الجمعة، 13 فبراير 2015

الحركة الاسلامية في السودان 3/8

الفصل الثاني
الثنائيات الكبرى
"إن جوهر الحق واحد ، مهما
كانت الأثواب التي يلبسها"
د. حسن الترابي
نتناول في هذا الفصل تعامل الحركة الإسلامية في السودان مع ست من الثنائيات الضدية التي تمثل معضلات فكرية وعملية للحركات الإسلامية ، ويتوقف على حسن التعامل معها مسار كل حركة ومآلها . هذه الثنائيات هي : الشكل والمقصد ، الإسرار والإعلان ، الالتزام والمبادرة ، الوحدة والتباين ، العمق والامتداد ، الفصل والوصل .
وقد تعاملت الحركة الإسلامية في السودان مع هذه الثنائيات بمرونة كبيرة : فلم تتجمد على شكل واحد أو بعد واحد ، بل ظلت تتجدد في أشكالها وطرائق عملها ، وتتكيف مع واقعها المتغير على الدوام ، وترجح هذا المنحى أو ذاك ، حسب ظروف الزمان والمكان . ولم تجد الحركة في ذلك أي خطر على المبادئ أو الإخلال بها - كما اعتقدت حركات أخرى - بل اعتبرته خدمة للدين ، واستجابة للابتلاءات .

وعبر الترابي عن ذلك ، فقال : "إن جوهر الحق واحد ، مهما كانت الأثواب التي يلبسها" (1) ثم شرح فلسفته في هذا الشأن - وهي فرع عن مفهوم التوحيد - في قوله : "هناك في أصل الدين دائما جملة من المعاني ، مهمة الإنسان الموحد أن يوحدها ، وأن لا يستقطبه هذا المعنى عن الآخر . فهناك بين التحفظ والتوكل جدلية ، ولكل ظرف معادلة معينة .. بين تركيز الإيمان في النفوس وبين توسيع الدعوة ، بين الأفق والعمق . لكن المعادلة بين هذه المعاني لا تطرد في التاريخ بخط مستقيم .

الذي يحصل أن الحركة تنتشر في قطاع معين ، وتتفرغ فترة لتعميق مكاسبها فيه وتركيزها ، فيبدو وكأنها توقفت ، لكن يحصل انفتاح جديد بعد فترة أخرى ، ويتراجع التركيز على العمق والنوعية . يمكن أن تجد لهذه الفكرة شبها في تجربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ، إذ غلب الكيف على الكم في مكة ، فلما انتقل إلى المدينة ، حصل انفتاح كبير ، واتسع الكم ، ، لكن الكيف لم يحافظ على الدرجة نفسها، فعكف الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المجتمع ، ورباه وطهره ، لا لأن المجتمع غاية في حد ذاته - فذلك لون آخر من العصبية للذات وللطائفة - ولكن استعدادا لانفتاح أكبر، وهو ما حصل بعد فتح مكة . هذه المعادلة - إذن - تأخذ شكلا دوريا في الترجيح بين الكم والكيف، وفي تاريخ حركتنا كنا نجاهد باستمرار، لكي لا ننغلق على بعد واحد" (2) .

جدلية الشكل والمقصد

إن أولى إشكالات الفكر التنظيمي هي ثنائية الشكل والمقصد ، وما ينبني عليها من آثار عملية . فالأصل في التنظيم في الحركات الإسلامية أنه وسيلة لخدمة الدين ، وتوحيد الجهد . لكن الأشكال أحيانا تتحول في أذهان الناس إلى غايات ومقاصد ، خصوصا إذا أثبت الشكل نجاحا في خدمة المبدإ لفترة زمنية معتبرة . وقد أصيبت العديد من الحركات الإسلامية بهذا الداء : داء التشبث بالأشكال على حساب المضامين ، والحرص على المظاهر أكثر من الجواهر .

وليست جدلية الشكل والمقصد إشكالا عمليا فحسب ، بل هي إشكال فكري جوهري يمس العلاقة بين المبدإ والمنهج ، وبين الغايات والوسائل ، في العمل الإسلامي . وكل خلط في هذا السبيل يترتب عليه انحراف فكري خطير ، له نتائجه العملية السيئة .

إنه داء "التجسيد" L'incarnation الذي حذر منه مالك بن نبي منذ أمد بعيد : تجسيد المبادئ الخالدة في أشخاص غير مخلدين ، أو في أشكال محدودة الفائدة بحدود زمانها ومكانها . لكن هذا الداء طاغ - بكل أسف - على فكر الجماعات السلفية المعاصرة في رؤيتها لتاريخ السلف ، وهو حاضر في تاريخ وواقع بعض الحركات الإسلامية في رؤيتها لأشكالها ورجالها . وقد لاحظه النفيسي في دراسته لحركة الإخوان بمصر ، فقال : "ينبغي التفريق بين الدين كمعتقد وغاية ، والتنظيم كحشد ووسيلة .

ذلك أن الخلط الحاصل بين الاثنين في جماعة الإخوان ، صار أحيانا يؤدي إلى استعمال الدين كوسيلة ، بغية الحفاظ على التنظيم كغاية ، وهنا مكمن الخطر على الدين والتنظيم والمجتمع السياسي الذي يتجاذبان فيه .

الدين لا يمكن القبول بنقده ، لكن لأن الخلط حاصل بين الدين والتنظيم ، صار أيضا ليس مقبولا نقد التنظيم !! … لذا ينبغي تشجيع النقد الذاتي للتنظيم ، وفتح المجال أمام الجميع في ممارسة هذا الحق الطبيعي ، الذي باتت تعترف به كل النظم والجماعات والأحزاب في هذا العصر . ولا يبدو أن قيادة الإخوان مقتنعة بهذا التأصيل"(3).


إن العلاقة بين الشكل والمقصد علاقة تكاملية ، لكن لا بد من الانتباه دائما إلى أن الشكل وسيلة للمقصد ، لا العكس . وكثيرا ما يثور الحوار بين أهل المقاصد والمضامين ، وأهل الوسائل والأشكال : ما بين متجه إلى الغايات لا يرى سواها أهلا للتشبث به ، ومتمسك بالأشكال لا يرى للمقاصد انفكاكا عنها. يصور لنا الترابي أصل هذا الحوار وأبعاده ، فيقول : "التنظيم هيئة من الأشكال تعبر عن معان دينية هادية لحياة الجماعة .

 ولئن كانت المعاني لا تنفك عن المباني تلازماً ، فإن قضية جدلية كثيرا ما تقع بين أهل الشكل والتنظيم الذين عهدوا فيه وسيلة مثلى لبلوغ الهدف فوقروه ، وأهل الرسالة الذين لا يرونه إلا وسيلة لمقصد ، ولا يبالون بتجاوزه متى لاحت وسيلة أبلغ للقصد . هذا الجدال فرع عن الخلاف بين أهل الظاهر وأهل الباطن ، أهل العصبية لهيئة الجماعة المتشبثين بالوسائل ، وأهل القوامية بالحق المطلق والكفاية العليا" ثم يستخلص من ذلك أن "خير المذاهب في كل ذلك الجدال ما كان عدلا واتزانا ، يوحد طرفي القضية ، ولا يشقهما شقا ، ليهدر أحدهما ويؤثر الآخر" (4) .

 ورغم هذه النغمة التصالحية التي ختم بها الترابي عرضه لمسألة الشكل والمقصد هنا ، فإن فلسفة الحركة السودانية انبنت دائما على خدمة المقصد ، والتضحية بالأشكال متى دعت الحاجة إلى ذلك . وتلك خاصية من خصائص الحركة ، وسبب من أسباب قوتها وحيويتها . وقد بين الترابي ذلك بعد سطور ، فقال : "إن الحركة الإسلامية في السودان كانت برساليتها ترى الجماعة أكبر من أي شكل تتخذه في بعض الأحايين . ولذلك هان عليها أن تكبت اسم "الإخوان المسلمين" كثيرا ، وأن تبدل نظمها الأولى طورا بعد طور . بل كان أعضاء الجماعة يرون جوهر الدعوة وقضية الإسلام أكبر من الوسائط التنظيمية ووراء دائرتها ، بل أولى من الهيئة الكلية لجماعتهم . ولذلك هان عليهم أن يصرفوا وظائف من العمل الإسلامي إلى محاور مستقلة عن أطر تنظيمهم العام ، حتى دفعوا بجماعتهم كلها أن تنخرط في هيئة أكبر وأقرب لتمكين الدين ، وذلك عن مبادرة جماعية . ونعني بذلك انخراط "الإخوان المسلمين" في "الجبهة الإسلامية القومية"" (5) .

وكانت قيادة الحركة السودانية واعية بفتنة الجمود على الأشكال ، أو "عبادة الصورة" كما سماها الدكتور حسان حتحوت ، وهو أمر يشرحه الترابي بقوله : "لقد كانت الحركة تبدل أشكالها تبديلا واسعا ، ولم يأسرها الشكل الديني التقليدي أبدا . وهذه واحدة من الفتن ، أن المتدينين يعبرون عن دينهم من خلال أشكال وصور وأنماط وقوالب للحياة منتسبة إلى الدين ، مما يضفي عليها شيئا من القداسة . ويمكن أن يتوهم الإنسان أنها بهذه النسبة تأخذ شيئا من أزلية الدين ، لكونه مطلقا في الزمان والمكان ، فيصبح أسيرا لذات الوسائل التي يستعملها ليصل بها إلى الله ، وتقطعه هي عن التقدم دائما زلفى إلى الله في كل طارئ جديد . فكنا نحاول أن لا نتورط في هذه الفتنة" (6) .


وقد اتضح منهج الحركة بهذا الشأن حين أعلنت - شكليا - حل نفسها عام 1980 وانضمام أعضائها إلى "الاتحاد الاشتراكي السوداني" ثمنا لصلحها مع النميري ، حيث "خلال مرحلة المصالحة الوطنية لم تقتض المرحلة تركيزا على الأسماء والعناوين" -كما أوضح الترابي - (7) بل على المكاسب والمضامين . لكن الإعلان عن حل الحركة أثار حفيظة الإسلاميين التقليديين : محليا (الصادق عبد الله عبد الماجد) وخارجيا (محمد قطب) الذين لم يستوعبوا المعادلة ، فسارعوا إلى مهاجمة قادة الحركة (8) .

 وقد كان رد الترابي على تلك الهجومات مفحما ، ومنسجما مع رؤية حركته لجدلية الشكل والمقصد ، حين قال : "إن بعض الناس يربطون بين الإسلام وبين الصور التي تعبر عنه ، ولذلك إذا تغيرت الصور اعتقدوا أن الإسلام قد تغير . فبعض الإخوان قد توهم أن الانتقال من الكم المحدود إلى كم أوسع ، ومن الأشكال المعهودة إلى أشكال جديدة ، يؤثر في جوهر الرسالة"(9) .

وكأننا نجد في هذا التصور لعلاقة الشكل والمقصد صدى لما كان محمد إقبال عبر عنه من قبل بصورة مجازية ، حين أمر بالتحرر من زخرفة الغمد ، والتشبث بمضرِب السيف :
عصاك تُصدِّع صُمَّ الجــبالْ *** وتعرف سيناء صدق الكـلامْ
فدعْ ترَفَ الغمد ، ما للهلالْ *** على فخره غيرُ شكل الحسـامْ (10)


والذي جعل الحركة الإسلامية في السودان أكثر الحركات الإسلامية تحررا من أسر الأشكال ، هو إدراك قادتها أن الحياة المتغيرة تستلزم استجابات متغيرة ، وأن التشبث بالأشكال بعد تخلفها عن حاجة المبدإ ، وعدم انسجامها مع ظروف العمل ، يفتح باب الجمود ، ويقضي على نمو الحركة وتطورها ، ذلك أن "الحياة لا تنفد صور ابتلاءاتها وظروفها . فإذا انضبطت الجماعة في نظامها مطلقا ، أوشكت أن تجمد وتقعد به عن الاستجابة لمقتضيات الصروف المتجددة .

 ومن ثم لا بد من قدر من المرونة والحرية توازن النظام ، وتتيح هامشا من المبادرات والطلاقة ، لتتبلور مقترحات جديدة في شكل التنظيم ، تكون مادة قد تُعتَمد رسميا فيما بعد ، فتثري نظام الجماعة . وهكذا تتكامل الحرية والنظام" (11) .

معادلة الإسرار والإعلان

من الإشكالات الرئيسية التي تشكل تحديا للحركات الإسلامية قضية الإسرار والإعلان في العمل وحدود كل منهما . والقاعدة الشائعة في هذا الشأن هي تلك القائلة بـ"علنية الدعوة وسرية الحركة"(12) . فالدعوة - من هذا المنظور - لا بد أن تكون علنية : بلاغا مبينا يحرك كوامن الفطرة الإسلامية في قلوب الأمة ، ويبين للناس الطريق إلى الله بالحسنى ، ويقيم الحجة على العدو المناوئ. والحركة لا بد أن تكون سرية : تأمينا لمستقبل الدعوة ، وتركيزا لجهد العاملين ، وتفاديا لكيد الظالمين .

وليس من السهل أبدا النجاح في هذه المعادلة : معادلة "السر الضروري والعلن الواجب" (13) إذ يميل بعض العاملين إلى التخفي المفرط حرصا على النوعية ، وتأمينا لرأس المال المتحصل ؛ ويميل آخرون إلى العلنية بغير حساب ، حرصا على التوسع والاكتساب . وكثيرا ما ينتهي المنحى الأول بالجمود ، والثاني بالتسيب .

وقد ورثت الحركة الإسلامية السودانية في الخمسينات مناخ المحنة المريرة التي عانى منها الإخوان المسلمون في مصر في الخمسينات والستينات ، فأنتج لدى قادتها الأوائل وقطاعٍ عريض من أبنائها نزعة أمنية زائدة تكاد تشل العمل "وهي نزعة لم يكن يوجد ما يبررها في السودان ، لأن السودان كان يتمتع بحرية نسبية حينئذ ، ولم يكن للسرية من مغزى سوى نقل التجربة [المصرية] دون تصرف ، لأننا لم نكن نحسن التعامل مع الواقع والزمن في تلك المرحلة" حسب تعبير الترابي (14) الذي يزيد الأمر وضوحا ويبين مساوئه ، فيقول : "حصلت نكسة حقيقية [في العمل الإسلامي] إبان الحكم العسكري الأول (حكم عبود) .

فقد كانت الحركة متخوفة جدا من تكرار ما حدث في مصر ، وأفزعتها صورة عبود ، رغم أنه لم يكن يستهدفها - فقد كانت ما تزال حينئذ صغيرة في تدينها وحجمها - وصدرت قرارات متسرعة بإيقاف نشاط بعض الأسر والشعب ، واتخاذ احتياطات مبالغ فيها ، أدت إلى تعطيل نمو الحركة وتقدمها من 1958 إلى أواخر 1961 تقريبا" (15).

لكن الترابي وبعض زملائه في التنظيم أدركوا في وقت مبكر خطر هذا التقليد واستيراد الأزمات "ودعوا إلى إصلاحات تنظيمية تهدف إلى تحرير الحركة من هاجس السرية الزائدة ، ومن الطرائق المستجلَبة من مصر ، التي تؤكد على الاتصال الفردي بالناس ، وتكوين الأعضاء تكوينا صارما . وقد أثارت تلك المقترحات نزاعا داخليا ، وتم إرغام المتقدمين بها على سحبها .

وكانت تلك المقترحات تهدف إلى جعل الحركة أكثر انفتاحا ، كما تهدف إلى تجاوز الشروط المفروضة على الأعضاء ، ومنها خضوعهم لتربية طويلة الأجل ، قبل منحهم حقوق العضوية الكاملة ، بما فيها حق تقلد المناصب القيادية" (16) .
ورغم رفض تلك الأفكار في تلك المرحلة - بداية الستينات - فقد تبنتها الحركة فيما بعد وغدت جزءا من استراتيجيتها العامة طيلة العقود الثلاثة التالية ، إلى أن تحولت الحركة إلى دولة عام 1989.

تبنت الاستراتيجية الجديدة الفصل بين مجالات السر والعلن بشكل حدي صارم ، يحصر الإسرار في نواة قيادية صلبة ، وفي أجهزة محدودة مكلفة بمهام مخصوصة ، ثم يَترُك الهيكل الحركي العام واسعا فضفاضا ، قادرا على استيعاب أكبر عدد من الناس ، بمن فيهم الذين يوالون ولاء ناقصا ، أو تجمعهم مع الحركة أهداف ظرفية جزئية .

وقد أفاد هذا النهج الحركة إفادات عظمى ، منها :
? تسهيل مهمة الاكتساب من خلال انفتاح الحركة على المجتمع ، وإدراك المجتمع لمضمون رسالتها وأهدافها ، وهو ما لن تتمكن منه أي حركة تحبس نفسها في أجواء التوجس والانغلاق .
? كسر حاجز العداء بين الحركة والآخرين . حيث يعتقد قادة الحركة - عن حق - أن "سبب عداء أعدائها ناتج عن ضئالة ما يعرفونه عنها ، لا ضخامته" (17) .
? تمكين الحركة من الإسهام الجدي في المعركة السياسية ، وهو ما لم يكن ممكنا بدون كم بشري كبير ، ولا كمَّ بغير انفتاح وتفاعل مع المجتمع ، والرضا من كلٍّ بما يجود به .
? تأمين أسرار الحركة من خلال المظاهر المعلنة الطاغية ، التي تستنزف طاقة العدو ، وتلفت نظره عن الأسرار الحقيقية .
وهكذا "أدركت [الحركة] أن رسالتها في الالتحام بالشعب ، وأمنها الحقيقي في اتساع قاعدتها لا في تخفيها" (18) . وأثبتت أن انفتاحها الذي اشتهرت به حتى عدها الأفندي "من أكثر الحركات الإسلامية انفتاحا في العالم" (19) لا يضر أمنها ، بل يخدمه في النهاية .
لقد أثبتت تجربة الحركة الإسلامية في السودان أن القاعدة التقليدية المتداولة بين الإسلاميين حول "علنية الدعوة وسرية الحركة" ليست على إطلاقها :
? فعلنية الدعوة غير ممكنة بشكل كلي ، إذ الحركة تحتاج أحيانا إلى اتصالات خاصة ببعض المستهدفين بخطابها ، ممن لا تسمح مواقعهم بمخاطبتهم علنا ، كما أن برامجها لا بد أن تتضمن ما لا يحسُن تقديمه على المكشوف . وسنرى - فيما بعد -كيف تغلبت الحركة السودانية على ذلك من خلال الفصل بين التربية والتكوين .
? وسرية الحركة غير متاحة يإطلاق ، خصوصا وهي تحتاج إلى إبراز قادة يكونون رموزها ووجوهها لدى المجتمع ، ودعاة يكونون لسانها وخطابها ، ومناضلين يعبرون عن رؤيتها للحرية والعدل الاجتماعي . ومن العسير التستر على الروابط التنظيمية التي تربط هؤلاء ، نظرا لما يستلزمه عملهم من الاشتهار والتعرض ، ودوام التنسيق والالتقاء . والأعسر من ذلك التستر على أشخاصهم ، نظرا لسهولة التعرف عليهم "بلحن القول أو بسمت المظهر"(20) .
ولو فُصِلت أسرار الحركة عن هؤلاء لأمكنهم الحديث بلسان طليق ، والصدع بما يحملونه من مبادئ وأفكار ، والتحرك بخططهم السياسية والاجتماعية دون أي خطر على الأسرار الحيوية للحركة جراء ذلك .


وهكذا يتضح أن الحركات الإسلامية ليست سرية بمعنى الكلمة ، وليس من الضرورة ولا من المصلحة أن تكون كذلك . كل ما في الأمر أن لديها أسرارا يجب عليها تأمينها . وقد تكون تلك الأسرار في شكل أشخاص أو برامج أو خطط أو هيئات مخصوصة . إن المطلوب من الحركة هو أن تؤمِّن أسرارا محدودة ، وأن تكتسب المجتمع كله أو جله . فكلما تم حصر تلك الأسرار وفصلها عن مجالات العمل العلنية ، كان ذلك أشد تأمينا له . وكلما انفتحت الحركة على المجتمع وتضاعف كمها ، كلما أمكن التستر على تلك الأسرار ، كالدرة الثمينة في بحر محيط . وتلك هي خلاصة التجربة السودانية في هذا المضمار ، كما وصفها الدكتور الترابي بقوله : "ثبت بعد التجربة أن كثافة المقبلين المتعاونين على وظيفة ما ، وكونَها معزولة عن بقية مقاصد الحركة - لا سيما السياسية - أمران يكفلان التأمين لتلك الوظيفة في الظروف السياسية التي يُكاد فيها للحركة ، والتأمينَ للعاملين من أعضائها الذين يندسون في كنف كثيف من المتعاونين غير الملتزمين [=المنتظمين] " (21) .

 وهنا تظهر قيمة الوظيفة التأمينية للواجهات الخيرية والاجتماعية والثقافية التي أسستها الحركة ، وفتحتها على مصراعيها أمام الجميع "فكانت الواجهات تؤدي للجماعة وظيفة أمنية أخرى : إذ كان يندس فيها الملتزمون فلا يُعرفون ، ويتَّقون بها مغبة الضربات السياسية ، التي تتهيب استهداف جبهة واسعة مهما اشتبهت فيها" (22) .


مخاطر الازدواجية والتسيب

على أن فصل أسرار الحركة عن عملها العلني لا يعني ازدواجية في القيادة ، تطلق العنان للأجهزة الخاصة ، لتسرح وتمرح ، وتناور وتغامر ، بعيدا عن ضوابط الاستراتيجية العامة للعمل، ورقابة القيادة التنفيذية والشورية ، فتجر عموم الحركة إلى كوارث .
ولا يزال الجدل دائرا حول دور المرحوم عبد الرحمن السندي والشهيد مروان حديد في جر الحركتين الإسلاميتين المصرية والسورية إلى بعض المزالق السيئة ، وبعض المواجهات التي لم تنضج لها الظروف (23) .

وقد قدم الدكتور النفيسي تقييما لأداء "الجهاز الخاص" في حركة الإخوان المصرية ، تتبين من خلاله مخاطر التسيب ، وتولية غير الأكفاء ، والازدواجية القيادية في علاقات هذه الأجهزة الحيوية بالقيادة الشرعية للجماعة . لقد أسس البنا "الجهاز الخاص" عام 1940 لاعتبارات موضوعية لا يمكن أن تتجاهلها حركة مجاهدة ، لكن - وكما يقول النفيسي - "كان ينبغي على البنا رحمه الله أن يدرك خطورة هذه الخطوة وجديتها ، بالنسبة لمستقبل الجماعة ككل ، ولأمنها عموما… فليس من المناسب أن يكون على رأس هذا الجهاز طالب في الجامعة ، في السنة الأولى، لا يتعدى سنه 21 سنة … لقد تسلم عبد الرحمن السندي الطالب في كلية الآداب - وفي السنة الأولى منها - قيادة هذا الجهاز ، بعد أن بايع البنا على السمع والطاعة ، دون أن يدرك الأول [السندي] ضخامة المهام المنوطة به ، ولا تشابكاتها السياسية والعسكرية والأمنية ، ودون أن يدرك الثاني [البنا] أن هذا (النظام الخاص) سوف يورط الجماعة في شبكة من المآزق السياسية ، وسوف يعرِّض الجماعة للحل والمطاردة والتشريد ، جراء الأعمال اللامسؤولة التي انغمس بها : مثل قتل القاضي أحمد الخازندار ، ورئيس الوزراء النقراشي ، وحادث المحكمة ، وحادث حامد جودة رئيس مجلس النواب ، وإلقاء القنابل على النادي البريطاني . فكل هذه العمليات لم تُحَط بقدر كاف من التخطيط السليم" (24) "ولم تقف قيادة (النظام الخاص) وبعض أعضائه عند هذا الحد ، بل كانت وراء كثير من المشاكل التي كشفت ظهر الجماعة لأعدائها من كل حدب وصوب" (25) .

وظل أعضاء "الجهاز الخاص" لأمد بعيد سادرين "في تصرفاتهم ومناشطهم العنيفة، والتي عرضت كيان الجماعة للحل ، ومؤسسها للاغتيال" (26) .

لقد كان من جوانب القصور الأساسية في قيادة الإمام الشهيد حسن البنا "ضعف إشرافه على (النظام الخاص)"(27) . ثم أصبح النظام الخاص باستقلاليته ، وعمله الخارج عن خط الجماعة - رغم تحملها نتائجه المريرة - معضلة كبرى أمام الأستاذ الهضيبي حينما تولى مهمة المرشد العام بعد الإمام الشهيد حسن البنا . يقول الدكتور النفيسي : "أما أهم المشاكل التي واجهت الهضيبي ، فهي (النظام الخاص) - أي الجناح العسكري للجماعة - والذي بات يسبب ازدواجية في القيادة.

فقد كان ينافس البنا في قيادته للإخوان ، وقد شعر البنا بذلك ، وكان بصدد معالجة هذا الوضع المعوج ، غير أن المنية عاجلته . أما الهضيبي فقد كان النظام الخاص لا يتعامل معه بندية فقط ، بل بشيء من الفوقية والاستقلال التام عنه ، ولذا كان من المطلوب والعاجل وضع حد لذلك كله … لقد ولَّد هذا الوضع - والذي تميز بضعف الإشراف عليه ومتابعة تطوراته - تنظيما آخر له رؤيته الخاصة ، ومشروعه الخاص في الحركة والفعل ، وعلاقاته المستترة التي تجهلها الهيئات العليا للجماعة (مكتب الإرشاد والهيئة التاسيسية). من هنا بات النظام الخاص يتحرك وفق قناعات وتوجهات رئيسه السندي ، وليس وفق قناعات وتوجهات مكتب الإرشاد أو الهيئة التأسيسية للجماعة" (28) .

وكانت آخر المآسي التي ارتبطت باسم "النظام الخاص" للإخوان هي اغتيال المهندس سيد فايز : "فلقد كلف المهندس سيد فايز - وهو أحد قادة (النظام الخاص) غير المتفقين مع السندي - الاتصال بمن يعرفهم من أعضاء (النظام) ليبين لهم خروج السندي ومن معه عن طاعة المرشد (الهضيبي) ويدعوهم إلى الارتباط به ، فكانت المأساة : حمل أحد الأشخاص ظهر الخميس 21/11/1953 إلى منزل المهندس سيد فايز علبة حلوى بداخلها شحنة ناسفة من مادة الجلجنايت ، انفجرت في وجهه ، فأطاحت به وبحائط الغرفة جميعه ، الذى هوى في الشارع"(29).

ويكشف هذا الحادث عن أحد احتمالين :
? إما أن قيادة "النظام الخاص" هي التي قتلت المهندس سيد فايز ، حفاظا على سيطرتها على الجهاز ، وبالتالي فقد تحولت إلى عصابة إجرامية ، مثل قيادة أي "مافيا" في العالم .
? وإما أن هذه القيادة مخترَقة حتى النخاع من طرف أعداء الحركة ، الحريصين على هدم الثقة بين مكوناتها ، وربط اسمها بالقتل والاغتيالات .
ويترجح هذا الاحتمال عندنا ، نظرا لهلهلة "النظام الخاص" آنذاك ، وضعف بنائه الأمني ، كما تدل عليه حوادث عديدة ومعطيات كثيرة من تاريخه ، ليس هذا مكان عرضها . كما أنه هو الذي ينسجم مع حسن الظن بأبناء الحركة الإسلامية العاملين في ذلك الجهاز آنذاك ، في ظل انعدام بينات تدينهم .

وفي كلتا الحالتين ، يتبين أن هذا "النظام الخاص" قد فقد رسالته وقيمته الأخلاقية والعملية ، بالنسبة للحركة الإسلامية في مصر . لذلك فإن قيادة الجماعة أحسنت صنعا في التخلص منه فيما بعد ، وهكذا ينبغي أن تفعل أي حركة إذا تبين لها أنها غير قادرة على أن تتحكم في مثل هذه الأجهزة الخطيرة ، وأن ترعاها حق رعايتها . وقد جنب ذلك الحركة المصرية كثيرا من المزالق الأمنية ، هي في غنى عنها ، وإن كان أورثها ضعفا مزمنا لا يعرف مداه إلا الله .

لكن الأثر السلبي لطغيان "النظام الخاص" لم يقتصر على الجانب الأمني ، بل تجاوزه إلى البناء القيادي والشرعية القيادية في الحركة ، كما سنبينه في الفصل الرابع بإذن الله .

تقدير منضبط
ومهما يكن ، فإن المطلوب من الحركات الإسلامية هو تقدير منضبط لمجالات السر والعلن وفصلهما وظيفيا وبشريا ، مع إبقاء قنوات الاتصال الخاصة مفتوحة بين المجالين ، بما يضمن تناسقا وانسجاما في التوجه ، وتأمينا واحتياطا في العمل ، ووحدة في القيادة والقرار . وقد اختلطت مجالات السر والعلن في حركات إسلامية كثيرة ، فلم يبق السر سرا ، ولا العلن علنا . كان الإمام الشهيد حسن البنا يكتب في الصحف يشيد ببعض العسكريين من قادة "النظام الخاص" - مثل صلاح شادي - وكان بعض أولئك القادة - مثل شادي نفسه - يقوم بوظيفة الحسْبة ، بشكل مكشوف ، وكأنه يعيش في دولة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب ، لا دولة الملك فاروق (30) . وقد حدث ذلك في الوقت الذي كان فيه الإخوان يدرسون فقه الدعوة وعلوم الشرع في الخلايا السرية !!!

إن التقدير المنضبط لحدود السر والعلن هو الذي يمكن الحركة من رفع الحجب ، وكسر حاجز الريبة والخوف بينها وبين مجتمعها . وهذا ما فعلته الحركة الإسلامية في السودان ، فأعلنت عن نفسها وانفتحت على مجتمعها بعد استيفاء الشروط ."وما كان لهذا العلن أن يتم ليصل الحركة بالرأي العام لسواد المجتمع ، لولا أن قد تطورت وظيفة التأمين في نظام الجماعة ، لتسوِّي توازن الإعلان والأمن ، وتُميِّز بتقدير منهجي معتدل لما يلزم ستره من شؤون الجماعة ، ليتيح إخراج سائرها بغير تحرج أو محاذرة مفرطة متوهمة .

هكذا كفى الأداء الأمني المتطور للجماعة همَّ وقاية ضروراتها الحيوية من أي كيد متربص ، ثم أمدها بالمعلومات التحليلية لما حولها من واقع ، لترتب حركتها عن بينة ، وتحفظ مقومات وجودها وجهادها في كل حال وخطب ، أو فرج أو أزمة"(31).

ولم يكن هذا الأداء الأمني المتطور - الذي هو درع المعادلة وشرط نجاحها - ليتم بغير فقه أمني ناضج ، وخبرة فنية منهجية في قضايا التأمين والتمكين . وقد أعدت الحركة الإسلامية في السودان لذلك عدته من البحث والتأصيل : تسديدا للمسيرة ، والتزاما بحدود الشرع ، ورفعا للبس والإشكال "فما اتجهت الجماعة لتكثيف التأمين من أجل إطلاق العمل الإسلامي ، حتى ثار التساؤل عن جواز اتخاذ وسائل المراقبة والتحسس ، والاستعلام والتجسس على الآخرين ، والنيل منهم من حيث لا يعلمون و[لا]يأذنون .

وهذا سؤال مشروع جوابه معروف حين تتساوى سائر التقديرات المعتادة ، ولا تنشأ ضرورات تتناسخ بها الأحكام . ولئن تواردت وترددت الفتاوى الفرعية لأول الأمر ، فقد تكامل الفقه الأمني من بعد ، وصدرت فيه ورقة منشورة ، أصلت أصوله ، وفصلت فروعه" (32) .

ورغم هذا النجاح ، فقد ظلت حدود الإسرار والإعلان إشكالا ، يثير الحوار والجدل في صف الحركة باستمرار ، ما بين الداعين إلى وضوح خيارات التغيير أمام أبناء الحركة ، لضمان وقوفهم من ورائها ، والداعين إلى حصر الأمر في أهله ، باعتباره أمرا فنيا إلى حد ما ، وخوفا من الانكشاف الخطِر .

 ويبدو أن الأستاذ مكي يميل إلى الرأي الأول ، كما يتبين من قوله : "إن وضوح منهج التغيير [لأعضاء الحركة] لا يستدعي أن يشكل بالضرورة خطرا على استراتيجية الحركة ، بل إن أمن الحركة الفكري والنفسي والعملي يتطلب أن يتبلور هذا المنهج كثقافة وروح وسط عناصر الحركة . إن وضوح الاستراتيجية سيسهل على حركة ذات طبيعة صفوية التكتل بروح الفريق" (33) . وهو إشكال ليس من اليسير حله بحسم ، في الظروف التي تتحرك فيها الحركات الإسلامية على أية حال .
وسيظل من واجب كل حركة أن تجتهد في التوازن ، وتسترشد بتجربة أخواتها وبخبرات عصرها .

مزالق وإخفاقات

كما وقعت الحركة السودانية في مزالق أمنية ، أحرجتها وأربكت مسارها أحيانا ، نذكر منها الأمثلة التالية التي أوردها الأستاذ مكي :
? كان التنسيق مع الأحزاب التقليدية على أشده منتصف العام 1974 ، ضمن "الجبهة الوطنية" المناوئة للنميري ، وبدت الحركة متفائلة ، فصاغت استراتيجية خاصة تطمح من خلالها إلى احتواء القوى المتدينة في الأحزاب التقليدية ضمن "حركة إسلامية قومية" "ولكن تسربت الأوراق المتعلقة بهذه الاستراتيجية إلى أجهزة الأمن ، التي لم تتعب كثيرا في التعرف على أسلوب د. الترابي، مما أدى إلى اعتقاله ، مما أحدث انحسارا في حركة الانطلاق التنظيمي" (34) .

? بعد ذلك بفترة وجيزة "دخل التنظيم في تجربة انقلاب المقدم حسن حسين [الفاشلة] ، مما أدى إلى حركة اعتقالات كبيرة وسط الإخوان ، ومحاصرة شاملة للتنظيم بعد أن ثبت وجود عامل إخواني في الانقلاب … نجحت السلطات الأمنية في تسديد ضربات محكمة للتنظيم في ما بعد الانقلاب ، وألقت القبض على المئات ، وكان من بينهم معظم مسؤولي المكتب الجديد وأمينه المناوب ، وعدد كبير من رؤساء الشعب والنقابيين وقيادات العمل الطلابي . كما وقع في قبضة جهاز الأمن مكتب الثانويات بكامل عضويته ، مما أدى إلى تقلص الوجود التنظيمي في معظم المدارس . كما تم احتجاز وفصل كل قيادات الاتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم ، مما أدى إلى تناقص العضوية بنسبة وصلت إلى 40% نتيجة للاعتقال والفصل وخروج أعداد كبيرة إلى خارج السودان" (35) .

? أعدت قيادة الحركة مذكرة بعنوان :"العلاقات السياسية النظامية للحركة الإسلامية" حاولت أن تصوغ من خلالها منهجا يهدي عمل الحركة في مجال العلاقات العامة "وقد تسربت هذه المذكرة للسلطة ، وأدى تسربها إلى أزمة تنظيمية ، انتهت بالإطاحة بأحد مسؤولي الشُّعب نتيجة لإهماله وتقصيره .. [كما] أدى تسرب المذكرة إلى إعادة اعتقال د. الترابي في يونيو 1975" (36) .

? "تسربت في مطلع عام 1982 عدد من الأوراق التنظيمية لأجهزة الأمن ، وقد حوت الأوراق معلومات عن العمل الطلابي والمعلومات ، مما استوجب تغييرات [في الاستراتيجية؟] وتغييرا في المواقع" (37) .

? اجتمعت قيادة الحركة ليلة 9/3/1985 لمناقشة معلومات ، مفادها أن النميري يوشك أن يغدر بالحركة الإسلامية بعد أعوام من التحالف الصعب ، لكنها أخطأت في تحليل تلك المعلومات ، حيث "رجحت عنصر المبالغة والدس ، وآثرت أن ترجئ النظر في الأمر ، إلى أن داهمها زوار الليل بعد ساعات من انفضاض الجلسة" (38) .

 وقد كشف ذلك عن "سوء تقدير الحركة لحقيقة تدهور مجمل أوضاع النظام : " تصدع أمني ، وانهيار سياسي واقتصادي" ، وأن النظام قد فقد أسباب البقاء ومقوماته" (39) .

ومع هذه المزالق الأمنية الجزئية ، فإن الحركة الإسلامية في السودان ظلت أنجح التجارب الإسلامية في هذا المضمار ، حيث حافظت على أسرارها الجوهرية ، ومسارها إلى التمكين ، بعيدا عن أعين الأعداء ، حتى استلمت السلطة ، وهو ما لم تنجح فيه أي حركة إسلامية أخرى حتى الآن .
لقد أخذ أعداء الحركة الإسلامية في السودان عليها أنها "جماعة سياسية غامضة تقول غير ما تفكر، وتفعل غير ما تقول ، سمتها الأساسية أنها متغيرة الأشكال والألوان" (40) . وتلك - على أية حال - أبلغ شهادة للحركة في نجاحها في المعادلة الصعبة : معادلة الإسرار والإعلان .

توازن الالتزام والمبادرة

تأثرت بعض الحركات الإسلامية الحديثة بميراث المسلمين وواقعهم ، حيث يطالب الحكام الرعية بالطاعة ، دون أن يقدموا مقابلها من الحرية . فظلت هذه الحركات تلح في أدبياتها على معاني الطاعة والالتزام والانضباط الحركي ، ولم توازن ذلك بفتح مسالك للمبادرات الفرعية والفردية، والسماح بقدر من المرونة في التربية والتوجهات والإجراءات .

وربما يستغرب المرء ذلك من حركات تأسست على الاختيار الطوعي ، حيث المنتظَر أن تكون أكثر تركيزا على المبادرة والإبداع منها على الالتزام والانضباط ، لأن سبيلها إلى الطاعة هو الإقناع لا الإكراه .

لكن الحركة الإسلامية في السودان تبنت رؤية مختلفة تراعي للفرد مكانته وحرمته داخل الهيكل الحركي ، وتحمله مسؤولياته دون لبس ، وأدركت - كما يقول الترابي - أن "الدين كله ثقة بالإنسان ، لإتاحة الحرية له حتى يتحرر من أسر الطبيعة والمجتمع ، وأسر الحكام ، ليخلص التعبد لله سبحانه وتعالى . وهذا هو جوهر التدين" (41) .

وقد حذر الترابي من الاتجاه السائد لدى الحركات الإسلامية ، من طغيان الطاعة على الحرية ، والالتزام على المبادرة ، ولخص مساوئه في أمرين :
? أنه "تطغى فيه الجماعة على حرمات الإنسان من حيث هو فرد" (42) . ومن الواضح أن الذين فاءوا إلى ظلال الصحوة - بعد أن اكتووا بنار استبداد الحكام وفسادهم - في غنىً عن أي طغيان فكري أو تنظيمي .
? وأن الفرد "يشح عليها بالتجاوب الصادق" (43) وتلك نتيجة منطقية لكل استبداد : إما أن يقاومه الناس مقاومة فعلية إيجابية ، وإما أن يقاوموه مقاومة سلبية ، فلا يتجاوبون مع أهدافه ومساعيه .
وهذه السلبية نتاج طبيعي لطغيان الجماعة على الفرد "فإذا انخسف الفرد في غمار الجماعة : لا يستبين في مقاصد حياتها ما يعنيه بوجه الخصوص ، ولا يجد في نظامها مجالا لحريته ، فإنما أثر ذلك أن تتضاءل مبادراته ويقل شَرْكه في الشأن العام ، ثم يغفل عن مسؤوليته الأخلاقية ، ويتسنى له أن يتقيها بإلقاء التبعة على ما يكتنفه من كيانات جماعية مبهمة" (44) . ذلك أن مفهوم الطاعة نتاج لمزيج مركب من الرضى القلبي (الوجدان) والضبط التنظيمي (السلطان) فلا بد من مراعاة التوازن بينهما ، حتى لا تتميع المسؤولية بدعوى الحرية ، ولا يحل الاستبداد في عمل الحركة الذي هو في أصله عمل طوعي . "فقدر من الحرية للأعضاء أن لا يصبوا في نمطية ضابطة ، وللأجهزة أن لا تُشَدَّ بتبعية آلية ، ضمان لتدين أوسع وأوقع أثرا ، ولوحدة قوامها الوجدان والسلطان معا" (45) .

هذا التوازن بين الحرية والنظام ، بين الوجدان والسلطان ، هو ما يجده الترابي في هذين الأصلين : ? "ليست الجماعة المؤمنة إصرا على الفرد ولا غريما يشاده ويسلب حريته ، لأنها ثمرة من ثمرات اختياره ورضاه . ولا يكون نظامها إلا طوعيا ، يحفظ للفرد قدره ، ويرعى حرماته ، متميزا عن نظام الجماعات التي ينضم فيها الفرد قسرا ، وربما غُلِب من ثَمَّ على سائر أمره في الحياة ...
? ولا يعني بناؤها عل المشيئة الحرة أن يستبد فيها الفرد بهواه ما شاء ، فإن حرية الإنسان لا تُقدَّر في الدين لذاتها ، بل لأنها شرط أهلية لاحتمال قدَره في الابتلاء ، وإدراك غايته في الاهتداء إلى ربه ، وليس توخِّي الكمال في أن يتسع الفرد في ممارسة حريته عدوانا على حريات الآخرين ، أو تجاوزا لحدود طريقه إلى الله " (46) .

ثم ينتهي إلى تقرير الغاية المتوخَّاة من هذا التوازن بقوله : "إنما يتوخى المؤمنون الكمال في تعاونهم على عبادة الله ، وتناصرهم لإعلاء كلمة الله . فبينهم عهد ولاء متين ، يقوم قاعدة لسلطان الجماعة، ويتمثل في نفس كل فرد ، تقبلا لتكاليف الحياة العامة ، وطواعية لأولياء الأمور" (47).

إنها معادلة منضبطة يتاح للأعضاء من خلالها أن "يوازنوا بين النصيحة والاتباع ، والواجب العيني والاجتماع" (48) .

وقد حاولت الحركة الإسلامية في السودان التغلب على إشكاليات هذه الازدواجية من خلال الأمور التالية :

* تشجيع المبادرة في خطابها الداخلي ، حتى يدرك الأعضاء أن مجرد الالتزام بالنظم واللوائح - على أهميته - ليس معيار التفاضل . بل المعيار هو المبادرة والاجتهاد لدفع مسيرة الحركة قدُمًا "فالعضو الأمثل في الحركة لم يعد هو الأشبه بنمط مقرر موضوع ، بل هو الأكثر عطاء لدفع الحركة بالاجتهاد والجهاد" (49) .

*"بسط الحرية في تربية الجماعة الثقافية : فلا التعليم فيها تلقين يصب العضو في قالب نمطي واحد ، ولا الفكر فيها إلزام بمذهب معين ، أو مصدر مخصوص ، أو حظر للإبداع والاجتهاد . ولا الطاعة فيها تلق سلبي ، وانصياع أعمى ، دون استيضاح أو تناصح أو تعرُّف" (50) . "وقد يلزم ضرورة أن يُؤخذ بأيدي المبتدئين نحو قبلة الرشاد، ولكن مغزى التربية من بعدُ هو إلهام كل عضو حريته ومسؤوليته ، لينافس المنافسين ، ويوافي وسعه ودوره الخاص ، فيتبارك العطاء وتتعاظم حركة الدين" (51) .

* تشجيع حركة التناصح العامة ، والمراد بذلك عدم الاكتفاء بالشورى الرسمية التي تنظم اللوائح طرائقها عند اتخاذ القرارات أو انتخاب القيادات ، بل تدعيمها بالشورى المبنية على مبادرات الفروع والأفراد حول تحسين سبل العمل ، أو مراجعة أهدافه المرحلية "فالشورى الرسمية التي تجري بين يدي القرار مباشرة ، إنما تُبنى على مادة أولية غنية من ذلك الرصيد الذي صاغته حركة التناصح العامة … فالشورى حقيقةً أوسع وأعمق من صورها المباشرة" (52) .

* تبني النظام اللامركزي الذي قسم التنظيم جغرافيا ووظيفيا عدة تقسيمات ، ومنح صلاحيات كبيرة وحرية واسعة للفروع في القضايا التربوية والمالية وغيرها . ومن شأن الحرية أن تضع الأعضاء أمام مسؤولياتهم دون لبس ، وتدفعهم إلى البذل والمبادرة والتنافس في الخير ، وتغلق أبواب المعاذير والتعلات التي تمكنهم من التنصل من مسؤولياتهم من خلال إلقاء التبعة على الغير. (راجع الكلام حول النظام اللامركزي في الفصل الثالث) .

* الاقتصاد في الأوامر الملزمة ، وحصرها في الأمور الاستراتيجية الحساسة ، وبذلك "كُيِّفت الإمارة بحيث تقتصر الأوامر القطعية على ما يلزم ، وتُبسَط حول ذلك الشورى المؤلفة للرأي والقلب ، والبيانُ الشارح للعقل والصدر ، بحيث يُعوَّل على التوجيه غير القاطع فيما وراء ذلك ، حتى تُجنَّد دواعي الطاعة الحرة وتشيع في الجماعة ، وحتى تُشجَّع المبادرات المثرية للأداء والعمل … وأصبحت صيغة الأمر تقتصر على هيكل من التكليف لا يتجاوز ما هو استراتيجي أو حاسم ، بينما أصبحت صيغة التوجيه هي الغالبة ، تربية وتهيئة نحو مجتمع قوامه روح التدين وحوافزها وآثارها الطوعية ، لا روح الأمر والإجبار والسلطان الوضعي" (53) .

تعايش الوحدة والتباين

من الثنائيات التي لم تفلح بعض الحركات الإسلامية في حسن التعامل معها قضية الوحدة والتباين: فبعض قيادات هذه الحركات فهمت النمطية والانضباط على أنهما الضامن الوحيد للوحدة ، ووقفت موقفا متوجسا من أي نزوع إلى التباين والاختلاف الاجتهادي داخل الصف ، واعتبرته خروجا على الطاعة ، ومروقا من الجماعة ، وإثارة للفتنة .

ولم تفهم طبيعة الالتزام الطوعي الذي تأسس عليه عملها ، بل لم تفهم أن التباين والاختلاف من سنن الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا . فإما توظيفهما إيجابيا لخدمة المسيرة ، وإما الوقوف في وجههما دون فائدة .ولعل هذه القيادات لا تزال محصورة بطوق الفكر الإسلامي التاريخي الذي أثر فيه هاجس الفتنة تأثيرا عميقا ، حتى أساء الظن بكل محاولات الإصلاح مهما كانت ضرورة ، والوقوف في وجه القادة مهما كان متعينا ، إلى حد أن بعض فقهاء الأزهر أفتوا بعدم جواز مقاومة "نابليون" أيام استعماره لمصر ، متعللين بأن ذلك "فتنة" ، وألف أحد الفقهاء الموريتانيين أيام الاستعمار الفرنسي كتابا سيء الصيت ينحو نفس المنحى ، سماه "النصيحة العامة والخاصة في التحذير من قتال الفرانْصة" [=الفرنسيين] ، رغم أن أخاه - وهو فقيه كذلك - كان يقود حركة الجهاد ضد المستعمر في ذات الوقت .

وسبب آخر هو أن قيادات الحركات الإسلامية أدركت بعض وظائف التنظيم وغاب عنها بعضها: ففهمت أهمية الضبط والوحدة ، وهما من وظائف التنظيم الأساسية ، لكنها غفلت عن وظيفتي الاكتساب والاستيعاب : فكل تنظيم اكتفى بحماية الموجود ، وقنع به ، ولم يمد أذرعه لاكتساب دماء جديدة ، واستيعاب طاقات متجددة ، فهو ميت لا محالة .
لكن الحركة الإسلامية في السودان تبنت منظورا مختلفا ، لا يرى التباين الداخلي خطرا على الوحدة ، بل يراه درعها وحاميها : فلا بقاء لوحدة قائمة على القهر المادي أو المعنوي ، ولا ضمان لوحدة أحسن من انبعاثها من وجدان الناس . وبذلك استطاعت الحركة المحافظة على تماسك الصف ، ووحدة الغاية ، وتنسيق الجهد ، من خلال تنوع وتباين يضمنان حرية الأفراد والفروع ، بحيث تأخذ الحركة من كل بحسب وسعه واستعداده ، وتستوعب أكبر عدد ممكن من الذين يحبون الله ورسوله ، على تباين مستوى إيمانهم وتقواهم ، ووعيهم وولائهم ، ومشاربهم الاجتهادية ، وخلفياتهم الفقهية ، وتجاربهم الحياتية . ولا ترغم الجميع على مسار نمطي واحد يقتل روح الإبداع والاندفاع الذاتي ، الذي هو مصدر كل عمل أصيل .

وربما كانت الحركة السودانية هي أكثر الحركات الإسلامية تنوعا وتباينا في صفها الداخلي : حيث تلقى فيها السلفي والصوفي ، والحضري والبدوي ، وغير هؤلاء ، يعملون جنبا إلى جنب ، على اختلاف المذاهب والمشارب .

يشرح الدكتور الترابي فلسفة الحركة في هذا الشأن فيقول : "لما كانت الحركة الإسلامية نموذجا لمجتمع مسلم مرجو ، وكان المجتمع الفاضل لا يعول على السلطان وحده في الإحاطة بوظائف حياته وتوحيدها ، بل يعمر حياته بالمبادرات الحرة الفردية ، والمنظمة من قبل الدولة المركزية ، حتى يحقق شمول حياته ويوحدها من تلقاء العمل الخاص والعام ، والتدين المستقل والمتعاون .. كذلك لا ينبغي لجماعة تريد أن تتربى وتربي مجتمعها نحو هذا المثال أن تستعمل السلطة المركزية المباشرة وحدها أداة لكل عمل في كل مكان ، وتحسب في ذلك وحدتها الصارمة . بل شأنها أن تعول أيضا على الوجدان المؤمن الحر ، وتثق في مبادراته المستقلة ، وتهيئ له أسباب البعد من السلطة المركزية ، ليتربى على المسؤولية ، وليوجه كسبه الخاص بما ينسج وحدة متينة مع جماعة المؤمنين" (54) .

 ثم أضاف مبينا أن تلك هي صورة المجتمع الإسلامي المنشود ، الذي تسعى الحركة الإسلامية إلى بنائه : "ليس من شك في أن المجتمع الإسلامي الأمثل - ولا أقول المثالي - هو المجتمع الذي يقوم فيه الناس بأغلب شؤونهم ، ويتضاءل فيه دور السلطان لأضيق الحدود ، لأن السلطان يستعمل أدوات القهر والأحكام الظاهرية ، أما الدين - بجوهره - فهو مواقف للوجدان ، وطاعة لله تعالى يجزي عليها الإنسان يوم القيامة . وكلما تدين المجتمع وأفراده من تلقاء أنفسهم - دون أن يرهبهم سلطان ، ولكن رهبة لله سبحانه وتعالى ورغبة فيما عنده - يقومون بأغلب وظائف الدين" (55) .

وقد غاب هذا الفقه عن العديد من الحركات الإسلامية ، وكان من نتائج هذا الخلل الفكري اختلال تنظيمي ، تمثل في المركزية الطاغية ، وتدخُّل القادة في كل صغيرة وكبيرة .. وغير ذلك مما بسطناه في مواضع أخرى من هذه الدراسة .

وإذا كان الإسلاميون السودانيون يقرون بفائدة الصرامة النمطية في طور التأسيس ، لتعميق معنى الجماعة في نفوس الأفراد ، وإلزامهم بمعاني النظام والطاعة ، فإنهم لا يرون لذلك معنى بعد استقرار النموذج وبناء الأسس .

 وتلك هي خلاصة تجربتهم بهذا الشأن : صرامة ونمطية أيام التأسيس ، وسماحة وحرية أيام النضج ، فلكل مقام مقال ، ولكل عصر رجال . ذاك ما يشرحه الترابي بقوله : "إن قواعد التنظيم التي بدأت تهدف لتحقيق النمطية في الأعضاء وفي حركتهم ، لتضمن الرشد والاستقامة ، أخذت بعد اطمئنان الحركة تتسع لقدر من التباين ، حتى يجد كل عضو فيما يليه مجالا للتدين في الجماعة ، حسب ما آتاه الله ، وحتى يجد كل تنظيم فرعي يقوم في إقليم محلي ، أو على وظيفة خاصة في العمل الإسلامي ، مجالا لتكييف حركته لخصوص ما يليه من ابتلاء ، وما يرجوه من كسب ، دون خروج عن النسق العام لمنظومة الحركة" (56) .

"هكذا كانت صور الحركة في الأقاليم المختلفة تتباين شيئا ما في أولويات همها ، وخصائص نهجها . وكانت التنظيمات المستقلة تختلف كثيرا في ظهور صبغتها الإسلامية ، أو قطعية نظمها وضوابطها. بل إن الأعضاء في الجماعة الإسلامية الواحدة يتباينون ، ويتسع لتباينهم نظام العضوية . كل تلك وجوه للحرية في توخي معاني التدين التامة ، دون تفريط في نظام الجماعة اللازمة لتمام التدين" (57) .


تلازم العمق والامتداد

تواجه حركات التغيير الاجتماعي عادة إشكالا عمليا ، يتعلق بالاختيار بين منهج الانتقاء الكيفي الذي يضمن صلابة النواة ونوعية العمل ، ومنهج الحشد الكمي الذي يمكن من جمع قوة بشرية قادرة على المغالبة . ولم تكن الحركة الإسلامية في السودان لتسلم من تحدي هذا الإشكال . وحينما عرضت الحركة هذا الأمر للشورى ، ظهر اتجاهان متعارضان :

الاتجاه الأول : يرفض الانفتاح والحشد الكمي ، ويعرض مساوئه المحتملة ، ومنها :
*"الانحلال والاختراق الأمني ..
* والتسيب الفكري والتربوي مع أشتات القادمين ..
* والارتخاء الحركي والتنظيمي مع دخول العوام القدريين القاعدين الذين لا يدينون إلا لخويصة أنفسهم ، ولا يوالون إلا اتكالا أعمى ، ولا يتحركون إلا عفوا وارتباكا" (58) .
* والاستعداء والتآكل : "فما إن تصل الحركة إلى أوجها حتى تأخذ في الانهيار بسبب الضربات التي توجهها لها المؤسسة العسكرية ، مع ظروف التآكل الداخلي"(59) .
وقد ظهرت هذه التحفظات بدءا خلال تجربة "جبهة الميثاق الإسلامي" منتصف الستينات ، حيث أحس بعض من قادة الحركة وأعضائها "أن المحور العام (جبهة الميثاق) تتسع مساحته على أبعاد المحور الخاص (الحركة) مما يعني ارتفاعا في الكم ، مع انخفاض في النوع" (60) .

 لكن يؤخذ على هذا الاتجاه - كما يقول الترابي - أنه يمثل "مدرسة ترى أن دور الحركة تربوي في المقام الأول ، فهي تأخذ أعضاءها أفذاذا لتطهرهم وتزكيهم ، وكانت علاقاتها بالأهداف السياسية مثل الأحلام، لا يترتب عنها أي عمل" (61) وهذا شأن الطرق الصوفية ، لا الحركات السياسية .

الاتجاه الثاني : يدعو إلى الانفتاح وتوسيع القاعدة ، ويقدم لذلك مبررات منها :
*"تجاوز مظنة الاعتزالية والطائفية ، نحو واجبات تبليغ الدعوة وبسط التدين وحاجات تمكينه" (62) إذ لا يليق بحركة تحمل دعوة عالمية ، وتبشر بشمولية الإسلام منهاجا للحياة ، أن ترضى بالتقوقع على الذات والانعزال عن المجتمع .
* مناسبة ذلك لظروف الحركة في بلد حظي أبناؤه بهامش واسع من الحريات السياسية ، حيث غدا الانفتاح "ممكنا وضرورة لحاجات الحركة" (63) .
* التسلح لدخول المعترك السياسي الذي لا يمكن الاستغناء فيه عن الحشد الجماهيري . ولا تغني فيه الصفوة القليلة مهما كانت نوعيتها (64) .

ويبدو أن مما زاد الاستقطاب بين المذهبين تطور العمل العام - ضمن جبهة الميثاق - واتساعه على حساب العمل التنظيمي الداخلي ، خصوصا وأن جبهة الميثاق - كما يقول الترابي - "كانت مجرد واجهة سياسية، تعبر عن المواقف التي تتخذها الحركة في أطر أخرى في غالب الأحيان" (65) مما جعل عوامل نفسية وشخصية تؤثر في رؤية الطرفين للموضوع ، حسبما يبينه الترابي في قوله :"كان الإخوان التقليديون المتمكنون القابعون في الأطر التنظيمية التقليدية ، يرون هذه المناشط الواسعة كأنها غير مشروعة ، لا سيما أنها تجري بعيدا عن المحور ، لم يكونوا يجدون فيها روح التدين . ولعل جدواها الواسعة ومداها الكبير ووقعها العظيم قد زادهم غيرة منها ، إذ بدا التنظيم التقليدي على هامش الحياة العامة ، سريا وغير مذكور ، وبدا أن مبادرات العمل الإسلامي الفعالة تصدر من خارج الإخوان . ولعل القائمين في الساحة العلنية قد توهموا هم أيضا أن هذا التنظيم السري - بالإضافة إلى تعويق العمل العام - لا يكاد يجدي شيئا" (66) .

وقد ساعدت ظروف السجن - أعوام نميري الأولى - على توسيع الحوار وتعميقه بين أبناء الحركة ، حول معادلة العمق والامتداد ، إذ "مثلت فترة السجن فترة تجانس وتكامل فكري ونفسي ، وتعارف وتكييف للأمزجة والثقافات ، واستكشاف للمهارات والقدرات" (67) فالسجن مدرسة سياسية تختفي فيها المطامح الشخصية والخلافات اللفظية ، ويصبح رفقاء الدرب الواحد أكثر إدراكا لما يجمعهم . وهذا ما حدث للإسلاميين السودانيين ، حين "وجدوا أنفسهم في زنازين سجن كوبر التي وفرت الوقت والطاقة لاستكمال ذيول ذلك النقاش [=تربية أم سياسة؟ كم أم كيف؟] وتعويض ما فاتهم من فرص التربية والتزكية" (68) .

وبعد تدارس الأمر ، ومنحه الجهد التأصيلي والتخطيطي اللازم ، "اطمأنت تجربة الحركة إلى تلازم الكيف والكم" (69) مع بعض التفصيل المنبني على مراعاة عمر العمل وظروفه . وفيما يلي عرض لبعض النتائج الفكرية والعملية التي تبنتها الحركة السودانية في هذا الشأن :
* الأصل أن يكون المنهج الانتقائي هو المتبع في فترة التأسيس .

 وفي بواكير الدعوة الإسلامية بمكة ما يزكي هذا الطرح ، إذ "قضت حكمة الله أن تحاصَر الجماعة الأولى حتى يقوى عودها بالعبادة والمجاهدة ، فتكون قاعدة الأساس ، وإطار القيادة والقدوة . ثم انفرجت أبواب الدعوة مع مواتاة السلطان في المدينة ، وانفجرت صفوفها اتساعا" (70) .

* بعد تجاوز طور التأسيس ودخول الحركة مرحلة المغالبة السياسية ، لا بد من الانفتاح الكمي الذي يقتضي تساهلا نسبيا في شروط العضوية ، وفتحا لقنوات التربية ، وتعبئة إجمالية للناس . كما بدأ الناس في الالتحاق بدعوة الإسلام الأولى أفذاذا ، ثم انتهى الأمر بدخولهم في دين الله أفواجا . وشمول رسالة الدين يستلزم سعة واستيعابا في هيكل الحركة ، إذ "لا يكون الدين شاملا لشؤون الحياة ، محيطا بأوضاع البشر ، وكاملا في مقامات الترقي ، إلا استتبع تنظيما واسعا مستوعبا متطورا" (71) .

* إن التمييز بين منهج العمق ومنهج الامتداد ليس مجرد تمييز زمني : هذا في طور التأسيس وذاك في طور المغالبة السياسية ، وإنما هو تمييز وظيفي كذلك . فلكل من العمق والامتداد مجاله ومساحته : فبعض الأجهزة الحركية الخاصة تستلزم دائما تشددا في القبول ، وحرصا على النوع، وبعضها بطبيعته لا يحتاج لذلك ، بل يتضرر ويختنق إذا لم يظل مفتوحا على المجتمع متفاعلا معه.
* يستلزم الانفتاح الناجح شروطا منها : رسوخ النموذج ، وانتصاب القدوة ، وإمساك الثقات الأثبات بمقاليد الأمور . "ولئن كان في الردة الواسعة عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم صورة لما قد يقع للكم الحاشد ، فإن في استرداد الاستقامة بفضل الزاكين من الصحابة ، وفي قيام العرب جميعا من بعدُ بقيادة فتوح الدعوة والجهاد ما يشهد بحكمة التوازن بين التركيز والاتساع" (72) .

* مهما كانت دواعي الانفتاح مغرية ، فلا ينبغي التخلي عن الهيكل الحركي ، وخصوصا بعض الأجهزة النوعية التي يرتبط مستقبل العمل وتوجه الحركة الاستراتيجي بها . أما أجهزة العمل العام فلا بد من توسيعها وفتحها لكل راغب ، حتى ينساب خطاب الحركة إلى كل قطاعات المجتمع انسيابا . ويبقى توجيه هذه الأجهزة من مهمة الأفراد الحركيين المنبثين فيها . على أن يكون هؤلاء بخبرتهم النوعية وحسن تنسيقهم مع الأجهزة الأخرى قادرين على قيادة وتوجيه الكم المحيط بهم .
* يستدعي الاحتفاظ بالهيكل الحركي السري تطبيق فكرة "التنظيم الموازي" بكل ما تتطلبه من حصافة أمنية ومهارة سياسية وتنسيق إداري . وقد بدأت الحركة في السودان تطبيق هذه الفكرة خلال عملها تحت واجهة "جبهة الميثاق الإسلامي" حين "طمحت إلى أن تصبح محور ولاء شعبي منتظم … فأقامت "جبهة الميثاق الإسلامي" المشهورة ، مؤسَّسة على منهاج مكتوب وضعته الجماعة ، وجمعت حوله الجماعات الإسلامية والأفراد في حركة سياسية موحَّدة ، سوى أنها حفظت لنفسها احتياطا في خاصة أمرها بالاستقلال عن الجبهة ، بل التحكم فيها" (73) .

* ترتبط الموازنة بين العمق والامتداد بالظروف السياسية والأمنية . فإذا أتيحت الحرية السياسية، وانحسر الخطر الأمني تعينت المسارعة إلى الامتداد ببسط الأجنحة ومضاعفة الاكتساب. وإذا ساد التضييق السياسي والقمع الأمني فإن التوجه إلى العمق هو اللازم : مراجعة للذات ، وتعميقا للتكوين ، وتمتينا للصف . "إن مراحل الحرية في السودان التي تيسر للحركة الانطلاق ، غالبا ما تكون مراحل تخلف نسبي للتنظيم عن مبادرات الانطلاق ، فلا تسلم مع دفعها من ارتباك . ثم في مراحل القهر والكبت تفرغ الجماعة لمراجعة نظامها ، فتستوعب ما كسبته من مناشط منطلقة في أطر تنظيمية ، وتخطط لاتخاذ أطر أخرى لتوسعٍ تستقبله" (74) .

* يتعين على الحركة إذا قررت الانفتاح في أي طور من أطوارها ، أن يكون ذلك بناء على خطة موجِّهة ، حتى لا يتحول إلى تسيب سلبي . وانسجاما مع استراتيجيتها العامة تحتاج إلى توجيهه إلى قطاعات معينة ، وتركيزه على قوة اجتماعية خاصة - مثلا - لا تزال الحركة تعاني من انحسار في صفوفها . وهكذا "يحسن أن توجَّه حركة الانتشار بالوجه الأوفق لأهداف الحركة وحاجتها . بل لا بد من أن يُتقَن التوجيه ، بأن تُربَط اتجاهات الانتشار بالوظائف الحركية القائمة ، وبالمراحل الحاضرة ، وبالتوجيهات المقرَّرة في استراتيجية الحركة ، فتُصوَّب إلى جهة محلية ، أو قطاع ، أو فئة اجتماعية ، أو أعلام أو أعيان من الناس ، حسبما يقتضي المشروع الحركي الإسلامي" (75) .

وقد تبنى الإسلاميون السودانيون منهج التخطيط في هذا الأمر "فرتبوا منهاجا للانتقال يحفظ خير القديم في إتمام الوعي بالتربية الفردية وإحكام التنظيم في الحركة ، ويجمع إليه خير الجديد من تعبئة وسائل التربية الإجمالية وقوى الجماهير المؤمنة ، في سبيل بسط التدين في المجتمع ، وتمكينه في الدولة" (76) .

وهكذا يتضح أن أبواب الخير لا تنسد أمام الحركة أبدا : "ففي ظروف الحرية ضرورة لتنظيم التعبئة السياسية ، وفي ظروف القهر ضرورة لتنظيم التأمين" (77) .

إن منهج الحركة السودانية في التعامل مع إشكال العمق والامتداد هو فرع عن تصورها لوظيفة التدين ، حيث لا تنفك تربية الفرد عن الوظيفة الاجتماعية للدين . وفي ذلك يقول الأستاذ مكي : "إن تزكية النفس ليست فقط حركة توجه نحو الداخل ، لإعمار شعاب النفس ، ولكنها كذلك حركة منفتحة على الناس ، إذ الإعمار الداخلي إنما هو جزئيا نوع من الاستعداد لتكليف الدعوة والإرشاد والبث الخارجي"(78) . وقد تجلى هذا المنهج في سماحة القيادة في محاسبة الناس على البرنامج التربوي الكثيف الذي تبنته ، إدراكا منها أن التفاوت في التقوى وفضائل الأعمال أمر لا مناص منه ، وما هو بمانع من الاستفادة من طاقات الجميع في الجهاد العام لنصرة الدين والتمكين له ، إذ "مع هذا التكثيف للعمل التربوي ، فإنه لا يؤثر في انتماء غير الملتزمين بهذه النشاطات [=فقرات البرنامج التربوي] ، إذ لا تسقط عضوية المنتمي إلا بإيتاء واحدة من الكبائر ، أو يخرج عن الدين ، أو عن الولاء كله ، كما أن هذه الروحية فيها من هو غير أخ ، ومن غير إلزام أو التزام" (79) . وهذا الذي ينسجم مع حركة إسلامية تعد نفسها للتحول إلى مجتمع إسلامي مجاهد ، وليست حركة صوفية حصرت نفسها في دعوة الزهد والتحنث .

كما تجلى هذا المنهج في مرونتها في قبول عضوية الراغبين ، دون عنت أو رهق ، وهو أمر تم اعتماده في مؤتمر الحركة عام 1984 ، حيث تبنى المؤتمر "خيار التنظيم الواسع ، ومراجعة شروط عضوية الجماعة وقنواتها . فمن حيث شروط العضوية أصبح كافيا :
* التمسك بعقائد الإسلام وفرائضه بترك الكبائر
* قبول العمل مع الجماعة ، والتجرد من أي ولاء سياسي آخر .
ويأتي التسهيل [هنا] من حيث أنه لا يشترط أن لا يكون [العضو] منتميا لجماعة روحية أو فكرية غير سياسية" (80) .

وتلك واقعية حكيمة تجد أصلها في التطبيق النبوي : فقد كان في مجتمع المدينة أيام النبوة أصناف شتى من المؤمنين ، متفاوتون في إيمانهم وتقواهم ، منهم الظالم لنفسه ، ومنهم المقتصد ، ومنهم السابق بالخيرات بإذن الله . لكن المجتمع كله كان مجتمع جهاد ، فمتى نفر النفير، ونادى نادي الجهاد هب الجميع لندائه ، ولم يكن يتخلف منهم إلا منافق معروف النفاق ، أو معذور قبل الله تعالى عذره . ولذلك كانت قصة الثلاثة الذين خلفوا - قبل توبة الله عليهم - صدمة لمجتمع المؤمنين آنذاك .
إن المنهج المتفائل الذي تبنته الحركة السودانية لا يترك مجالا للنظرة التقليدية المتشائمة حول فترات التضييق السياسي ، والتماس المعاذير فيها لكل قصور أو ضعف في العمل ، بل وجدت الحركة أن هذا التضييق قد يكون - أحيانا - نعمة على حركة استهواها العمل العام ، حتى غفلت عن شأنها الداخلي . صحيح أن ما يفرضه التضييق من انغلاق يؤدي إلى ضمور في الاكتساب ، وخفوت في الخطاب "بيد أن الانغلاق فرغ الجماعة لنفسها ، فثار فيها حوار منهجي منظم" (81) "وهيأت ظروف الاعتقال والانكبات السياسي للجماعة أن تركز وظيفتها التربوية ، وتزكي عناصرها ، وتمتن بناءها الإيماني والنظامي" (82) .
ولكي تتضح للقارئ الكريم قيمة هذا التوازن بين العمق والامتداد ، نعرض مثالين للفشل في ذلك لدى اثنتين من الحركات الإسلامية العريقة ، هما "حركة الإخوان المسلمين بمصر" و"الجماعة الإسلامية" في باكستان .

المثال الأول : الإخوان بمصر
لقد أدرك الدكتور النفيسي حكمة الانفتاح على المجتمع الذي تبنته الحركة السودانية ، والفرق بينها وبين حركة الإخوان بمصر في هذا المضمار ، فقال : "استطاعت الحركة في السودان أن تبلور تكنيك الانتقال من حركة صفوية حزبية تنظيمية مغلقة ، تمثلت بـ(الإخوان المسلمين) هناك ، ما بين الأربعينات والستينات ، إلى حركة جماهيرية جبهوية مفتوحة ، تتمثل اليوم [1989] بـ(الجبهة الإسلامية القومية) التي استطاعت أن تفرض وجودها في السودان ، تارة في المعارضة ، وأخرى في الحكم ، وأخرى كقوة مرجحة في مجلس الشعب .

 وفي كل الأحوال كقوة اجتماعية ، تأسست في قاع الحركة الاجتماعية اليومية في الشارع السياسي السوداني . في المقابل نجد أن جماعة (الإخوان المسلمين) في مصر لم تزل تتمسك بالصيغة الصفوية الحزبية التنظيمية المغلقة ، من خلال نفس التشكيل الإداري لهيئاتها (المرشد العام - مكتب الإرشاد - مجلس الشورى) منذ الثلاثينات حتى الآن . أضف إلى ذلك أن هذه الجماعة - نظرا لعجز الصيغة الحركية - لا المنطلق الأديولوجي - لم تستطع أن تبلور أدوارها كمعارضة ، أو أن تستثمرها سياسيا كما ينبغي . وإن كان تحالفها مع (الوفد) و(العمل) [في الثمانينات] يعد رقما إيجابيا في رصيد أدائها السياسي" (83) . وقد استمر هذا الانفتاح الجزئي في التسعينات، وإن كان عجز البناء القيادي وقصور الرؤية الاستراتيجية لا يزالان يقيدانه .

ثم يستطرد الدكتور النفيسي في تعداد ثمرات الانفتاح على الحركة السودانية في مجال الخبرة والعلاقات ، وفي مجال الاكتساب والاستيعاب ، مع التحليل والمقارنة بالتجربة الإسلامية المصرية ، فيقول : "نظرا لسيادة المنهجية الجبهوية التفاوضية المرنة ، استطاعت الحركة في السودان أن تستفيد من خبرات أتباعها ومشايعيها ، وأن تصقل مواهبهم الإدارية والتجارية والإعلامية والسياسية ، عبر استحداث الأطر والصيغ الحركية والتنظيمية التي تتكفل بذلك . ولذا نجد أن الجبهة [الإسلامية القومية] في السودان في تطور كمي وكيفي (كمٍّ من الجمهور والأصوات السياسية ، وكيفٍ من الاختصاصيين ، كل في مجاله) .

 في الجهة المقابلة نجد أن جماعة الإخوان في مصر قد بدأت تفقد عددا كبيرا من أهل الكفاية والاختصاص . وكذلك من الجمهور ، وأن معظم هيئاتها الإدارية والقيادية هم من "الحرس القديم"" (84) . ويضيف "استطاعت الحركة في السودان - عبر صيغتها الجبهوية المرنة - أن تستوعب الحالة الإسلامية في القطر ، وتوظفها لمنهاج الجبهة ، بينما نجد أن جماعة الإخوان في مصر - كقوة محجوبة عن الشرعية - لم تستطع ذلك . بل إن معظم التنظيمات الإسلامية الشابة الجديدة ليس على وفاق مع الإخوان" (85) .

علما بأن الحجب عن الشرعية ليس عذرا كافيا للانعزال عن التفاعل مع المجتمع ، ما دامت التحالفات مع القوى السياسية الأخرى ممكنة . فالحركة في السودان كانت محجوبة عن الشرعية ستة أعوام من حكم الجنرال عبود ، وثمانية أعوام من حكم النميري - الذي وضع قادتها في غياهب السجون - لكن ذلك لم يؤثر على حيويتها وحضورها ، ضمن أحزاب "الجبهة المتحدة" في الحالة الأولى ، و"الجبهة الوطنية" في الثانية .

إن ما أصاب حركة الإخوان في مصر - كما يتجلى من خطابها وبنائها القيادي - هو داء التمحور حول الذات ، الذي كان الترابي قد حذر منه حين قال : "من أخطر الابتلاءات التاريخية التي تجابه الحركات ، هي أن تتحول - من حيث لا تدري - من دعوة منفتحة مقبلة على الناس ، تريد أن تستوعبهم للإسلام …إلى طائفة مغلقة تزدهي بتاريخها وبرجالها ، وتريد أن تحتكر الفضل والعلم والكسب كله" (86) .

المثال الثاني : الجماعة في باكستان
لقد اعتادت الجماعة تقسيم أعضائها قسمين :
*"الأركان" : وهم الأعضاء المنتظمون ، ويتشكلون من صفوة الناس الذين برهنوا على التزامهم الكامل بتعاليم الإسلام ، وانتظموا في الجماعة فترة مديدة ، وبرهنوا على قوة الثبات على المبدإ وعمق الولاء للقيادة .
*"المتفقون" : وهم الأعضاء المنتسبون ، الذين يتعاطفون مع فكر الجماعة ، ويناصرونها . لكن القيادة لا تراهم مؤهلين للعضوية الكاملة ، نظرا لنقص في التدين أو الوعي أو الولاء (87) .
وربما يجد الباحث جذور هذا التقسيم في حرص المودودي وبعض زملائه المؤسسين للجماعة على التمييز بين الإسلام كهوية قومية ، وبين الإسلام كالتزام ونظام حياة : فقد تأسست دولة باكستان على فكرة إسلامية في الأصل ، عبر عنها العلامة محمد إقبال شعرا ونثرا ، وتحول الإسلام إلى هوية سياسية وانتماء قومي لأبناء باكستان يميزهم عن هوية الدولة الهندوسية الأم ، وظل جزءا من برنامج كل القوى السياسية الباكستانية ، على تفاوت كبير في صدق التوجه وجدية الطرح . لكن المودودي وجد أن مجرد استقلال المسلمين في دولة خاصة بهم - على أهميته - ليس كافيا ، وهو لا يعني أن الدولة ذاتها دولة إسلامية . فإسلامية الدولة أمر أكبر من مجرد وجود أغلبية مسلمة بين سكانها ، أو الإحساس العام بالانتماء إلى أمة الإسلام . فكانت الغاية من إنشاء الجماعة الإسلامية منذ البدء ، هي تكوين صفوة تعلِّم الشعب الباكستاني المدلول الصحيح للدولة الإسلامية ، وتقوده إليه .

وقد أشار المودودي في خطابه التأسيسي للجماعة عام 1941 إلى أن الجماعة لن تقبل العضو بمجرد انتمائه للإسلام دينا ، وإنما لا بد أن يفهم العضو معنى ومقتضيات "الكلمة" ، ويطبق الحد الأدنى من فرائض الإسلام (88) . وليس في هذا بأس ، لكن يبدو أن "الكلمة" تحولت فيما بعد إلى "كلمات" ، وأن "الحد الأدنى" تحول إلى "حد أقصى" . فدرجت قيادة الجماعة على التشدد في منح العضوية الكاملة ، وغلت في ذلك حتى تجاوزت كل حدود . ورغم أهمية مبدإ الانتقاء في طور التأسيس ، وفي بعض الظروف والمواقع - كما رأينا - إلا أن المودودي وزملاءه نسوا أهمية الاستفادة من الولاء السياسي للإسلام الموجود لدى الشعب الباكستاني أكثر من أي شعب آخر تقريبا - بحكم تجربته المريرة مع الهندوس - وأهمية توظيف ذلك الولاء العام لصالح الجماعة وبرنامجها السياسي ، بغض النظر عن تفاوت الأفراد في مستوى الالتزام .

 فوقعوا أسرى هاجس التميز ، وفرطوا في هذا العنصر التاريخي والاجتماعي المهم حرصا على نوعية التربية وعمق الوعي ، ولم يستطيعوا الجمع بين مقتضيات الكم والكيف أو العمق والامتداد بتوازن . بل "ظل التأكيد على النوع - لا على الكم - هو السائد ، ولذلك فإن الجماعة ليست حزبا جماهيريا ، وإنما هي "جماعة"" (89) . "وكثيرا ما وردت مقترحات بتوسيع القاعدة من خلال تخفيف شروط العضوية ، لكن القيادة كانت دائما تجادل بأن ذلك سيحول "الجماعة الإسلامية" إلى حزب جماهيري كأي حزب آخر" (90) .

وخلال الثلاثين عاما التي قاد فيها المودودي الجماعة (1941-1971) لم يتجاوز عدد أعضائها المنتظمين ألفين وخمسمائة عضو (2500) (91) . وبعد مرور حوالي نصف قرن على التأسيس ، ظل عدد أعضاء الجماعة المنتظمين أقل من ستة آلاف عضو (5723) رغم أن عدد المنتسبين إليها - أو "المتفقين" - قارب ثلث المليون (305792) (92) . ولك أن تتصور - بمنطق المغالبة السياسية - ما الذي يستطيع ستة آلاف عضو فعله ، في شعب قارب تعداده مائة وعشرين مليونا.

لقد كانت الجماعة الإسلامية في باكستان نشطة - سياسيا - أيام المودودي ، وقد تزعمت قيادة الرأي العام في قضايا مهمة ، مثل قضية الدستور الإسلامي ، ومحاربة القاديانية . لكن هذا الوهج يمكن إرجاعه إلى ديناميكية المودودي وشجاعته ، أكثر من هيكل التنظيم المنغلق .

وهكذا ظلت هذه الحركة التي تعتبر من أعرق الحركات الإسلامية ، وأبعدها أثرا على غيرها من الحركات - خصوصا في آسيا - تدور في حلقة مفرغة من الجمود السياسي ، بل تتقهقر تدريجيا ، وتفقد نفوذها الشعبي ، بسبب عجزها عن التوفيق ما بين منهج الانتقاء النوعي ومنهج الحشد الكمي ، وتتحول تدريجيا إلى جمعية ثقافية مغلقة ، أو حركة صوفية انعزالية .

وتعتبر الانتخابات البرلمانية في باكستان مؤشرا ذا دلالة عميقة في هذا المضمار : فقد حصلت الجماعة على ثمانية مقاعد في انتخابات 1988 ، وعلى نفس العدد في انتخابات 1990 ، ثم تدهور العدد إلى ثلاثة فقط في انتخابات 1993 .

وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك أن باكستان لم تصبح دولة إسلامية ، بسبب عجز "الجماعة" عن توظيف العوامل التاريخية في هذا الاتجاه ، ولم تتحول إلى دولة علمانية ، نظرا لوجود تلك العوامل ذاتها ، التي تجعل العلمانية الصريحة نقيضا لمبدإ وجود الدولة وهويتها وتميُّزها عن عدوها التاريخي (الهند) . بل ظلت باكستان - ولا تزال - "دولة تخليط" ، تماما مثلما وصف العلامة عثمان بن فوديو بلده (نيجيريا) ، حينما استفتاه مستفت هل هي "دار إسلام" أم "دار كفر" ؟ فقال : لا هذه ولا تلك ، وإنما هي "دار تخليط" .

ومما يبشر بالخير أن القيادة الحالية للجماعة الإسلامية بباكستان بدأت تدرك عمق الأزمة التي وضعت الجماعة فيها نفسها . فخففت من شروط العضوية ، وفتحت الباب لمزيد من المرونة الداخلية التي يؤمَّل أن تغذيها بدماء جديدة وأجيال جديدة أوعى بلعبة السياسة من جيل التأسيس. ففي تقرير تقييمي نشرته الجماعة على موقعها في الإنترنت اعترفت بأخطاء الماضي ، ووعدت بإصلاح المستقبل . فقد ورد في التقرير : "لقد أثرت الحركة [الجماعة] تأثيرا بالغا في القطاعات المتعلمة من المجتمع ، لكن تأثيرها على عوام الناس لا يزال بحاجة إلى توسيع ومد . وقد طورت الجماعة خطابا سياسيا جديدا لهذا الغرض ، لكن يبقى أمامها جهد مضن للتغلب على مراكز القوة التقليدية في المجتمع ، لأن أخلاق الجماعة وفكرها لم يتحولا بعد إلى قوة سياسية ذات وزن" وينتهي التقرير إلى بيان الحقيقة المرة : "إن الجماعة الآن ذات أثر فعال كقوة أديولوجية ، أو كجماعة ضغط لها وزنها في الشارع ، لكنها لم تصل بعد إلى مستوى القوة السياسية" (93) . وقد أثمرت هذه الاستراتيجية الجديدة ثمرات طيبة . فبعد مؤتمر 1997 الذي تبنت فيه الجماعة هذا التوجه ، ارتفع عدد أعضاءها إلى مليوني شخص . وتؤمل القيادة الآن أن يصل العدد إلى خمسة ملايين في المستقبل القريب (94) . وبذلك يستوي جسم الجماعة ، وتبدأ طورا جديد من النمو ، في توازن بين العمق والامتداد .

استراتيجية الفصل والوصل

من الجوانب التنظيمية الأساسية التي تواجه الحركات الإسلامية إشكال الفصل والوصل . ونقصد بذلك قدرة الحركة على الفصل بين المهام المتداخلة ، بل وفصل بعض من تلك المهام عن الهيكل التنظيمي الأساسي ، مع الإبقاء على رباط يُخضع تلك الوظيفة لتوجيه الحركة عن بعد . وقد تميزت الحركة الإسلامية في السودان في "استراتيجية الفصل والوصل" هذه . ويتضح ذلك من ثلاثة أبعاد : سياسية-إدارية ، وتربوية-تكوينية ، وأمنية-وقائية . وتحتاج كل من هذه الأبعاد إلى وقفة خاصة :

أولا : المجال السياسي- الإداري
لقد أدركت الحركة أن من واجبها توسيع نطاق قاعدتها الشعبية وكمها العددي، لكي تستطيع منازلة الأحزاب والحركات السياسية الأخرى . لكن إشكالا تنظيميا كان يفرض نفسه كلما تبنت الحركة هذا الخيار ، وهو إشكال الازدواجية القيادية والتنظيمية ، وما قد يترتب عنها من ارتباك في التسيير والإدارة، وثنائية في القرار والولاء ، وما تثيره من توجس لدى الخائفين على الحركة من الغرق في كم بشري غير منظم ، يتحكم فيها بدلا من أن يكون مددا لها . وقد استطاعت الحركة التغلب على ذلك من خلال الفصل بين القيادة السياسية والقيادة الإدارية . يشرح لنا حسن مكي ذلك من خلال مثال "جبهة الميثاق الإسلامي" في الستينات ، فيقول : "لما كانت مقاييس حركة الإخوان مقاييس صفوة ، وحركة "جبهة الميثاق" حركة جماهيرية واسعة توجهت لكل المتعاطفين دون تقييدهم بقيود التنظيم الخاص، أحدث ذلك ربكة من الذين لا عهد لهم بحركات الجماهير ، مما حرك روح المحافظة على التنظيم من تحدي الهجمة الجماهيرية الجديدة . فكان هنا أن تمت تسوية داخلية ، انتهت بأن يعالج حسن الترابي أمر الحركة الجماهيرية (السياسة) وأن يتوفر أخ لقيادة التنظيم الداخلي . ووقع العبء على مالك بدري ، ولكن ما لبث أن سافر هذا الأخير إلى بيروت ، فخلفه محمد صالح عمر" (95) .

وفي مرحلة تالية - أيام "الجبهة الإسلامية القومية" - يصف لنا الدكتور عبد الوهاب الأفندي استراتيجية الفصل والوصل في شكلها الجديد ، فيقول : "لقد قسم المكتب التنفيذي القديم إلى هيئتين : مكتب سياسي ومكتب إداري يقود كلا منهما قائد مسؤول أمام الأمين العام . وبينما كان المكتب السياسي يتعامل مع القضايا السياسية العامة ، كان المكتب الإداري مسؤولا عن الإدارة اليومية للحركة (العضوية ، التمويل ، الاكتساب … الخ ) . ومن أجل تحرير وجوه الحركة المشهورين من عبء إدارتها ، تولى نشطاء من الشباب المغمور هذه المهمة" (96) . وبهذا نجحت الحركة في الإبقاء على هيكلها التنظيمي السري قائما ، وهي تعمل من خلال جبهة جماهيرية علنية ، كما نجحت في تفريغ القيادة العليا للمهمات الاستراتيجية ، وفرغت أهل كل شأن لشأنهم .


ثانيا : المجال التربوي-التكويني
لقد تبنت الحركة الفصل بين التربية والتكوين ، نظرا لما رأته من تمايز بين الأمرين . وهو تمايز يمكن إجماله في الأمور التالية :
* أن مهمة التربية أخلاقية مبدئية ، وهي "تعزيز الصبر والاستقامة في حال الاستضعاف والتمكين" (97) بينما مهمة التكوين منهجية عملية ، وهي "التأطير المهني للأعضاء" (98). فهدف التربية هو الالتزام ، وهدف التكوين هو الفاعلية .
* أن التربية موجهة إلى عموم المجتمع ، وليست مقصورة على أعضاء الحركة ، بينما التكوين يتجه إلى الأعضاء الذين ثبت ولاؤهم حصرا .
* أن للتربية وظيفة اكتسابية - أو هكذا ينبغي أن تكون - بينما التكوين لا يهدف إلى اكتساب أعضاء جدد بشكل مباشر .
* أن للتربية وظيفة دعوية تهدف إلى زيادة مساحة الخير والفضيلة في نفوس أفراد المجتمع ، حتى ولو لم ينضموا إلى الحركة ، بينما التكوين يقتصر على تعميق خبرة الأعضاء.
* أن مضمون التربية يتعلق بالفضائل الإسلامية العامة ، وزيادة العلم الشرعي لدى السامعين ، وتعميق التزامهم بالإسلام . بينما يركز مضمون التكوين على الخبرات السياسية والإدارية والفنية التي يحتاجها العضو العامل في مسيرته .
وبناء على هذه الفروق ، تبنت الحركة الإسلامية في السودان ثلاثة ضوابط في تربية أعضائها :
*"شمولها وإيجابيتها منهجا
* وانفتاحها وعمومها إطارا
* وحريتها ومرونتها فلسفة" (99) .

أما التكوين فكانت الحركة أشد ضبطا لشأنه . وهكذا "ظلت التربية فرضا مفروضا على الأعضاء ، تستهدف ترقية دوافعهم الدينية ، وتجنيدها لزيادة الكسب والفعالية في حركة الدعوة ومجاهداتها . ثم دخل التدريب [=التكوين] في عرف الجماعة منذ نهضتها التنظيمية في السنوات السبعين . فخلافا لمدارس الدعاة التي تعزز روح التدين، وقد تؤهل العضو لأن يكون داعية ومعلما ، أصبحت نظم التدريب هي التي تتعهده بتربية عملية ، تصوِّب حوافزه الدينية إلى عمل معين يكلف به العضو ويؤهَّل له ، وتبصِّره بمقتضيات المهام التي يختص بها ، وتسعفه بكل التجارب المكتسبة في ذلك المجال ، وبكل أساليب التعبئة الإدارية والعدة الفنية لترقية الأداء المطلوب . وتتنوع دورات التدريب حسب الحاجات ، وتُحضَّر مقرراتها ومناهجها بإتقان ، ويتولاها أهل كفاءة في التدريب والإدارة العامة . بل يقوم في كنف التنظيم معهد للتدريب متخصص" (100) .

وانسجاما مع هذا المنحى ، تبنت الحركة نظام "الأسر المفتوحة" في مجال التربية ، بهدف التفاعل أكثر مع حاجات المجتمع وهموم الناس ، وتجنيب أعضاء الحركة داء الإغراق في التنظير والبعد عن الواقع . وهكذا "انفتحت أطر التربية بعد سريتها وخصوصيتها ، فاتُّخِذ نظام الأسرة المفتوحة التي تدعو من شاء لحضورها ، والمشاركة في برامجها ، حتى يكون ما يتلقى الأعضاء من علم وتربية مناسبا لأسئلة الناس وحاجات المجتمع ، متقويا بالتفاعل مع الخير والشر الشائع في المجتمع، متعديا إلى دائرة من المشاركين غير المنضوين في العضوية" (101) .

وباختصار فإن الحركة "خرجت بتربية أعضائها نحو مشاركة المجتمع لتنفع وتنتفع بالتفاعل" (102) . ومن هذه المنافع لأعضاء الحركة "أن تكون ثقافتهم متفاعلة مؤثرة في تيار الثقافة العامة بالبلاد ، ولتكون الشعائر في جماعات أكبر ، وذلك أفضل حكما ، وأدعى للتعريف بالجماعة ، ولتعزيز مكانتها وإمامتها للمجتمع" (103) . وقد أفاد هذا الفصل الوظيفتين معا : فاتسعت التربية وأدت مفعولها في المجتمع، وتم تأمين التدريب الفني وحصره في أهله .

ثالثا : المجال الأمني الوقائي

وجدت الحركة في الهيكل اللامركزي - وهو مظهر آخر من مظاهر استراتيجية الفصل والوصل - وسيلة تأمين مهمة لصفها الداخلي . وقد لاحظ الأفندي أن "اللامركزية التامة داخل الحركة جعلتها أكثر فاعلية، وأقوى على مقاومة ضربات النظام" (104) . وربما استغرب المتشبثون بالفكر التنظيمي التقليدي - ممن لم يستوعبوا معادلة الإسرار والإعلان - وجود نظام لامركزي وأسر مفتوحة في حركة سرية ، ورأوا في ذلك تسيبا وتعريضا لأمن الحركة للخطر . لكن تجربة الحركة السودانية أفادت عكس ذلك تماما .

ومن مظاهر هذه الاستراتيجية الفصل بين القيادة الداخلية والخارجية في السبعينات ، أيام الصراع مع النميري ، بحيث كانت القيادة الحركية في الخارج تعمل بالتنسيق مع أحزاب"الجبهة الوطنية" ، وتخوض حربا شعواء ضد النظام ، بينما لم تربطها أية صلة تنظيمية مع القيادة في الداخل ، وهو أمر ضمن لقيادة الداخل قدرا من الأمن لا بأس به ، فكانت ضربات النميري ضد الحركة داخليا ضربات عشوائية ، لا تؤثر على صميم التنظيم الداخلي رغم عنفها .

 وقد اتضح ذلك في المحاولة الانقلابية التي قادها المقدم حسن حسين ضد النمري ، ثم محاولة الغزو التي نفذتها "الجبهة الوطنية" ضده يوم 2 يوليو 1976 ، وكان للحركة الإسلامية دور في كلتا العمليتين . لكن ضربات النظام العنيفة التي أعقبتهما - رغم اتساعها - لم تؤثر على بنية الحركة داخل السودان تأثيرا كبيرا ، لأنها منفصلة عن القيادة السياسية في الخارج ، كما يشرحه الترابي بقوله : "فصلنا القطاعين الإداري والسياسي ، ولذلك لم تتأثر الحركة في الداخل بفشل انتفاضة 1976 الجهادية، ولم يُعتقل من جرائها ، أي من أصحاب المسؤوليات المهمة في القطاع الإداري ، لأن الفصل كان معمولا به لمعالجة مثل هذه الظروف . وقد استمر عملنا في الساحة الاجتماعية وفي الجامعة" (105) .

مثال ذو دلالة
ولا بأس أن نورد لهؤلاء المتوجسين من نظام اللامركزية واستقلال الأجنحة مثالا ذا دلالة ، وهو "حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين" (حماس) ، و"الحركة الإسلامية في إسرائيل" التي تتألف من مسلمي فلسطين 1948 . وليس بخاف إن هاتين الحركتين تعملان في أشد الظروف الأمنية تعقيدا، وفي ظل مراقبة من جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشين بيت) الذي يعتبر من أكثر الأجهزة الأمنية في العالم كفاءة وبشاعة ودموية . لكن الحركتين تبنتا نظام اللامركزية التنظيمية والأسر المفتوحة لأهداف أمنية وقائية . ودلت تجربتهما على نجاح هذه الاستراتيجية ، كما اعترف بذلك العدو نفسه . يقول "آمات كرز" و"نحمان تال" - وهما من كتَّاب مركز "جافي" للدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب - في دراسة مشتركة عن حركة حماس : "..

وابتداء من العام الثالث من أعوام الانتفاضة بدأت "حماس" تتحول تدريجيا إلى نظام اللامركزية وتوزيع السلطة . وكانت هذه التغييرات استجابة دفاعية ضد الجهود المضنية التي بذلتها قوات الأمن الإسرائيلية من أجل الحيلولة بين حماس وبين التجذر داخل بنية المجتمع الفلسطيني. وهكذا كانت الحركة قادرة على التكيف مع الظروف الناتجة عن الإجراءات الإسرائيلية ضدها ، أو الناتجة عن عوائق أخرى، من خلال تعديلات في التنظيم ، وتغييرات في توزيع مراكز قوتها… إن منهج عمل التنظيم [حماس] - كما اتضح على مر السنين - يعتمد على فكرة الفصل بين أجنحة التنظيم المسؤولة عن مهام مختلفة .

وقد كان هذا الفصل بمثابة الدرع الذي حمى بنية الحركة من اختراق قوات الأمن الإسرائيلية ، ثم من اختراق السلطة الوطنية الفلسطينية لها فيما بعد … وفي ذات الوقت كان هنالك اتصال وتنسيق واضح بين مختلف الوحدات والهياكل … وهكذا فإن مبدأ الفصل بين الأجنحة كان تعبيرا عن منطق تنظيمي واعتبارات تكتيكية في ذات الوقت" (106) .

وفي دراسة مستقلة لنحمان تال عن "الحركة الإسلامية في إسرائيل" أشار إلى أن البنية التنظيمية للحركة تشتمل على نمطين من الأسر : "أسر مفتوحة ، وأسر مغلقة . أما الأسر المفتوحة فتستوعب كل المنضوين تحت لواء الحركة ، وأما الأسر المغلقة فهي خاصة بأهل الثقة من الأعضاء الذين أبدوا قابلية قيادية . وتعمل الأسر المغلقة سرا ، وتنكر الحركة وجود هذه الخلايا السرية أصلا .. " (107) .

فهل الحركات الإسلامية في بلداننا أكثر عرضة للخطر من هاتين الحركتين ؟!؟ وهل من الضروري بعد هذا أن يدرُس أبناء الحركات الإسلامية العقيدة والفقه والسيرة النبوية في غرف الظلام ؟!؟ إننا بذلك نعزل الحركة عن المجتمع ، ونزيد الهواجس والحواجز النفسية بينها وبين الناس . ولا تسألْ عن مصير حركة تغيير هربت من مجتمعها وأساءت الظن به .
-----------------------------
هوامش الفصل الثاني
(1)-الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 101
(2) - نفس المرجع ص 46
(3) - النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ" (ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية ص 259)
(4) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 75
(5) - نفس المرجع والصفحة
(6) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 22
(7) - نفس المرجع ص 45
(8) - انظر حيدر طه : الإخوان والعسكر ، قصة الجبهة الإسلامية والسلطة في السودان ص 67
(9) - نفس المرجع ص 215
(10) - محمد إقبال : جناح جبريل ص 78
(11) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 75
(12) - ينسب الكاتب الإسرائيلي "نحمان تال" هذه المقولة للإمام الشهيد حسن البنا . انظر :Nahman Tal : The Islamic Movement in Israel بحث منشور في موقع "مركز جافي للدراسات الاستراتيجية" - التابع لجامعة تل أبيب - على الإنترنت (www.tau.ac.il/jcss/links.html) عام 2000
(13) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 122
(14) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 26
(15) - نفس المرجع ص 54
(16) - AL-Affendi : Turabi's Revolution p. 65
(17) - Abdelwahab AL-Affendi : Studying my movement : Social Sciences without cynicism
(in : International Journal of Middle Eastern Studies, 23, 1991 p. 85)
(18) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان 67
(19) - AL-Affendi : Studying my movement
(20) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 122
(21) - نفس المرجع ص 67
(22) - نفس المرجع ص 123
(23) - حول دور عبد الرحمن السعدي انظر رؤيتين مختلفين لدى كل من أحمد كامل : "الإخوان المسلمون ، نقاط على الحروف" وصلاح شادي : "حصاد العمر" .
(24) - النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 216-217 . وحول الأحداث التي يشير إليها النفيسي هنا راجع كتابي صلاح شادي وأحمد كامل المشار إليهما من قبل .
(25) - نفس المرجع ص 217
(26) - نفس المرجع ص 212
(27) - نفس المرجع ص 216
(28) - نفس المرجع ص 228
(29) - نفس المرجع ص 229
(30) - تحدث صلاح شادي عن هذه الأمور وغيرها في كتابه : "حصاد العمر"
(31) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 124
(32) - نفس المرجع والصفحة
(33) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 210
(34) - نفس المرجع ص 152
(35) - نفس المرجع والصفحة
(36) - نفس المرجع ص 76
(37) - نفس المرجع ص 127
(38) - نفس المرجع ص 208
(39) - نفس المرجع ص 209
(40) - حيدر طه : الإخوان والعسكر ص 10
(41) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 90
(42) - الترابي : الإيمان أثره في حياة الإنسان ص 134
(43) - نفس المرجع والصفحة
(44) - نفس المرجع ص 328
(45) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 78
(46) - الترابي : الإيمان أثره في حياة الإنسان ص 135
(47) - نفس المرجع والصفحة
(48) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 76
(49) - نفس المرجع ص 57
(50) - نفس المرجع ص 97
(51) - نفس المرجع ص 57
(52) - نفس المرجع ص 98
(53) - نفس المرجع ص 94
(54) -نفس المرجع ص 77
(55) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 81
(56) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 76
(57) - نفس المرجع والصفحة
(58) - نفس المرجع ص 51
(59) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان ص 199
(60) - نفس المرجع ص 142-143
(61) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 25
(62) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 50
(63) - نفس المرجع ص 49
(64) - حول مزيد من عرض الاتجاهين المذكورين حول العمق والامتداد ، راجع الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 25-26
(65) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 44
(66) - نفس المرجع ص 28-29
(67) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان ص 153
(68) - نفس المرجع ص 147
(69) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 50
(70) - نفس المرجع والصفحة
(71) - نفس المرجع ص 74
(72) - نفس المرجع ص 50
(73) - نفس المرجع ص 29
(74) - نفس المرجع ص 62
(75) - نفس المرجع ص 48
(76) - نفس المرجع ص 51
(77) - نفس المرجع ص 62
(78) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان ص 228
(79) - نفس المرجع ص 170
(80) - نفس المرجع ص 161
(81) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 28
(82) - نفس المرجع ص 32
(83) - النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 254-255
(84) - نفس المرجع ص 246
(85) - نفس المرجع ص 255
(86) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 91
(87) - حول هذا التقسيم انظر : Dr. Kalim Bahadur : The Jamaa't -I- Islami of Pakistan, Political Thought and Political Action p. 146-147
(88) - انظر : Dr. Bahadur p. 13
(89) - Oxford Encyclopedia 2/357
(90) - Dr. Bahadur p. 147
(91) - انظر Dr. Bahadur p. 147
(92) - انظر : Oxford Encyclopedia 2/356
(93) - من بحث تقييمي نشرته الجماعة في موقعها على الإنترنت (www jamaat org) عام 2000
(94) - نفس الموقع والتاريخ
(95) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان ص 143
(96) - Al-affendi : Turabi's Revolution p. 112
(97) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 56
(98) - نفس المرجع ص 63
(99) - نفس المرجع ص 58
(100) - نفس المرجع ص 72
(101) - نفس المرجع ص 46
(102) - نفس المرجع ص 67
(103) - نفس المرجع ص 56
(104) - AL-ffendi : Turabi's Revolution p. 115
(105) - الهاشمي : الحركة الإسلامية في السودان ص 32
(106) - Amat Kurz & Nahman Tal : HAMAS, Radical Islam in a national struggle بحث منشور في موقع "مركز جافي للدراسات الاستراتيجية" على الإنترنت (www.tau.ac.il/jcss/links.html) عام 2000
(107) - Nahman Tal : The Islamic Movement in Israel بحث منشور في نفس الموقع والتاريخ


0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية