الاثنين، 7 يوليو 2014

تأملات في خريف العمر



تأملات في خريف العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين
جاوزت الخمسين من عمري والأيام والشهور تتسارع الى الستين إن كتب الله لي أن أعيشها وأمد في عمري  وتدور في أفكاري محاور فكرية بصفة متكررة  فقررت أن أسجلها بوحا من خلال الكلمات والسطور 

 وهي ليست من السخط والتسخط على أقدار الله في شيء  فأنا أحمد الله على كل قضائه وجميع قدره حمد الرضى بحكمه لليقين بحكمته  ولكنها نوع من البوح اللطيف والدعوة للصبر الجميل لمن شاء الله أن تقع عيناه عليها فيقرؤها أو يسمعها 

 وقد حكى لنا القرآن ووصف لنا مشاعر وأحاسيس من ابتلاهم الله عزوجل  وكيف وصل بهم الحال مثل مريم ابنة عمران عندما قالت في شدة ابتلائها ( ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) وقطعا لم يكن سخطا منها ولا تسخطا ولكنه من وجهة نظري نوع من البوح الجميل الذي يخفف شيئا من حرارة ولوعة البلاء على النفس ويساعدها على التحمل والصبر 

كما أنني كنت أتجول في فضاء الانترنت أبحث عن أخبار أصحاب البلاء وما يعانونه فكنت أجد عزاء لنفسي عندما أشاهد مصائب غيري وهول ما يعانونه وأسلم أمري إلى خالقي وأفوض له الأمر فلحكمة يعلمها وهوالحكيم العليم ابتلانا بهذه الابتلاءات ولكل نبأ مستقر وإلى الله  ترجع الأمور  وعندما تنكشف الغيوب يوم القيامة سنرى حكمته الباهرة سبحانه وتعالى في تدبير أمورنا وقضائه وقدره .


فقررت أن أكتب هذه التأملات والخواطر على حلقات عسى أن تكونا بلسما لجراح البعض وتسلية لآخرين وشدا من عزائمهم على الصبر والجلد .

( 1 ) القوة والضعف
في الشباب والقوة كنت أمر على الآيات التي تصف مراحل العمر ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )
فلا أتوقف عندها كثيرا لأن القوة  في أوج عطائها 

 أما اليوم  فعندما أمر بها  أجد نفسي  باختياري واضطراري أتأملها بعمق شديد وأذرف الدموع ساخنة وأنا أرددها  وخاصة في قوله ( ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة )  وقوله تعالى ( ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون )  فأجد نفسي أخاطبها هذا الله قد وعظك في كتابه أفلا تعقلي  من يعمر ينكس في الخلق  بكل ما للتنكيس من معنى  إن كان بمعنى تراجع القدرة والقوة فهذا أظهر المعاني وإن كان من الضعف والحاجة للغير فظاهر أيضا  وكلها من الأقدار المؤلمة .


وأتذكر أيام الشباب والجلد والقوة على مباشرة الأعمال وإنجازها  وأفيق على إدبار الشباب وتراجع القوة والقدرة فلم يعد هناك الكثير للمكابدة والانجاز  حتى التفكير لم يعد كما كان  فكم كنت أقضي الساعات أخطط وأفكر وأبرمج وأكتب وأنفذ  واليوم لايوجد سوى شيء بسيط  فالحمدلله على كل حال ، ويتولد من هذه الحال أحيانا بعض الأفكار السوداء وقد تتطور الى نوع من الاكتئاب والعزوف عن الحياة  ولكن الله رحيم بعباده فيبعث لي من يذكرني بأجر الصبر والبلاء وحكمة الله تعالى في تقديره وتدبيره للأمور فيبدد الرضا والاطمئنان سحائب الهموم والأحزان عن القلب إلى حين .


وقد يصادف أن استمع الى بعض الأناشيد والقصائد التي تحث على تدارك العمر والتوبة ومنها القصيدة الزينبية بصوت الشيخ مشاري العفاسي  فأستمع لها وأجد صداها في خلجات قلبي ووجداني وتنهمل الدموع مدرارا  على مافات من العمر .


وكم رددت البيت من القصيدة المشهورة
أنا العبد المفرط ضاع عمري       فلم أرع الشبيبة والمشيبا
 فو أسفى على عمر تقضى        ولم أكسب به إلا الذنوبا


ولطالما انتابتني نوبات بكاء مرير وأنا أردد هاذين البيتين   فإن لم يتدراكني الله برحمته  ويعفو عني  فإني من الهالكين  حيث يمر بخاطري شريط العمر  فلا أرى إلا الذنوب والمعاصي والتقصير  والطاعات المدخولة والناقصة  فكيف النجاة غدا  إذا لم يعفو الكريم ويرحم الرحمن 


وفي لحظات الضعف والألم أبحث في فضاء الانترنت عمن يعاني مثل حالي من فقد الشباب وفراق الأحباب وتقلب الزمان  فأجد موضوعات كثيرة فأتأملها فستوقفني بعض الأبيات الشعرية وأتأملها بعمق وأشعر بنوع من المواساة والسلوى وأقول قد مر هذا بمثل ما أمر به  ومنها على سبيل المثال 

بكيت على الشباب بدمع عيني     فما أغنى البكاء ولا النحيب

============

يانفس دنياك تخفي كل مبكية      وإن بدا لك منها حسن مبتسم

أما الأعياد فدائما أتذكر قصيدة المتنبي 

عيد بأية حال عدت ياعيد                بما مضى أم بأمر فيك تجديد
لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي         شَيْئاً تُتَيّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ


وأشعر بأن هذه القصيدة تعبر عن مشاعري أصدق تعبير  خاصة في زمن الابتلاءات والمصائب التي تمر بديار المسلمين شرقا وغربا فلا ترى إلا كوارث وحروب وقتال وغدر 


وقد ينصحني البعض بالتفاؤل والأمل وأوافقهم نظريا على مايقولون ولكن سرعان مايجرفني ما جبلت عليه نفسي من طبائع لاأحبها ولا أجد مهربا منها إلا الى الله الذي ابتلاني بها  .


فبالرغم من علمي بمعلومات كثيرة في مجال الصبر والأمل إلا أنني أجد صعوبة في التلبس بها على أرض الواقع  وربما تعجبت من بعضهم ( أي أمل تتحدث عنه ؟) 


ومما خلصت إليه أن أصحاب المباديء والقيم والأحرار يعانون في مجتمعاتنا الحالية معاناة شديدة ومؤلمة كما شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كالقابض على الجمر )


وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وسلم ( الدنيا سجن المؤمن ) ولو تأملت حال السجين من القيود والشدائد لوجدت المؤمن يعانيها وإن لم يكن مسجونا على الحقيقة .


ومما تأملته أن الحياة في مجتمعاتنا أصبحت شديدة الوطأة فالرحمة تنعدم شيئا فشيئا في المجتمع والجشع والطمع يجرف الجميع  فالايجارات مرتفعة باستمرار ولا توجد مساكن وتكلفتها في ارتفاع مستمر ولم يعد بامكان الشباب الزواج لانعدام الفرصة يوما بعد يوم وفرص العمل قليلة وشحيحة وغيرها ... والمسؤولين كلهم من فساد الى أشد فسادا  فأصبحت حياة المجتمع ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب والشقاء  وسألت بعضهم هل الحياة أصبحت صعبة وقاسية أم أننا لكبر أعمارنا أصبحنا نشعر بقسوتها أكثر ، فأجابني إجابة شافية   قال : الإثنين معا .

وأشاهد بعض كبار السن  والحال التي يعيشونها في أواخر أعمارهم  فينخلع قلبي من بعضهم خاصة عندما أرى كيف يصبح الأب  أو الأم  شبه منبوذين من أبنائهم والكل يتهرب من خدمتهم أو الجلوس معهم وخاصة في المرض الذي يستلزم المرافقة المستمرة والجلوس برفقتهم  فيما يستجدون أبنائهم بصمت الرعاية والحنو عليهم  في أواخر أيامهم وما من مجيب !!


 وأتساءل بمرارة  أي مجتمع وحشي نعيش فيه ونزعم أننا في بلاد الحرمين ونمثل الاسلام الصحيح  ولو نطق الاسلام لتبرأ من أفعالنا ؟  وأجد في نفسي حيرة وقلقا وتساؤلات محيرة عن الحكمة من هذه المعاناة لكبار السن  ولا أجد جوابا ومخرجا  الا التسليم والرضى بقضاء الله وقدره لحكمة يعلمها سبحانه  عجزت عقولنا القاصرة عن إدراكها .


ولطالما دعوت ( اللهم لاتغلب ولا تتعب أحد معايا عند موتي )  من ألم ما رأيت من صورة استجداء كبير السن للرعاية والحنان ممن عطف عليهم ورباهم طوال عمره ثم يضنون عليه برعاية وحنان في آخر عمره ، ووطنت نفسي أن لا أضع في حسابي أن أطلب من أحد من أبنائي أو غيرهم أن يهتم بي أو يرعاني وسألت الله العافية والغنى عنهم  .


إن الضعف في نهاية العمر مرحلة إجبارية كتبها الله على الإنسان ليفيق رغم أنفه  فالغالب أن القوة تعمى الانسان عن التفكير في العواقب والآخرة  ولكن عندما يزلزله الضعف وذهاب القوة  تذهب السكرة وتأتي الفكرة  إن كان من أهل العقل والتفكير.


كما أنها من رحمة الله أن تجعل الإنسان يستعد مبكرا  ويتدارك مابقي إن كان من أولي الألباب قبل أن يحين الأجل وينقضي العمر .


ومما تأملته في الحياة أن بعض الناس يكون قد ألف نمطا من الحياة مليء بالعطاء في الخير والأعمال الطيبة التي ربما أفنى فيها شبابه  وعند تقدم العمر وتراجع القوة نراه يستمر على نفس النمط ولا يراعي سنة الله في الخلق  وربما سخر ممن وعظه ونصحه   بالكلمة المشهورة ( تحسبني عجوز زيك ) ( لسه شباب لا تكبرني ) والنتيجة التي قد تحدث إلا أن يشاء الله شيئا آخر  أن  يقع فجأة فريسة أزمة أو نوبة خلال انشغاله وعمله  لأنه يكابر ويعاند ويحمل جسمه على ما لاطاقة له به .

كما أن البعض قد يتخذها ذريعة للتكاسل والخمول  والفيصل في ذلك عند علام الغيوب وماتخفي الصدور فهو يعلم المفسد من المصلح وهو أعلم بمن اتقى .


والسعيد من اتعظ بما يريه الله من دلائل واشارات  فينقاد لها ويسلم أمره إلى الله عزوجل فهو بكل شيء عليم وبكل خلق عليم .

- يتبع -



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية