتوقف عنده . لكن هذا الاتجاه الأخير هو الذي ساد - بكل أسف - لدى حركة الإخوان المصرية ومن نحى نحوها من الإسلاميين في البلدان الأخرى . كما أن قادة الحركة الذين خلفوا البنا وقعوا - ربما أكثر من غيرهم - في ذلك الخلل المنهجي الذي دعاه الأستاذ فريد عبد الخالق - أحد القادة الأوائل في الحركة - الخلط بين "مبررات النشوء ومبررات الاستمرار"(34). فحتى لو افترضنا أن جهد الإمام البنا وجهاده لا يشتملان على ثغرات وجوانب قصور - وهو غلو من القول على أية حال - فإن كثيرا مما يصلح لزمانه لا يصلح للأزمنة التالية ، لأنه ينتمي إلى طور النشوء ، لا إلى طور الاستمرار ، ولكل عصر رجاله وأشكاله .
إن كل المراقبين للتطور الاجتماعي في العالم الإسلامي اليوم يدركون أن الحركات الإسلامية هي أمل الأمة في التغيير . لقد لاحظ "غراهام فولر" - ضابط "السي . آي . أي" السابق ، والمحلل السياسي البارز في أمريكا اليوم - أن الحركات الإسلامية "أكثر أصالة ، وأعمق جذورا في المجتمع من أي حزب آخر ، وأقل نخبوية ، وأقرب إلى هموم الناس من الأحزاب الأخرى" (35) . وقد توصل "فارنسوا بورغا" - الخبير الفرنسي في الحركات الإسلامية - إلى النتيجة العملية المترتبة على ذلك ، فقال : "إن الإسلاميين يستطيعون بناء علاقات التواصل بين الدولة والفرد"(36) تلك العلاقة التي يكمن في غيابها لب أزمة المجتمعات الإسلامية الحالية . لكن ما غاب عن بال بعض المراقبين الغربيين أمثال فولر- وعن جل الإسلاميين - هو أن الحركات الإسلامية فرطت لعقود مديدة في اكتساب القوة النوعية ، التي تحسم الرهان في نهاية المطاف ، خصوصا في دول العالم الثالث المحكومة بالقوة . فبعد إلغاء انتخابات 1991 في الجزائر ، واندلاع الحرب الأهلية، كتب "فولر" مقالا بعنوان : "هل الجزائر هي الدولة الأصولية القادمة" ؟ (37) فكان مفرطا في توقعه بحتمية انتصار الحركة الإسلامية الجزائرية فورا ، في مواجهتها مع الظلمة . لكنه أهمل أهمية القوة النوعية ، ولم يدرك أن الشعب الجزائري المجاهد ليس ضحية الزمرة العسكرية المتسلطة فقط، بل هو ضحية تفريط قديم من الإسلاميين الجزائريين - شأن غيرهم من الإسلاميين - وغفلة كبيرة منهم عن معادلة الحسم ومنطقه . لذلك تعين عليهم في النهاية أن يخوضوا حربا بغير إعداد ، ويدفعوا ثمنا فادحا من الدماء . وأسوأ ما يصيب حركة التغيير أن تُفرَض عليها معركة لم تعد لها عدة ، فتلجأ إلى المواجهة الهوجاء دون خطة أو نظام . وهو أمر يخدم الخصم أكثر مما يخدم الحركة ، كما لاحظ "فولر" نفسه فقال : "في الجزائر ومصر وجدت السلطة أن من الأفضل لها دفع الإسلاميين إلى العنف ، من أجل تبرير سحقهم ، تحت شعار "محاربة الإرهاب""(38) . وهي نفس النتيجة التي توصل إليها "بورغا" في دراسته للحالة الجزائرية ، حيث أكد أن الوسائل التي استخدمتها "الجماعات الإسلامية المسلحة" في الجزائر "تساعد على منح شرعية لسياسات القمع التي ينتهجها العسكر ، ولخطاب بعض النخب العلمانية العربية التي تدعم تلك السياسات" (39) رغم إقرار "بورغا" بأن أجهزة المخابرات الرسمية تستغل العديد من تلك الجماعات ، وتعمل من خلالها ، إمعانا في إلهاب المعركة ، وتشويه الخطاب الإسلامي.. ورغم إدراكه لمسؤولية الحكام الظلمة في إشعال تلك الحروب . يقول بورغا :"أعطني أي حزب سياسي في الغرب ، وسأحوله لك إلى "جماعة إسلامية مسلحة" خلال أسابيع ، إذا ما استخدمتُ نفس الطرائق المستخدمة ضد الحركات الإسلامية" (40) . وقد انفضح دور السلطة العسكرية الجزائرية في المذابح الوحشية ضد شعبها ، مطلع هذا العام ، بعد نشر كتاب الحبيب سويدية : "الحرب القذرة"La Sale Guerre وكتاب نصر الله يوس : "من قَتَل في بلدة بنْ طلحة" ؟ Qui a tue' a Ben Talha? .
ومهما يكن ، فإن المشكلة في هذه المعارك المفروضة ، لا تقتصر على فداحة الثمن اللازم بذله من الدماء والجهود .. بل إن المعركة المفروضة تؤدي إلى ارتكاب أخطاء مبدئية ومنهجية تضر بمكانة الحركة محليا، وبسمعة الإسلام عالميا . ولا ريب أن غياب استراتيجية تنظيمية وسياسية واضحة تستوعب الجهود وتحتوي الطاقات ، يؤدي أحيانا إلى انفلات الأمور ، وإلى دخول الشباب المتحمس في مواجهات هوجاء ، لا يضبطها هدف أخلاقي أو عملي . وتلك ثمرة سيئة من ثمرات الإخلال بمعيار الاستيعاب التنظيمي ، ونتيجة منطقية من نتائج القصور القيادي ، كان الغنوشي والترابي قد حذرا منها منذ أمد بعيد ، فكتبا : "يجب إيجاد مجالات لتفريغ طاقات الشباب الذين تملؤهم الحركة بالحماس ، لأنه إن لم توجد هذه المجالات ، تعرضت الحركة لكثير من الانحرافات . فليست ظاهرة "التكفير والهجرة" إلا نتيجة لعمل إسلامي لم يوجِدْ مجالات للتغيير في المجتمع ، كالنهر المتدفق الذي ينساب في جوانب مختلفة ، إذا لم يشق الطريق أمامه" (41) . ومثل هذه الانفجارات غير المضبوطة تؤذي الحركة مبدئيا ومنهجيا أكثر مما تضعف العدو المستبد. لقد لاحظ "فولر" في دراسته لأثر القمع على الحركات الإسلامية أن هذا القمع لا يزيد الحركة إلا قوة ، بشرط أن لا يدفعها إلى ارتكاب أخطاء ذاتية ، فقال : "إن مكانة الحركات الإسلامية [في مجتمعاتها] يمكن أن تتضرر من خلال عمل هذه الحركات فقط ، لا من خلال عمل غيرها" (42) . وهو يريد بالغير هنا آلة القمع الرسمية .
إن التغلب على الإشكالات العملية التي تعرقل مسيرة العمل الإسلامي ، يستلزم طرح أسئلة جدية حول المناهج والوسائل ، وتجاوز الحديث عن الشعارات والمبادئ الذي استهلك جهد الصحوة على طول العقود السبعة الماضية . وفي البحث في هذه القضايا لا ينبغي القبول بالإجابات الرخيصة أو الحلول السهلة ، ففي ذلك تزييف للمشكلة منذ البدء . وكما قال آلبرت ووهلستتر - أحد أبرز المنظرين الاستراتيجيين الأمريكيين - : "إن قبولنا بالإجابات الرخيصة يحول بيننا وبين إدراك عمق المشكلات التي نعيشها" (43) . وهي نفس المقدمة التي جعلته ينذر قومه بأن "معادلة أقل الجهد وأعظم الأماني معادلة خائبة" (44) . لكن لا يبدو أن أبناء الحركات الإسلامية يطرحون هذه الأسئلة الأولية بشكل جدي ، أو يعدون أنفسهم لبذل ثمن النصر من التخطيط والتنظيم .
على أن الفشل في تحقيق أي هدف لا يكون دائما ناتجا عن عدم بذل الجهد ، وإنما ينتج كذلك عن الخطإ في وضع الجهد موضعه المناسب . وهذا شأن كثير من الإسلاميين العاملين الآن ، فهم يبددون الطاقات في معارك وهمية ، ومناوشات جانبية ، ويسيرون على غير هدى من خطة محكمة، ولا يصوبون طاقاتهم في الاتجاه المناسب . وأعداؤهم يدركون كيف يصرفون طاقات التدين المتفجرة في نفوسهم عن وجهتها ، ويحفرون خنادق ومسارب لتوجيهها الوجهة التي يريدونها . وهو أمر كان الدكتور النفيسي أنذر منه منذ حوالي عقدين ، حينما حذر من "خلط الأوراق ، وضبابية الرؤية ، وحروب الوكالة ، والاستدراج لمعارك جانبية" (45) . فحينما تجد جماعات سلفية في بلاد الغرب كل همها هو محاربة الشيعة ، في أرض لا يعرف أهلها اسم هذه الطائفة تقريبا ، أو محاربة التصوف في أرض ضاقت الهوة بين الإنسان والحيوان فيها من شدة الإباحية .. تدرك عمق الأزمة المنهجية لدى بعض القوى الإسلامية . والعجب أن لا يدرك كثير من الإسلاميين هذه الأدواء في الوقت الذي تسفر العلاقات الوجودية بين حكام الفساد والاستبداد وبين أعداء الأمة عن وجهها ، كما عبر عنها كاتب إسرائيلي في قوله : "إن إسرائيل ونظام مبارك يركبان نفس السفينة" (46) ، وفي الوقت الذي يوصي فيه المخططون الغربيون حكوماتهم بتزويد أعداء الصحوة من الحكام المستبدين بالثقافة التنظيمية والمنهجية اللازمة للوقوف في وجه الحركات الإسلامية . فهذا "دكمجيان" يوصي الحكومة الأمريكية بتزويد الأنظمة العربية بالثقافة التنظيمية لاستخدامها ضد الحركات الإسلامية ، ويضعها على نفس المستوى من الأهمية مع المعلومات الاستخبارية والسلاح (47) . فهل ندرك مغزى ذلك ؟!؟
إن الناس ميالون إلى تجنب التفكير في الأمور السيئة ، لكن التفكير فيها هو الوسيلة الوحيدة لتفاديها . والفكر التنظيمي السائد لدى الحركات الإسلامية يشتمل على جوانب سيئة ، نحت هذه الدراسة منحى نقديا في تناولها ، وهو أمر قد لا يعجب الذين اعتادوا فقه التبرير ، والذين يتحرجون من ذكر المساوئ . لكن دافعنا إلى هذا المنحى إنما هو كثرة السائلين عن الخير في هذه الأيام ، وندرة السائلين عن الشر على مذهب حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه الذي قال : "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" (48) .
وإذا كان حذيفة قد استطاع بطريقته الخاصة في السؤال أن يصل إلى لب النخر الداخلي في المجتمع الإسلامي الأول وهو النفاق ، فنحن اليوم بحاجة إلى من يسير على خطى حذيفة ، فينقب عن مواطن الشر ، ويضع يده على عوامل الهدم الذاتي ، حتى يجنب العمل الإسلامي أثرها السيء، ويستصحب الحكمة القرآنية : "قل هو من عند أنفسكم" (49) بدلا من التماس المعاذير في كيد الأعداء . فمهما نندب طول السفر ووحشة الطريق ، فإن العلة دائما تكمن في قلة الزاد وضعف الاستعداد .
ومن الجوانب السيئة التي تم إبرازها في هذه الدراسة ، مشكلة الاستبداد والتخلف القيادي داخل الحركات الإسلامية ، الناتج عن محورية الشيخ القائد ، وهيمنة الجيل المؤسس ، وارتباط مصير الحركة وخططها ورسالتها الإسلامية الخالدة بقيادة زمنية فانية . لقد أشار ج. ف. س. فولر في كتابه "مبادئ علم الحرب" إلى محورية القائد في الحروب التقليدية ، بحيث "كان قتل قائد أحد الجيشين أو أسره أو جرحه كافيا لحسم المعركة ، "لأن القائد آنذاك هو الخطة" حسب تعبيره"(50) بخلاف الحروب الحديثة التي لا يرتبط مصيرها بشخص القائد ، بل بدقة الخطة ، وحسن الإعداد، وهي أمور تتولاها فرق من الخبراء المتخصصين . وينحصر دور القائد فيها على الإشراف والتوجيه العام . وهو لا يخوض المعركة بشخصه ، بقدر ما يعلم الآخرين كيف يخوضونها ، ويضمن اتساق جهدهم ، وتصويبه إلى مَقاتل العدو . لكن الحركات الإسلامية اليوم - بمحورية القائد فيها - تشن حربا تقليدية ضد جيوش حديثة ، وهو ما أدى إلى الكوارث الاستراتيجية ، والفواجع العملية التي نعيشها . فبمجرد رحيل القائد المهيمن تبدأ الثغرات والانقطاعات في المسيرة ، لأن الحركة لم تؤسس أمرها من أول يوم على الاستمرارية والاطراد .
إن الأهداف غير الأماني ، لكن بعض الإسلاميين لا يزالون يخلطون بين الاثنين . إن الأمنية ثمرة انطباع ونزوع عاطفي ، أما الهدف فهو ثمرة عمل ذهني واع . ومن أعسر الأمور في الفكر الاستراتيجي والتنظيمي مشكلة تضارب الأهداف ، والموازنة بين أهداف الحاضر التكتيكية وأهداف المستقبل الاستراتيجية ، وهو أمر يستلزم حسا عمليا ، لا يقيم للأماني وزنا . والمتتبع لمسار الحركات الإسلامية يجد أن أكثرها لم تفلح في مثل هذه الموازنة . فقضايا العموم الخصوص ، والكم والكيف ، ومعضلات التعايش مع حكام الفساد من أجل التخلص منهم ، وغير ذلك من أمور ، يرجع في النهاية إلى مبدإ الموازنة هذا : فلا تزال كثير من الحركات الإسلامية تتحرج من التحالف مع حاكم غير إسلامي ، أو قوى سياسية وطنية ، حرصا على الصورة الزاهية لرجالها ، وتهدر الكسب الاستراتيجي الذي قد يثمره ذلك لمن يحسنون الاعتبار . فيدفعها هذا النهج إلى المراهنة على أمان غير واقعية ولا عملية . يحكي الأستاذ عبد المتعالي الجبري أن الحكم الناصري في بدء عهده "طلب من الأستاذ الهضيبي [المرشد العام حينها] تقديم بعض الإخوان للاشتراك في الوزارة ، فرفض الاشتراك إلا أن يكون الحكم إسلاميا 100% ، ورشح لهم بعض الكفاءات من غير الإخوان" (51) . وربما لا يستغرب المرء رفض الأستاذ الهضيبي مشاركة حركته في الحكم الناصري ، لكن ما يلفت النظر هو أسلوب الرد : فما ذا الذي سيجعل الحكم إسلاميا 100% إذا كان من يؤمنون بالحكم الإسلامي عازفين عن المشاركة حفاظا على نقاء الصورة ؟ وما ذنب "الكفاءات من غير الإخوان" ؟ هل هم الذين ينبغي تلطيخهم بما لا ترضاه الحركة لرجالها ؟ ثم هل تحوُّل الحكم إلى حكم إسلامي 100% مجرد قرار فوقي تتخذه سلطة تائبة؟ أم هو مسار متدرج وطريق طويل يقطعه رجال يحملون مبادئ الإسلام بصبر وإيجابية وتفاعل مع الواقع المنحرف ؟
إن إشعال الحرب أمر سهل ، لكن كسبها ليس كذلك . وإذا استمر تفريط الصحوة في الثقافة العملية ، فستنتهي بالإحباط والقعود ، شأن كل من يشعل حربا دون التخطيط لوسائل كسبها ، ومن يقف بنظره عند أفق البدايات وينسى العواقب والنهايات ، فينتهي جهده بإثارة العدو لينهش جسد الأمة أكثر ، بدلا من قهره وتخليص الأمة من شره . وقد صور الشاعر اليمني عبد الله البردوني ذلك ، وهو يتأمل مصائر بعض الحركات الثورية ، فقال :
والأُباة الذين بالأمس ثـاروا *** أيقظوا حولنا الذئاب ونامـوا
حين قلنا قاموا بثورة شعـب *** قعدوا قبل أن يُرَوْا كيف قاموا
ربما أحسنوا البدايات ، لكن *** هل يحسون كيف ساء الختام ؟ (52)
كما أدركه ذلك الحكيم الإفريقي نلسون مانديلا ، فقال : "الثورة ليست مجرد الضغط على الزناد ، ولكنها حركة تهدف إلى إقامة مجتمع العدل والإنصاف" (53) .
والغرض الأساسي لهذه الدراسة هو لفت نظر الإسلاميين أينما كانوا إلى أهمية الثقافة العملية المعينة على كسب المعركة ، وإقامة مجتمع العدل والإنصاف . والمقصود بالثقافة العملية هو العلوم التنظيمية والاستراتيجية والسياسية . فلا بد من دفع ثمن النصر ، ونحن الذين نقرر نوع الثمن الذي سندفعه : إما مزيد من التخطيط والتنظيم ، تمهيدا لبناء قوة نوعية قادرة على الأخذ بقوة . وإما مزيد من إراقة الدماء الزكية ، وهدر الطاقات الفتية ، وإضاعة الأوقات الثمينة . لقد بينت المقولة العسكرية القديمة "ابذل عرقك في التدريب تحفظ دمك في المعركة" هذه المعادلة . فإلى متى سنظل نبذل الدم بسخاء ، ونبخل ببذل الجهد المنهجي اللازم للنجاح ؟؟
إن الفكر الإسلامي المعاصر لم يستوعب بعد الفرق بين القصور المنهجي والتقصير المبدئي ، بين الخطإ والخطيئة ، ولم يدرك النتائج المترتبة على ذلك عمليا ، نظرا لإصابته بداء التجسيد : تجسيد المبادئ في أشخاص أو في مؤسسات ، وعجزه عن التجريد : تجريد المبدإ عن حامله والوسيلة التي تخدمه . لكن القرآن الكريم علمنا أن ارتكاب خطإ منهجي لا يعني بالضرورة أن صاحبه آثم ، ولا يترتب عليه نقص من جهده وجهاده في العاقبة . ففي ذلك التعقيب القرآني الجميل على غزوة أحد بين القرآن الكريم للمسلمين أن قتلاهم شهداء :"وليتخذ منكم شهداء" (54) لكنه أعلن لهم دون مواربة أنهم قصروا فأصيبوا : "قل هو من عند أنفسكم" (55) دون أن يكون ذلك إبطالا لجهد المجاهدين ، أو تقليلا من شأن الشهداء . هذه المعادلة التي تميز بين القصور المنهجي والتقصير المبدئي هي التي تعوز كثيرا من الإسلاميين اليوم . ولذلك يضيقون ذرعا بأي نقد ، مهما كان نزيها وصادقا ، ومهما كان دافعه الإشفاق على العمل الإسلامي ، ويدرجونه ضمن التشكيك في جهاد الحركات الإسلامية ، والطعن في مبادئها ، والتقليل من شأن روادها وشهدائها . وكان على هؤلاء أن يعلموا أن القول بوجود أخطاء منهجية في كتابات سيد قطب المتأخرة ، لا يعني أن الرجل ليس شهيدا بذل روحه لله ، وأن الكشف عن التخلف القيادي في بعض الحركات الإخوانية ليس تشكيكا في حسن نوايا القائمين على أمرها . لكن حسن النوايا وحده لا يبني مجتمعا ، ولا يغير وجهة التاريخ.
حينما كتب العلامة ابن خلدون في مقدمته عن مقتل الشهيد الحسين رضي الله عنه في كربلاء ، بين أن الحسين ارتكب خطأ منهجيا في تقديره لاستعداد أتباعه في العراق وقوتهم ، لكن ابن خلدون لم يغفل التنبيه على أن ذلك "خطأ دنيوي ، وليس دينيا" حسب تعبيره (56) أي أنه قصور في الخطة والأداء ، وليس تقصيرا في الشرع والمبدإ ، فهو خطأ لا خطيئة ، بخلاف ما فعله أعداؤه، فهو جريمة وخطيئة منكرة . لكن هذا الفقه الذي يميز الخطأ عن الخطيئة لا يزال غائبا عن بال بعض الحركات الإسلامية .
بيد أن الخطأ المنهجي قد يصبح خطيئة مبدئية ، حينما يتحول إلى إصرار وعناد ، بعد قيام الحجة، وتكرار نصح الناصحين ، وهذا الذي نخشاه على قادة وأبناء الحركات الإسلامية اليوم .
وغير بعيد عن ذلك غياب فكرة "الإمكان التاريخي" من فقه بعض الإسلاميين المعاصرين . إن فكرة "الإمكان التاريخي" تبين أن الصيرورة التاريخية - بما هي فعل بشري إرادي - حبلى بالاحتمالات دائما . وما يتحقق في واقع الحياة ، ليس هو كل الممكن ، بل هو جانب من إمكانات شتى ، رجحت ظروف الفعل البشري ظهوره . وبذلك تكون فكرة الإمكان التاريخي أداة منهجية فعالة ، يتبين من خلالها الفارق بين ما كان ، وما هو ممكن ، ويصبح التقييم متاحا ، استنادا إلى ذلك الفارق .
وبهذه الخلفية يمكن للباحث المتجرد أن يدرك أن صدام الحركة الإسلامية في مصر مع السلطة الناصرية كان يمكن تفاديه ، وأن إعلان الحرب على السلطة السورية - مطلع الثمانينات - لم يكن في وقته .. إلى غير ذلك من الأحداث الكثيرة التي اكتسبت صبغة جبرية في الوعي الإسلامي المعاصر .
إن غياب هذه الأداة المنهجية جعل بعض الإسلاميين يفسرون مصائب حركاتهم وإخفاقاتها باعتماد منهج "الجبرية الأموية" أو "الكربلائية الشيعية" . وهما وجهان لفلسفة واحدة ، تنطلق من أن ما كان هو حدود الإمكان ، وأن لا مجال للنقد أو المراجعة . وذلك خلل كبير ، وانحراف خطير عن المنهج القرآني الذي بينا تناوله لأحداث غزوة أحد .
إن أبناء الحركات الإسلامية اليوم - وقادتها على وجه أخص - في مسيس الحاجة إلى استيعاب درسين من الكتاب العزيز :
? الأول في سورة التوبة : فقد قال الخالق سبحانه عن المنافقين : "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" (57) . وهو ما يكشف لنا عن أن إهمال العدة - وأولها الفكر المنهجي - ليس من شأن المؤمنين الصادقين ، بل هو شعبة من شعب النفاق . وعلاج ذلك أن تتحول الرغبة إلى عزم ، والعزم إلى خطة ، والخطة إلى فعل . وقد عبر الحافظ ابن الجوزي عن ذلك بأسلوبه الأدبي البديع، فقال : "من عزم على أمر هيأ آلاته . لما كان شغل الغراب الندب على الأحباب ، لبس السواد قبل النَّوْح" (58) .
? والثاني في سورة (ص) : فقد امتدح الخالق سبحانه في تلك السورة ثلاثة من أنبيائه الكرام - وهم قادة البشرية عن جدارة - بأنهم من أهل الأيدي والأبصار : "واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار" (59) . ومن البين أن ليس المراد بالأيدي والأبصار هنا معناهما الفسيولوجي - فليس في ذلك مدح - وإنما هما تعبير رمزي عن القدرة العملية (الأيدي) والبصيرة الفكرية (الأبصار) .
وما تطمح إليه هذه الدراسة ليس أكثر من تذكير العاملين للإسلام بتلك الحكمة القرآنية .
وعلى الله قصد السبيل
--------------------------------
هوامش المدخل
(1)- محمد إقبال : ديوان "جناح جبريل" ص 78 ترجمة : عبد المعين الملوحي ، صياغة شعرية : زهير ظاظا ، ط دار إقبال للطباعة والنشر 1989
(2) - نفس المرجع ص 92
(3) - نفس المرجع ص 77
(4) - نفس المرجع ص 99
(5) - نفس المرجع ص 180
(6) - نفس المرجع ص 107
(7) - نفس المرجع ص 132
(8) - نفس المرجع ص 145
(9) - نفس المرجع ص 261
(10) - نفس المرجع ص 118
(11) - مالك بن نبي : وجهة العالم الإسلامي ص 54 ، ترجمة د. عبد الصبور شاهين ط خامسة دار الفكر ، دمشق 1985
(12) - نفس المرجع ص 155
(13) - نفس المرجع ص 156
(14) - نفس المرجع ص 63
(15) - صلاح الدين الجورشي : "الحركة الإسلامية مستقبلها رهين التغييرات الجذرية" (ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية ، أوراق في النقد الذاتي لمجموعة من المؤلفين ط أولى ، مكتبة مدبولي ، القاهرة 1989 ص 137)
(16) - Milton Viorst : In The Shadow of the Prophet p. 230
(17) - مالك بن نبي : وجهة العالم الإسلامي ص 49
(18) - راشد الغنوشي : دعوة إلى الرشد ص 19(نقلا عن الهرماسي : "الإسلام الاحتجاجي في تونس" بحث منشور ضمن ندوة "الحركات الإسلامية في الوطن العربي" ص 277)
(19) - مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ص 232
(20) - د. طارق البشري : "الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر" (ضمن كتاب "الحركة الإسلامية ، رؤية مستقبلية ص 173)
(21) - مالك بن نبي : وجهة العالم الإسلامي ص 159
(22) - نفس المرجع ص 156-157 . ولا بأس بالإشارة هنا إلى أن المترجم الدكتور عبد الصبور شاهين يحذف اسم "الإخوان" حيثما ورد في الأصل الفرنسي للكتاب ، ويشير إليهم بلفظ "الحركة" . كما يحذف اسم حسن البنا ويشير إليه بـ"الزعيم" أو "الرجل" .. ولعل ذلك يرجع إلى ظروف نشر الكتاب ، حيث نشر في أوج الصدام بين عبد الناصر والإخوان بمصر . انظر الأصل الفرنسي للكتاب : Malek Ben Nabi : Vocation de L'Islam ومع ذلك فضلنا الرجوع إلى الترجمة بدلا من الأصل ، نظرا لحسن صياغة الدكتور شاهين ، وبراعته في الترجمة .
(23) - نفس المرجع ص 55
(24) - نفس المرجع ص 158-159
(25) - د. عبد الله فهد النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية ص 207)
(26) - مالك بن نبي : وجهة العالم الإسلامي ص 45-55
(27) - محمد إقبال : جناح جبريل ص 192
(28) - مالك بن نبي : وجهة العالم الإسلامي ص 58
(29) - نفس المرجع ص 55
(30) - انظر النفيسي (مرجع سابق) ص 206
(31) - Dr. Ali Shariati : A Manifestation of self-reconstruction and Reformation , Muhammad Iqbal مقال منشور في موقع على الإنترنت خاص بفكر الدكتور علي شريعي (www.shriti.com) عام 2000
(32) - انظر Dr. Kalim Bahadur : The Jamaa't -I- Islami of Pakistan , Political Thought and Political Action p. 6
(33) - مالك بن نبي : وجهة العالم الإسلامي ص 161
(34) - فريد عبد الخالق : "نحو مراجعة المقولات والآليات" (ضمن كتاب :"الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية ، أوراق في النقد الذاتي" ص 316)
(35) - Graham Fuller : Islamism in the Next Century , in "The Islamism debate" p. 142
إصدار مركز موشي دايان للدراسات الشرق-أوسطية والإفريقية ، جامعة تل أبيب 1997
(36) - Francois Burgat : Ballot boxes, Militaries and Islamic Movements , in "the Islamism Debate" p. 43
(37) - Graham Fuller : Algeria, the Next Fundamentalist State مقال نشرته منظمة "راند" الأمريكية للأبحاث على موقعها بالإنترنت (www.rand.org) عام 2000
(38)- Graham Fuller : Islamism in
the Next Century p. 143
(39) - Burgat p. 40
(40) - Burgat p. 45
(41) - الغنوشي والترابي : الحركة الإسلامية والتحديث ص 38-39 (نقلا عن الهرماسي ص 278)
(42) - Graham Fuller : Islamism in the Next Century p. 143
(43) - Albert Wohlstetter : No highway to high purpose بحث نشرته منظمة "راند" على موقعها بالإنترنت www.rand.org) ) عام 2000
(44) - نفس المرجع والموقع
(45) - د. عبد الله النفيسي : "مستقبل الصحوة الإسلامية" ضمن كتاب "الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي" ص 330 إصدار مركز دراسات الوحدة العربية ، ط ثانية ، بيروت 1989
(46) - Nahman Tal : "Islamic Terrorism in Egypt , the challenge and response" بحث منشور على موقع "مركز جافي للدراسات الاستراتيجية" التابع لجامعة تل أبيب على موقعه بالإنترنت (www.tau.ac.il/jcss/links.html) عام 2000
(47) - R. Harir Dekmejian : Islam in Revolution, Fundamentalism in the Arab World p.175 F.ED. Syracuse University Press 1985
(48) - رواه البخاري 3/1319 ومسلم 3/1475 وأحمد 5/399 والنسائي 5/18 وأبو داود 4/95 والبيهقي 8/156 وغيرهم
(49) - سورة آل عمران ، الآية 165
(50) - Encyclopedia Britannica , Article : "The Theory and Control of War" 1999
(51) - عبد المتعالي الجبري : لماذا اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا ؟ حقائق جديدة ووثائق خطيرة ص 173 ط ثانية ، دار الاعتصام ، القاهرة 1978
(52) - عبد الله البردوني : لعينيْ أمِّ بلقيس ص 73 ط تاسعة 1984
(53) - نلسون مانديلا : رحلتي الطويلة من أجل الحرية ص 294 ، ترجمة عاشور الشامس ، ط أولى ، موريس بورغ ، جنوب إفريقيا 1998
(54) - سورة آل عمران ، الآية 140
(55) - سورة آل عمران ، الآية 165
(56) - مقدمة ابن خلدون ص 217
(57) - سورة التوبة ، الآية 46
(58) - أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي : المدهش ص 199 تحقيق د. مروان قباني ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت (بدون تاريخ)
(59) - سورة ص الآية 45


0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية