الجمعة، 13 فبراير 2015

الحركة الاسلامية في السودان 7/8

الفصل السادس
العلاقة بالسلطة

"ليس العاقل هو الذي يعرف
الخير من الشر ، ولكن هو
الذي يعرف خير الشرين"
عمرو بن العاص

لا تزال العلاقة بالسلطة السياسية معضلة من أكبر المعضلات التي تواجه الحركات الإسلامية عبر العالم . وتتجلى أبعاد هذه المعضلة في أمرين متناقضين :
* واجب مواجهة الحكم الفاسد ، تحريرا للأمة من شروره ، وقياما بالقسط بين الناس .
* وضرورة التعايش معه مرحليا ، أخذا بدواعي المصلحة ، وإقرارا باختلال ميزان القوة .
فالمواجهة بغير عدة انتحار ، والتعاون مع الأنظمة المستبدة الفاسدة يؤثر سلبا على رسالة الحركة ونصاعة خطابها . والترجيح يستلزم فقها خاصا ، مبنيا على إدراك مقاصد الشرع ومناط المصلحة، وفكرا استراتيجيا يحسن الموازنة في ظروف مرنة متغيرة ، طبقا للحكمة التي عبر عنها عمرو بن العاص رضي الله عنه منذ أمد بعيد ، بقوله : "ليس العاقل هو الذي يعرف الخير من الشر ، ولكن هو الذي يعرف خير الشرين" (1) .
وليست الخيارات أمام الحركات الإسلامية متسعة ، نظرا لدكتاتورية الأنظمة القائمة ، ورفضها أي نوع من المنافسة السلمية النزيهة على السلطة ، وتواطئ القوى الاستعمارية في الوقوف أمام المد الإسلامي . لذلك تبدو الخيارات في الأغلب محصورة في أمرين :
*"التعاون مع الأنظمة القائمة ..
* أو القبول بدور المعارضة غير القانونية" (2) .
مخاطر الانتقال المفاجئ
لقد لاحظ "غراهام فولر" - بحق - أن "أحد العيوب الرئيسية في الأنظمة الاستبدادية هو أنها تغلق سبل التجارب السياسية والنضج السياسي أمام الناس . فالإسلاميون بتركيزهم على موضوع الاستيلاء على السلطة رأسا [دون خطوات تمهيدية] لن تكون أمامهم فرصة لتعلم أي شيء عن المسار السياسي نفسه ، بما فيه التفاوض والتنازل ، وصناعة القرار ، وتطوير قواعد إجرائية في ممارسة السلطة" (3) .
لذلك فإن المشاركة هي التي تضمن للحركة تطورا طبيعيا ، وخبرة مناسبة تحتاجها للمستقبل . وأقل ما فيها من ثمرات أنها تخفف من حماس الإسلاميين إذا وصلوا إلى السلطة ، وتجنبهم مساوئ الانتقال المفاجئ ، التي قلما تسلم منها الثورات .
إن الثورة الإيرانية لما حصلت على نصر مفاجئ ، وقُوده الحماس وليس الخبرة ، وانتقلت بإيران من النقيض إلى النقيض ، من الشاه إلى الخميني - دون تمهيد كاف - جرها ذلك إلى ارتكاب أخطاء استراتيجية جسيمة ، لا تزال تدفع ثمنها حتى اليوم .
وسنكتفي بإيراد مثال واحد بسيط من تلك الأخطاء : حينما نشبت أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران - وهي الأزمة التي لم تتعاف إيران من آثارها حتى الآن - سافر الأمين العام للأمم المتحدة حينها "كورت فالدهايم" إلى طهران ، وطلب لقاء الخميني في محاولة لحل الأزمة . لكن الإيرانيين ارتكبوا أخطاء فادحة ضد قائد المنظمة العالمية ، منها :
* الدعاية الإعلامية ضده خلال مقامه في طهران . يقول فالدهايم : "وصفني البث الإذاعي [في طهران] بأنني نصير "الشيطان الأكبر" ، الذي يريد أن يعرف موقف إيران ، كي يتمكن من الدفاع عن مصالح سيده ، وتحديدا الولايات المتحدة" (4) . وليس خفيا أن الإيرانيين أخطأوا في التقدير هنا خطأ فادحا ، فلم يكن فالدهايم نصيرا لأمريكا ، بل كان أكثر قادة المنظمة الدولية إنصافا . ولذلك حاربه الأمريكيون واليهود فيما بعد بضراوة .
* إرغامه على زيارة المقبرة التي تضم شهداء الثورة ، ثم تركه في أيدي غوغاء المتظاهرين الذين كادوا يحطمون سيارته ويقتلونه . وحينما التقى فالدهايم بوزير الخارجية الإيراني قطب زادة بعد تلك الزيارة القسرية الخطرة ، كان الخطأ الثاني . يقول فالدهايم : "قلت له : إنني توقعت سماع كلمة اعتذار ، بسبب عدم توفر الإجراءات الأمنية في المقبرة ، غير أن كل ما قاله قطب زادة في تعليقه على الحادث :"الآن عايشتم تجربة ممتعة حقا" ، ثم راح يضحك في استهزاء" (5) .
* رفْض الخميني اللقاء به ، وتعبير المسؤولين الإيرانيين عن ذلك الرفض بأسلوب غير لائق. وقد كتب فالدهايم عن ذلك قائلا : "أنهيت الجلسة [مع مجلس الثورة] باستفساري عما إذا كنت أستطيع رؤية آية الله خميني ، فقال [آية الله] "بهشتي" بصوت فظ : "لا"" (6). ولا ريب أن ذلك الرفض كان موقفا ساذجا من قادة ثورة غريبة الشكل والمضمون ، كانت في مسيس الحاجة إلى الاعتراف الدولي والسلم الداخلي يومها .
إن هذه المزالق السياسية والدبلوماسية تكشف لنا عن خطورة الوصول إلى السلطة دون خبرة تمهيدية ، وتبين جسامة الأخطاء التي قد تترتب على ذلك .
وحينما يعلن حزب التحرير الإسلامي رفضه للمشاركة في الهيئات الاجتماعية والدينية والتربوية القائمة ، بدعوى الانشغال بإقامة الخلافة الإسلامية (7) فهو إنما يعبر عن عجز قادته عن استيعاب الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشون فيه . فالخلافة لن تقوم بدون تمهيد طويل ، وعمل شاق دؤوب ، وتفاعل مع الواقع في سبيل دفعه إلى الأحسن ، إذ من الواضح أن "المجتمع الإسلامي لم ينزل من السماء مكتملا ، ولا سقط في يوم . إنما بني حجرا حجرا ، وهكذا إعادة البناء" (8) .
على أن المشاركة المطلوبة قد تأخذ شكل "تعاون" محدود ، أو "تعايش" حذر ، أو مزيج من هذا وذاك . فالتعاون في حالة وجود مبادرات عملية من السلطة تخدم الأهداف الاستراتيجية الإسلامية ، بغض النظر عن المقاصد . والتعايش من أجل تفادي الصراعات غير الضرورية أو السابقة على أوانها . وذلك منهج الترابي كما يصفه مكي بقوله : "إن أسلوب الترابي هو الدخول في تحالفات ، تجنبا لأي صراع غير ضروري" (9) .
ومهما يكن التعاون الظاهر فلا ينبغي أن يجعل الحركة تنسى رسالتها الجوهرية ، وهي إيجاد بديل إسلامي للواقع الفاسد . إنها المعادلة الصعبة التي وصفها الدكتور جمال الدين عطية بأنها جمع بين "أسلوب العمل المتاح في ظل الأنظمة ، وأسلوب العمل الرافض لأساس الأنظمة" (10) . وهي المعادلة التي غابت عن بال بعض الحركات الإسلامية ، فلم تميز بين المعارضة والمواجهة ، كما لاحظ الدكتور النفيسي في قوله : "ثمة خلط واضح في صفوف الحركة الإسلامية بين مفهوم المعارضة" للسلطة ، ومفهوم "الصراع" مع السلطة" (11) .
إن عدم شرعية أي نظام سياسي ، لا يعني عدم شرعية أفعاله . فمسألة بناء السلطة تختلف عن مسألة أدائها . وتلك إشكالية عملية حسمها الفكر الإسلامي منذ أمد بعيد ، حينما وجد أهل الخير أنفسهم مضطرين إلى التعايش مع الملك العضوض . ولذلك فإن الشرع المبني على جلب المصالح ودفع المفاسد ، والحياة المعاصرة المتشابكة الأوجه والمظاهر ، يفرضان نوعا من الواقعية السياسية ، التي تتعايش مع الباطل سعيا إلى تغييره ، وتتغاضى عن بعض الشر تجنبا لما هو أشر . على أن لا يأخذ التغاضي عن الظلم - حال العجز عن تغييره - شكل تبرير له ، فذلك أمر لا ترضاه مبادئ الإسلام ، ولا ينسجم مع فلسفة الحركة الإسلامية . والمؤسف أن الحدود بين الأمرين غير واضحة تماما لبعض الناس : فبعض الفقهاء الأقدمين وقع في ورطة تبرير الظلم ، إمعانا في التأكيد على ضرورة التعايش معه ، حال العجز عن تغييره . وبعض الجماعات الإسلامية اليوم تنحو هذا المنحى التبريري . ولعل تجربة حركة "حماس" الجزائرية اليوم غير بعيدة من هذا المنحى ، حيث طغت الاعتبارات الشخصية والحزبية لدى الشيخ محفوظ نحناح على المبادئ الإسلامية بكل أسف .
كانت هذه المعطيات الفكرية والعملية حاضرة في تجربة الحركة الإسلامية في السودان ، فاعتمدت منهجا إيجابيا في العلاقة بالسلطة ، اختلفت صور التعبير عنه من المواجهة الشعبية إلى التحالف الوثيق ، ومن الغزو الخارجي إلى الاختراق الداخلي ، ومن منابر البرلمانات والجامعات إلى ثكنات الجيش والأمن . وفي كل هذه الأحوال ظل منهج الحركة مطبوعا بالجرأة والواقعية والمرونة . وقد أوردنا نماذج من ذلك - في الفصل الخامس - خلال الحديث عن تعامل الحركة مع الجيش ، الذي هو في ذات الوقت تعاملها مع السلطة ، إذ حكم العسكر السودان حقبا متعددة من فترة ما بعد الاستقلال . ونحتاج إلى تناوله هنا بشكل أكثر تحديدا وتفصيلا ، مشيرين إلى أهم المحطات في هذا الشأن ، ثم مسهبين في الحديث عن تحالف الحركة مع النميري في الأعوام الثمانية الأخيرة من حكمه ، لأنه من أهم القرارات الاستراتيجية وأصعبها في تاريخ الحركة . وهو القرار الذي حدد مصيرها فيما بعد ، وقادها إلى التمكين .
يمكن إجمال أهم المحطات في مسار علاقات الحركة الإسلامية في السودان بالسلطة السياسية فيما يلي :
* بدأ أول احتكاك جدي للحركة بالسلطة نهاية العام 1959 حين انكشفت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي دبرها المرشد العام للحركة يومها - الرشيد الطاهر - ضد حكم الجنرال عبود . وربما نبه هذا الحادث السلطة لأول مرة ، إلى أنها أمام حركة سياسية طموحة، لا مجرد هيئة أخلاقية وتربوية ، كما كان الانطباع السائد يومذاك .
* ثم شاركت الحركة بفعالية في الانتفاضة الشعبية التي طوحت بالجنرال عبود عام 1964 وكان من ثمرات ذلك أن "مُثِّلت في حكومة اكتوبر الانتقالية الأولى - 1965 - حيث مثلها المرحوم الشهيد محمد صالح عمر في وزارة الثروة الحيوانية ، ثم في حكومة اكتوبر الانتقالية الثانية التي مثلها [فيها] المرحوم الأستاذ الرشيد الطاهر" (12) .
*"وحينما وقع انقلاب 25 مايو 69 بقيادة الرئيس النميري وحلفائه من اليساريين ، مثلت الفترة من 69-77 الانتقال إلى نوع من التواصل مع السلطة ، قام على المعارضة والمقاومة بالكلمة والمنشور والمظاهرة والعمل الشعبي الذي بلغ مداه في انتفاضة شعبان "سبتمبر 73" ، وانتهى إلى ذروته في العمل المسلح في حركة يوليو 76 ..
* ثم أصبح للعمل السياسي والتواصل السلمي أولوية ، ابتداء من خواتيم عام 77 مع المصالحة الوطنية . والتي انتهت إلى شكل من أشكال التحالف مع نظام الرئيس نميري لفترة ، بداية من 78 إلى فبراير 1985" (13) . وانتهت هذه المرحلة بانقلاب النميري على حلفائه الإسلاميين ، والزج بهم في السجون .
ومرحلة النميري هذه هي التي سنركز عليها بالتحليل هنا .
في البدء كانت المواجهة
استحوذ النميري على السلطة في شهر مايو 1969 ، ضمن تشكيلة من الضباط ، أغلبهم من اليساريين والقوميين العرب والشيوعيين . وانتهجت الحركة الإسلامية نهجا تصادميا مع السلطة العسكرية الجديدة بقيادة النميري منذ أيامها الأولى ، لسببين :
*"أن المشروع الحضاري للانقلابيين يعاكس اسما ورسما المشروع الإسلامي ، ويجعل هناك استحالة مادية ، ليس فقط في تنفيذ المشروع ، ولكن كذلك في عرضه والسير به .
* صادر المشروع الانقلابي حق الحركة الإسلامية في العمل والدعوة ، واتجه بالسودان صوب الاشتراكية العلمانية ، وفتح البلاد أمام التحرك الشيوعي" (14) .
وكان النميري - أول عهده - مفتونا بالتجربة الناصرية بمصر ، ميالا إلى الفكر اليساري ، فسمى مجلسه العسكري باسم "الضباط الأحرار" ، وأسس "اتحادا اشتراكيا سودانيا" يطمح إلى احتواء القوى السياسية الأخرى ، على طريقة "الاتحاد الاشتراكي العربي" الذي أسسه عبد الناصر ، وأصدر كتابا باسم "الميثاق الوطني" "وقد جاء "الميثاق" على شاكلة "فلسفة الثورة" لجمال عبد الناصر ، ولكنه تميز بالإسهاب والتطويل ، كما تبنى الطرح الماركسي في العرض والتحليل والإيقاع" (15) .
وكان النميري أول رئيس سوداني فتح الباب أمام المستشارين السوفييت (16) . "وبلغ ذلك [التوجه اليساري] قمته في احتفال البلاد بالعيد المئوي لميلاد لينين ، في إبريل 1970" (17) . ولم يكن النميري أول عهده يخفي عداءه للإسلاميين السودانيين ، بل صرح بذلك علنا في مقابلة مع جريدة "لموند" الفرنسية ، شهورا بعد استيلائه على السلطة (18) .
وبذلك نفهم لماذا كانت الحركة الإسلامية أُولى القوى السياسية وقوفا في وجه سلطة مايو ، بل القوة الوحيدة في البدء ، حيث "مضت أيام الانقلابيين هادئة ، بعد أن سيطروا على الشارع السياسي الذي لم يعكر صفوه غير مقاومة الإسلاميين ، الذين ساندهم كذلك شباب حزب التحرير" (19) .
وحينما بدأت ملامح مقاومة شعبية للنميري تتحدد ، بقيادة الإمام الهادي المهدي زعيم الأنصار وقائد حزب الأمة حينها ، بادرت الحركة الإسلامية إلى الانضمام للمقاومة الجديدة . وبذلك زاد الاستقطاب ، وتمايزت الصفوف ، وانقسمت القوى السياسية إلى معسكرين :
* معسكر المقاومة الشعبية ، الذي انضوت تحت لوائه القوى السياسية المتدينة ، سواء القديم منها متمثلا في حزب الأمة ، أو الجديد متمثلا في الحركة الإسلامية .
* ومعسكر القوى اليسارية العلمانية التي اشتركت في انقلاب النميري ، أو انضمت إليه فيما بعد ، لأسباب أديولوجية وسياسية ، وأهم هذه القوى الحزب الشيوعي السوداني .
وقد استغل الشيوعيون هذا الاستقطاب ، وتلك الميول لدى النميري "واجتهدت عناصر اليسار في السلطة لتصوير معركة النظام بأنها موجهة في الأساس ضد الحركة الإسلامية ، وأكسبت برنامج النظام خصوصية اجتثاث الحركة الإسلامية من جذورها ، وتصفية رموزها" (20) .
وكانت المنازلة الكبرى في جزيرة (أبا) معقل الأنصار عام 1970 ، بين القوات الحكومية من جهة ، وقوات الأنصار مدعومة بالحركة الإسلامية من جهة أخرى . وأسفرت المعركة عن مجزرة رهيبة ، ارتكبتها قوات النميري في ظروف اختلال كبير لموازين القوى . وقتل الإمام الهادي قائد الأنصار، والدكتور محمد صالح عمر قائد الحركة الإسلامية في الجزيرة .
ولأن عبد الناصر كان مغتبطا بوجود ظهير خلفي له في السودان ، فقد ساند النميري في معركته ضد القوى الإسلامية في الجزيرة ، كما ساندتها ليبيا التي كانت ظهيرا آخر لعبد الناصر . وهكذا "لم تكن القاهرة بعيدة عما يجري في الخرطوم ، حيث أرسلت نائب الرئيس المصري محمد أنور السادات للخرطوم لمتابعة الموقف ، كما أرسلت ليبيا عددا من طائراتها للمشاركة في المعركة باعتبارها "معركة فصائل حركة الثورة العربية ، ضد مواقع العمالة والرجعية"" (21) .
ولم يكتف النميري بسحق البنية العسكرية للمعارضة ، بل زج بقادتها الذين وقعوا تحت يده في السجون ، بمن فيهم قادة الحركة الإسلامية الذين كان لهم نصيب الأسد من ذلك . ومكث الترابي وزملاؤه في سجون النميري حوالي سبع سنين ، لفترات مختلفة .
كانت مذبحة جزيرة (أبا) درسا مريرا للحركة الإسلامية وللأحزاب التقليدية على حد سواء ، أقنعتها بأن الانتفاضات الشعبية لا تستطيع الصمود أمام كثافة نيران جيش نظامي ، توجهه قيادات يسارية دموية . فبدأت تلك القوى تنقل مواقعها إلى الخارج ، استعدادا لجولة جديدة من المنازلات مع النميري والشيوعيين .
تمركزت المعارضة بعد مأساة الجزيرة (أبا) في معسكرات في أثيوبيا أولا ، ثم في ليبيا بعد ذلك ، حينما ساءت العلاقة بين القذافي والنميري ، ومن تلك المعسكرات انطلقت محاولات غزو عديدة، لم يتكلل أي منها بالنجاح . كانت آخرها محاولة 2 يوليو 1976 الشهيرة التي تحدثنا عنها في الفصل الخامس .
وبقدر ما أضعفت انتفاضة الجزيرة (أبا) قوات المعارضة - بما فيها الحركة الإسلامية - فقد أفادت نظام النميري ، وغطت على تناقضاته الداخلية ، وعلى الصراع الدائر في أحشائه بين القوى اليسارية والقومية والمستقلة ، و"كان الشيوعيون مدركين لأبعاد التناقض بين سلطة الضباط ومختلف فصائل اليسار ، ولكنهم رأوا من الحكمة تأجيل خلافهم مع سلطة الضباط ، باعتبار أن التناقض الرئيسي إنما يكمن بين مجمل حركة السلطة الثورية وتجمع المعارضين في الجزيرة (أبا) " (22) . كما أن مصر عبد الناصر ساعدت على إيجاد نوع من التعايش بين القوى المكونة لسلطة نميري "وسعت لاحتواء أي سوء تفاهم بين التركيبة اليسارية الحاكمة" (23) . لكن التصفية العسكرية للمعارضة ، فتحت الباب أمام بروز الصراع الداخلي من جديد "ولئن وحد خطر التحالف الإسلامي الوطني ما بين نظام الضباط وفصائل اليسار ، فإن زوال ذلك الخطر أدى إلى انتقال المجابهة إلى ما بين أركان النظام وفصائله" (24) .
المفاصلة مع الشيوعيين
لم يكن النميري يساريا عقائديا ، بقدر ما كان رجلا قُلَّباً ، مفتونا بالتجارب المصرية . ولذلك تسابق مع عبد الناصر في تطبيق الاشتراكية والتقرب من السوفييت ، كما تسابق مع السادات - فيما بعد - في تطبيق الرأسمالية والتقرب من أمريكا .
وكانت سياسة النميري مع حلفائه الشيوعيين تعتمد منهج الاحتواء ، وقد عول على صلته القوية مع السوفييت لتحقيق ذلك ، كما حققه عبد الناصر من قبل . لكن الحزب الشيوعي السوداني لم يكن من السهل هضمه آنذاك ، فهو حزب قوي تنظيميا ، يملك قوة طليعية وجماهيرية كبيرة يخشاها كل حاكم ، ويطمح إلى دعمها . وقد كان تقدير حكومة النميري يذهب إلى أن "عدد أعضاء الحزب العاملين بلغ عشرة آلاف عضو ، أما أنصار الحزب فكان الحزب نفسه يقدرهم بنحو المليون شخصا" (25) . ويعترف الإسلاميون السودانيون في تلك الفترة بـ"نفوذ الشيوعيين وسط المثقفين والمتعلمين، ودقة تنظيمهم ، وقوة إعلامهم" (26) كما يعترفون للحزب "بامتداداته النقابية والمهنية ، وخبرته السياسية" (27) . وكان للحزب الشيوعي حضوره في مجلس قيادة الثورة الحاكم ، متمثلا في الضباط هاشم العطا وبابكر النور وفاروق حمد الله ..
وحينما سحق النميري المعارضة الإسلامية والوطنية في الجزيرة (أبا) مارس 1970، اتجه إلى توثيق الصلة بالقوى اليسارية - المشاركة أصلا في سلطته - في محاولة للاستظهار بخبرتها التنظيمية وامتدادها الجماهيري في بناء قاعدة سياسية له ، ضمن "الاتحاد الاشتراكي السوداني" الذي أسسه في شهر مايو 1971. وكان الحزب الشيوعي أهم تلك القوى كما رأينا ، ولذلك حرص النميري على دمجه في مشروعه السياسي . لكن المعادلة لم تكن سهلة أمام الشيوعيين :
* فهم إما أن يختاروا التحالف مع النميري ، وفي ذلك خطر حل تنظيمهم ، واحتواء قاعدته ضمن "الاتحاد الاشتراكي السوداني" ، كما فعل عبد الناصر بالشيوعيين المصريين الذين امتصهم في "اتحاده الاشتراكي العربي" .
* وإما أن يرفضوا ذلك ، بما يترتب عليه من خسارة لمواقعهم في القيادات العليا ، وتصفية الحزب بالعنف ، كما تمت تصفية القوى الإسلامية والوطنية . فقد برهن النميري أنه لا يتردد في تصفية خصومه السياسيين .
ونظرا لدقة الاختيار هنا بين أمرين أحلاهما مر من وجهة نظر الشيوعيين ، فقد انقسمت قيادة الحزب إلى جناحين :
* جناح عبد الخالق محجوب - الأمين العام للحزب - ورفاقه من الماركسيين العقائديين ، الذين رفضوا أي تعاون مع النميري من شأنه دمج الحزب الشيوعي في "الاتحاد الاشتراكي السوداني" . وقد "كان لعبد الخالق محجوب ومجموعته منطقهم وفهمهم ، إذ القبول بصيغة التنظيم الواحد وحل الحزب [الشيوعي] سيدخلهم في متاهات النفق المظلم الذي دخلت فيه الحركة الثورية المصرية : إذ حينما حل الحزب الشيوعي [المصري] نفسه فداء لنجاح تجربة عبد الناصر ، لم يبق أمامه إلا الهامش الذي يسمح به عبد الناصر وسط تداخلات أمنية ودولية وإقليمية" (28) . وقد رفض عبد الخالق محجوب هذا الأمر بشدة ، وعلل رفضه بأسباب عقائدية في أساسها ، حيث أشار محجوب إلى أن في السلطة اتجاها "يحاول عمليا أن يطرح نظرية الثورة السودانية من غير الحزب الشيوعي ، بل لحله عمليا ، تكرارا لتجربة الشيوعيين في الجمهورية العربية المتحدة" (29) . وعبر عن خشيته من طموح النميري إلى "تكوين نظرية كاملة ، تدعو إلى الاستغناء عن التنظيم المستقل للشيوعيين أو فقدانه لفعاليته" حسب تعبيره (30) . لكن عبد الخالق محجوب أهدر المكاسب التكتيكية المترتبة على خيار التحالف مع النميري ، حيث كان سيخدم الشيوعيين السودانيين ، ويضمن لهم الاستيلاء على السلطة في فترة وجيزة : فالنميري قريب منهم أديولوجيا ، ولهم وجود قوي في النقابات، ووجود أقوى في الجيش . ولم يكن النميري ليطلب منهم أكثر مما طلب من الإسلاميين فيما بعد ، وهو حل تنظيمهم ، وكان في وسعهم أن يجاملوه ببعض المظاهر . لكن قائد الحزب الشيوعي كان أسيرا لتصلبه الأديولوجي ، وجموده السياسي ، ومطامحه الشخصية.
* جناح فاروق أبو عيسى وجماعته من أعضاء قيادة الحزب الشيوعي ، الذين رأوا التحالف مع النميري - مهما كان ثمنه - أفضل للحزب ، وأقرب إلى تحقيق مساعيه السياسية والاجتماعية . وتمت تسمية هؤلاء فيما بعد بالتيار الانقسامي . وقد "صدر بيان ممن عرفوا بالتيار الانقسامي في أكتوبر 1970 وقعه اثنا عشر عضوا من أعضاء اللجنة المركزية [للحزب الشيوعي السوداني] … وقد أدان البيان سياسات عبد الخالق ، وطالب بتصحيح الخط اليساري المغامر الذي وضع الحزب في مواجهة السلطة الثورية القائمة" (31) . ويبدو أن السوفييت كانوا مدركين لخطورة منهج التصلب على مستقبل الحزب الشيوعي ، وعلى نفوذهم في المنطقة "لذا فقد وصل في 24 مارس 1971 وفد سوفياتي لمحاولة توحيد الحزب، ومصالحته مع نظام الضباط" (32) . ومن الواضح أن هذا الجناح - ومن خلفه السوفييت - كان أوعى بلعبة السياسة وتداخلاتها من عبد الخالق محجوب ، الذي طغت الاعتبارات الشخصية والأديولوجية على تفكيره ، ولم يحسن إدراك المعطيات السياسية القائمة ، والمسار المستقبلي الآتي . وهو ما لاحظه مكي في قوله : "يبدو أن الذي أسهم في تصعيد الصراع [بين النميري والشيوعيين] تنمية عبد الخالق محجوب شخصية مشاكسة ومتعالية على قيادة نظام الضباط .. إذ كان عبد الخالق محجوب ينظر لنفسه بوصفه الباذر لبذرة الفكر الاشتراكي في السودان ، وأن الجميع عيال عليه في ذلك ، وأنه وصل إلى موقعه عبر معاناة فكرية وسياسية وتنظيمية استغرقت كل شبابه ، ولم تأت بمجرد مغامرة عسكرية" (33) . وربما نضيف إلى ذلك إحساس الضباط الشيوعيين بالمرارة والغبن ، وهم يعتبرون أنهم جاءوا بالنميري إلى السلطة ، حيث يذكر منصور خالد أن الضابط الشيوعي فاروق حمد الله هو الذي اقترح اسم النميري ، لقيادة الانقلاب ، معللا ذلك بأن النميري لا يدين بأية أفكار أو أديولوجيات (34) مما سيجعل مختلف الضباط يقبلونه . وتلك لعبة "الجبهات" التي أغرم بها الشيوعيون في كل زمان ومكان . لذلك كان من العسير على عبد الخالق محجوب أن يقبل بأقل من موقع متميز لحزبه - ولشخصه - في قيادة الحكم اليساري الذي يترأسه النميري . كما كان ذلك عسيرا على الضباط الشيوعيين ، وهم يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق الشرعي في الانقلاب .

وبدلا من انضواء الشيوعيين تحت مظلة "الاتحاد الاشتراكي السوداني" ، الذي كان سيضمن لهم مزيدا من التغلغل داخل الأجهزة الحيوية في الدولة ، ويمكنهم من زمام الأمور بعد نضج الظروف، اتجهت العلاقة بين الطرفين وجهة مغايرة . "وفي 25 مايو 1971 ، وبمناسبة احتفالات الذكرى الثانية لقيام ثورة مايو الاشتراكية ، حسم الرئيس نميري القضية التي طالما شغلت الشيوعيين - وهي : "تنظيم سياسي واحد ؟ أو سلطة تحالف قوى جبهة ثورية عريضة؟"- بإعلان الشروع في قيام "الاتحاد الاشتراكي السوداني" حزبا سياسيا واحدا في السودان ، وتكوين لجنة عشرينية برئاسته لإنجاز ذلك . وقد عنى ذلك عمليا عدم وجود مكان أو خصوصية للحزب الشيوعي السوداني في مستقبل نظام الضباط" (35) . وكان ذلك إيذانا ببداية المفاصلة بين حلفاء الأمس . وكان النميري قد عاجل القادة الشيوعيين بضربة وقائية ، فأقال ضباطهم من مجلس الثورة ، وزج بعبد الخالق محجوب في السجن ، قبل أسبوع من إعلان تأسيس "الاتحاد الاشتراكي السوداني" . وربما كان النميري قد تشجع على تلك الخطوة اقتداء بالسادات : إذ "قام السادات في الفاتح من مايو 1971 بتطهير أبرز أركان الوجود الروسي في نظامه … وفي 17 مايو أوقفت الحكومة السودانية نشاطات الحزب الشيوعي الشبابية ، واعتقلت بعض قادته … "(36). لكن عبد الخالق هرب من السجن واختفى في السفارة البلغارية في الخرطوم ، ومن هناك بدأ الإعداد للانقضاض على السلطة بواسطة الجناح العسكري لحزبه . وهكذا جاءت المحاولة الانقلابية يوم 19/7/1971 التي نفذها زمرة من الضباط الشيوعيين بقيادة الرائد هاشم العطا، بعد شهرين فقط من تاريخ تأسيس "الاتحاد الاشتراكي السوداني " تعبيرا عن رفض الحزب لمسار التحالف . وكانت تلك المحاولة - بما صاحبها من ارتباك وأخطاء عملية - انتحارا للحزب الشيوعي السوداني ، وتحطيما لكل إمكانات التفاهم أو التعايش مع النميري . وقد تناولنا ذلك الانقلاب بالتقييم العملي في نهاية الفصل الأول .
لقد استفادت الحركة الإسلامية من فشل الشيوعيين في التحالف مع النميري ، ومن المحاولة الانقلابية التي دبروها ، مكسبيْن استراتيجيين :
* أولهما أن النميري استأسد على الحزب الشيوعي السوداني ، وشنق أهم قادته المدنيين - بمن فيهم الأمين العام عبد الخالق محجوب - وأعدم قياداته العسكرية . وبذلك حطم النميري أكبر عدو استراتيجي للحركة الإسلامية ، وأزاح أكبر عائق أمام مشروعها السياسي . ولاحظ ذلك "فرانسيس دينغ" فقال "لقد محا النميري الحزب الشيوعي من الخارطة السياسية السودانية ، وكان من آثار ذلك أن أصبح الإخوان المسلمون القوة السياسية الوحيدة القادرة على تحدي الأحزاب التقليدية" (37) . وقد كانت الحركة الإسلامية واعية دائما بمخاطر التحالف المحتمل بين الشيوعيين وقيادة ثورة النميري ، وبذلت بعض الجهود للتخذيل بينهم ، لكن دون نجاح . وضمن تلك الجهود "قرر الاتجاه الإسلامي [في جامعة الخرطوم] إقامة ندوة بعنوان :"الشيوعيون وسرقة الثورات" .. توجس الشيوعيون من الندوة ، وأحسوا بأنها قد تفتح ملف قضية علاقاتهم بالسلطة ، وتكشف الصراع الخفي الخطير الذي يدور بين فصائل اليسار والضباط الذين استلموا السلطة . وكان الشيوعيون يتوجسون من ازدياد وعي الضباط بمقتضيات هذا الصراع ، مما يؤدي إلى إضعاف دورهم في تسييرها ، لذا قرر اليسار الطلابي إيقاف الندوة ، وافتعال سلسلة من المعارك تؤدي إلى حسم الوجود التنظيمي للاتجاه الإسلامي" (38) وقد نجح اليسار في ذلك بتمالئ من السلطة آنذاك . لكن بقضاء النميري على القوة الشيوعية ، زال خطر ذلك التحالف المخوف.
* وثانيهما أن النميري المذعور من الانقلاب الشيوعي تحول من النزعة اليسارية إلى التوجه الإسلامي فجأة ، إمعانا في استئصال الشيوعيين ، واحتياطا في الدفاع عن سلطته . صحيح أن ذلك التحول الذي تبناه النميري كان تعبيرا عن موقف سياسي لا فكري ، كما لاحظ "مورتينر" فقال : "لم يكن الرئيس النميري من حيث المبدإ أقرب ودا للإخوان أو الأحزاب الإسلامية الأخرى من عبد الناصر . لكن صراعه مع الشيوعيين الذين كادوا يطيحون به عام 1971 دفعه إلى تبني شكل إسلامي لحكمه أكثر فأكثر" (39) . لكن ذلك لم يكن ليقلل من ثمار ذلك التحول عمليا ، بالنسبة للحركة الإسلامية . وقد اتضح ذلك بعد فشل الانقلاب الشيوعي مباشرة حينما "قام النميري بمقابلة د. حسن الترابي في معتقله بكسلا .. انتهت المقابلة إلى إفراج جزئي عن القيادة العليا للحركة الإسلامية ، فأحيل الترابي وصادق عبد الله عبد الماجد ويس عمر الإمام إلى الحبس المنزلي ابتداء من بدايات العام 1972 ، كما تم الإفراج عن عشرات من القيادات الوسيطة … وفي نوفمبر 1972 تم إطلاق سراح د. حسن الترابي ويس عمر الإمام وصادق عبد الله عبد الماجد من الحبس المنزلي " (40) . دواعي المصالحة
ومع هذه التطورات المهمة في الداخل ، بدت الأمور في الخارج مرهقة ، نظرا لضعف الثقة بين الشركاء في الجبهة الوطنية المتمركزة عسكريا في ليبيا ، وسياسيا في لندن .
وهكذا بدأت العوامل الداخلية والخارجية تتعاضد لتصب في اتجاه المصالحة : ففي الخارج كانت الجبهة قد بدأت تتآكل ، وفي الداخل انهار التحالف العسكري اليساري .
وفيما يلي عرض لأهم الحيثيات والملابسات التي قادت كلا من الحركة الإسلامية ونظام النميري إلى التفكير في المصالحة :
* كانت الحركة قد تعبت من التعلق بأذيال الأحزاب التقليدية ، والمراهنة عليها في محاولة إسقاط النميري ، وأدركت أن الطريق أمامها مسدود ، إلا إذا تبنت استراتيجية مغايرة . وهكذا "بعد أن أخفقت الحركة الإسلامية السودانية - المتحالفة مع جماعات المعارضة الأخرى - في إسقاط حكم النميري طوال الفترة (69-1977) تحولت الحركة بذكاء للتعاون مع النظام والعمل من داخل مؤسساته، بعد أن تبين لها أن استمرار العمل السري والكفاح من المنفى يفوت على الحركة تحقيق مكاسب سياسية مهمة هي في أشد الحاجة إليها" (41) . وقد رأينا كيف انتهت محاولة الغزو يوم 2 يوليو 1976 بفشل عسكري ذريع .
* وأحس الإسلاميون السودانيون أن العمل العسكري في تقلص ، فقد"استنفد النزاع المسلح القوة العسكرية للجبهة الوطنية" (42) وبدأت قوتها العسكرية في التراجع ، بعد أعوام من الحشد والمواجهة ، كما "أخذت احتمالات الهيمنة الأجنبية [= ليبيا وإثيوبيا] على الجبهة الوطنية في الازدياد" (43) وهو أمر يفقدها رسالتها في نظر الإسلاميين ، ويلغي أي مبرر للمراهنة على عملها العسكري الذي قد تقطف ثماره القوى الخارجية الداعمة . إضافة إلى أن تجاوز الجبهة لآثار نكسة 2 يوليو 1976 لم يكن أمرا قريبا في المدى المنظور . "وفي معتقل "دبك" اجتمع معتقلو الإخوان ووصلوا إلى قناعة بأن القيام بحركة [عسكرية] جديدة من قبل الجبهة الوطنية يتطلب على الأقل ثلاث سنوات من الإعداد والجهد ، كما لاحظوا بأن تجربة الإخوان مع الجبهة كانت غير سعيدة ، وانتهوا إلى حاجة الإخوان إلى هدنة قصيرة مع النظام، ووصل الإخوان المعتقلون في [سجن] "كوبر" إلى ذات الخلاصة" (44) .
* وكانت أعوام المواجهة مع النميري قد أضرت بالعمل الحركي الداخلي إضرارا بالغا ، وأثرت تأثيرا سيئا على تطور الحركة ونموها داخل المجتمع "فحسب إشارات التقارير الواردة للقيادة الإخوانية عن واقع العمل الإسلامي المتقلص ، فإن منطق الأشياء الداخلية في التنظيم كان يستدعي إجراء هدنة مع النظام : إذ تناقص عدد الإخوان وسط طلاب المدارس من نسبة 15% عام 1969 إلى 6% في عام 1977 ، كما أن معظم الفعاليات الإخوانية أصبحت إما في السجن ، أو مشردة خارج السودان ، أو مقبوضة اليد واللسان نسبة لظروف الكبت والقهر ، مما شكل ضغطا على الحركة . بالإضافة إلى ضغوط الأسر على التنظيم والعضوية [=الأعضاء] طلبا للعون ، أو لمعرفة مصائر ذويهم ، وكان منهم من استشهد دون علم أهله" (45) .
* أدركت الحركة الإسلامية أن التبعية للأحزاب لن تفيدها أكثر من المشاركة في إزاحة نظام لا تملك بديلا عنه ، فيكون أبناؤها وقود معركة يقطف الآخرون ثمارها . "وابتداء من عام 1978 ، واعتبارا بتجربة الجبهة الوطنية ، أخذت الحركة تعول في إقامة دولتها على قوة الحركة الذاتية" (46) . واقتنع الإسلاميون السودانيون بعد أعوام من التبعية للأحزاب التقليدية أن "عليهم بناء موقعهم الخاص في الحياة السياسية" (47) . فكان لا بد للحركة أن تسلك طريقها الخاص لتحقيق أهدافها الخاصة ، وأن لا تعول كثيرا على القوى السياسية الأخرى . وجاءت المصالحة أول خطوة استقلالية في هذا السبيل .
* ولاحظت الحركة تسابق قيادات الجبهة الوطنية المعارضة على التصالح مع النميري من ورائها "فبينما الإخوان يتدارسون بصورة أكاديمية [=نظرية] مغزى محاولة مهادنة نظام نميري، إذ بهم يفاجأون بخبر لقاء الصادق [المهدي] بنميري في بورتسودان في 7 يوليو 1977"(48) ذلك اللقاء الذي لم يستشر فيه الصادق المهدي حلفاءه ، فكان طعنة لهم من الخلف ، هدمت آخر ما تبقى من الثقة - المهزوزة أصلا - بين مكونات "الجبهة الوطنية". "وبعدها أصدر د. الترابي في سبتمبر 1977 بيانا أعلن فيه فض "الجبهة الوطنية" . ويبدو أن الترابي لجأ لإعلان فض الجبهة الوطنية ، لأنه أحس بأن قيادة الجبهة الوطنية [=الصادق المهدي] تستخدم اسم "الجبهة الوطنية" لتسجيل امتيازات لحزبها ، كما أنها حرمت تنظيم الإخوان من عائد غنائم الجبهة من سلاح ومال ، كما أن تاريخ العمل المشترك في الجبهة الوطنية أظهر أن قيادات الجبهة غير ملتزمة بميثاق الجبهة ، وكانت تسعى لعزل الإخوان … لذا فقد رأت القيادة الإخوانية أنه من الأفضل أن يستقبل كل الشركاء أمر الواقع السياسي الجديد كل على حدة : قوى مستقلة لها وجودها وكسبها" (49) . فلم يعد لدى الحركة الإسلامية ما تخسره في شأن الجبهة ، وأحست أنها أصبحت في حل من التزاماتها معها .
* أما النميري فقد أدرك أخيرا أن البقاء بدون سند سياسي أمر متعذر ، بعدما تكثفت محاولات الانقلاب عليه في الداخل ، وهجمات الأحزاب من الخارج . وقد قدر بعض الكتاب الغربيين محاولات الإطاحة بالنميري بعشر محاولات في الأشهر العشرة الأولى من حكمه فقط (51) و"تدعي قوى أمن النميري أنها أحبطت تسع محاولات انقلابية في ستة أشهر، خلال العام 1970" (51) . بينما أشار مكي إلى "أربع مواجهات دموية، وثلاث عشرة محاولة انقلاب عسكري" (52) في الأعوام الأربعة الأولى من حكم النميري . ومهما يكن أي من التقديرات الثلاثة دقيقا ، فهو كاف - على أية حال - لجعل النميري يفكر في الاستظهار ببعض القوى السياسية ، والتصالح مع البعض الآخر ، تخفيفا للضغط على عرشه المتصدع . وكان لا بد أن يفكر النميري في بديل عن الشيوعيين الذين رفضوا التجاوب مع مساعيه ، ثم حاولوا الانقلاب العسكري عليه ، وهم أقرب شركائه السياسيين . ويبدو أن محاولة الجبهة الوطنية إسقاط النميري في يوليو 1976 - رغم فشلها العسكري - خلف أثرا عميقا على نفسيته . لذلك يعتقد مكي أن من ضمن الأمور التي قادت إلى المصالحة "ضعف النظام المايوي وتبدُّد غروره ، بعد بروز قوة الجبهة شعبيا في شعبان ، وعسكريا في يوليو .. " (53) ولم يكن أمامه حليف قادر على مقارعة الأحزاب التقليدية ومزاحمتها على قواعدها - بعد انهيار الحزب الشيوعي السوداني - سوى الحركة الإسلامية . وسنبين فيما بعد كيف أفلحت الحركة فيما فشل فيه الشيوعيون .
*وربما "كان النميري متأثرا بسياسة التعايش التي انتهجها السادات مع الإخوان في مصر مطلع السبعينات" (54) وهو الرجل الذي كان يدور مع السياسة المصرية حيثما دارت . فرغم التناقضات والتحولات الكبرى التي مرت بها السياسة المصرية داخليا وخارجيا ، فإن النميري ظل وفيا لها ، ملتزما بالسير معها أينما سارت : من اشتراكية عبد الناصر إلى رأسمالية السادات ، ومن التحالف مع السوفييت - على طريقة ناصر - إلى التحالف مع الأمريكيين على طريقة السادات . ومن استئصال الإسلاميين بالتعاون مع الشيوعيين كما فعل ناصر ، إلى التفاهم مع الإسلاميين لاستئصال الشيوعيين كما فعل السادات . ومن إعلان الحرب على إسرائيل - عبر لاءات الخرطوم الشهيرة - أيام ناصر ، إلى التواطئ معها في تهجير "الفلاشا" تجاوبا مع "كامب ديفيد" السادات . وقد رأينا كيف تشجع النميري على ضرب الحزب الشيوعي السوداني ، بعد أسبوعين فقط من طرد السادات الخبراء السوفييت . وهو أمر قد ينطبق على تقرب النميري من الإسلاميين .
عوامل نجاح المصالحة
ويمكن إجمال أهم الأسباب التي أدت إلى نجاح الحركة الإسلامية في صلحها مع النميري ، وجنْيها ثمرة ذلك ، فيما يلي :
أولا : الاستعداد الفكري المسبق
لقد كانت الطبيعة الإيجابية التفاؤلية التي تتسم بها الحركة الإسلامية في السودان ، ومنهج التوكل والإقدام الذي تتبناه ، خير معين لها على تجاوز العقدة السياسية التي ضيعت على حركات إسلامية أخرى فرصا عظيمة . فتجاوزت الحركة السودانية النظرة التشاؤمية إلى السلطة ، والحكم عليها بأنها شر مطلق يتعين الابتعاد منه ويجب توقيه . ففي مجال العمل السياسي لا مجال للفكر الإطلاقي ، ولا وجود لخير مطلق وشر مطلق ، وإنما يتعين التفاعل مع الموجود خيرا وشرا، والموازنة ما بين المصالح والمفاسد جلبا ودفعا . وقد تبنت الحركة الإسلامية في السودان هذا النهج الواقعي ، فأصبحت "واحدة من مسلمات العمل الإسلامي [في السودان] أن فوز الحركة الإسلامية بنصيب من السلطان ضرورة لنقل قيم الدين المجردة من مبادئ عامة إلى برامج ومتطلبات" (55) . وفي حالة النميري بالذات لم يكن من السهل تجاوز ماضي الصراع معه "نظرا لثأرات الحركة من تلقائه: ظُلامات في الأموال والحريات والعروض والدماء" (56) ومنها دماء شهداء الحركة الذين قصفهم طيران النميري والقذافي في جزيرة (أبا) . بيد أن الحركة أخذت العبرة من تجارب حركات إسلامية أخرى جمدها القمع والاضطهاد ، لذلك فإنها "قليلا ما انفعلت بتجربة السجون والاضطهاد ، أو جمدت في ذكريات الفتنة ، بما يدعوها إلى الإصرار على العداوة والثأر ، وشفاء الغيظ ، وتصفية الحساب ، بل تجاوزت الماضي بيسر ، وأقبلت على المستقبل بخاطر مطمئن ، مقدِّرة أن الخير في أن تستكمل شوطا من الصبر الجميل والمجاهدة الصادقة ، بشوط من الدعوة بالحسنى والعمل الإيجابي المباح" (57) . فليس الصبر على المحنة والاضطهاد وحده هو مناط التكليف والابتلاء ، وإنما يأتي الابتلاء بالخير والشر معا ، وما على المؤمن إلا أن يقبله بوجهيه : "ونبلوكم بالخير والشر فتنة وإلينا ترجعون" (58) "وقديما شارك يوسف عليه السلام في إدارة الشؤون العامة لتحقيق مصلحة في رعاية تموين العباد لا تتحقق ببقائه في السجن، بينما كان قد آثر السجن على الفتنة المحتومة . فاللبيب من عرف متى تكون مشاركته فتنة عليه بغير جدوى لحركة تغيير المجتمع نحو الإسلام فيعتزل ، وكيف تكون إصلاحا للمجتمع وتثبيتا لنفسه فيُقبِل"(59) .
ثانيا : تجاوز طور النشوء
لم تعتمد الحركة السودانية خيار التحالف مع النميري إلا بعد أن تجاوزت طور النشوء ، ودخلت طور النضج . وقد أحسنت في ذلك ، لأن التحالفات السياسية بالنسبة لحركة ما تزال ناشئة خيار خطر ، كثيرا ما يؤدي إلى اختلاط في الصفوف ، وبلبلة في القواعد . فالتمايز في المرحلة الأولى من عمر أي حركة إسلامية أمر لا مفر منه ، حتى تتضح الخيارات الفكرية ، ويتبين البديل الإسلامي المنشود ، غير ملتبس بغيره من الأطروحات . وقد لا حظ الهرماسي أهمية هذا الموقف في دراسته لتجربة الحركة الإسلامية التونسية ، حيث "لم يكن الظرف بالنسبة للحركة الإسلامية ظرف مساومات سياسية ، بل ظرف تفكير في تكوين حركة متيقنة من هويتها ، ومتأكدة من توجهها" (60) . وقد شاهدنا بعض الحركات الإسلامية الناشئة التي استعجلت الثمرة - وهي لا تزال في طور النشوء - وبادرت إلى تحالفات لم تنضج لها ظروفها الداخلية بعد ، فكانت النتيجة اختراق السلطة للحركة - بدلا من العكس - واختلافات مريرة حول الغنائم المرجوة ، واختلالات أخطر في الصف الحركي ، وضياع الأهداف السياسية الداعية إلى التحالف أصلا . وقد كانت الحركة السودانية ارتكبت خطأ استراتيجيا في هذا السبيل ، حين بادر زعيمها في نهاية الخمسينيات الرشيد الطاهر بالتحالف مع جهات يسارية في محاولة انقلابية فاشلة ، دفعت الحركة ثمنها من دماء أبنائها ، ودفع الرشيد ثمنها بفقد منصبه ومكانته في الحركة . وقد أخذت الحركة السودانية العبرة من ذلك فيما بعد .
ثالثا : وضوح المنطلق الاستراتيجي
وقد شرح الأفندي ذلك بقوله : "لقد نظر قادة الإخوان إلى صفقة المصالحة الوطنية باعتبارها خطوة في اتجاه تحقيق هدفهم الاستراتيجي ، المتمثل في احتلال موقع أساسي في الحياة السياسية السودانية ، إن لم يكن أهم مواقعها . وفي هذا الإطار تم تحديد هدفين مرحليين :
* أولهما أن الحركة يجب أن تنمو بتسارع ..
* والثاني أن أطر الحركة يجب أن يحصلوا على نصيب كاف من مناصب الدولة والمجتمع ، ومن الخبرة في إدارة المؤسسات ، كخطوة تمهيدية للاستيلاء على السلطة عندما تملك الحركة القوة الكافية لذلك .
وكلا الهدفين يحتم المصالحة مع أي كان في السلطة ، لإعطاء الحركة فسحة للتوسع ، وجزءا من السلطة ، وخبرة في السياسة" (61) "إن جوهر استراتيجية الإخوان خلال أعوام النميري يمكن وصفه بأنه سباق مع الزمن لتحويل الحركة إلى قوة سياسية رئيسية قبل انهيار نظام النميري . وقد حاول الإخوان الإبقاء على النميري حتى يكونوا قادرين على وراثته ، أو يكونوا - على الأقل - قوة رئيسية مشاركة في النظام الذي سيرثه" (62) . ويصف محمد محمود استراتيجية الحركة أيام المصالحة بأنها "استراتيجية الاختراق التدريجي" (63) . ويضيف عبد السلام سيد أحمد أن الإخوان السودانيين "كانت استراتيجيتهم [في عهد المصالحة] تشمل أمورا منها تقوية نفوذهم في الحركة الطلابية ، واختراق الجيش والنقابات والقضاء ، وبناء مؤسسات مالية واقتصادية إسلامية" (64). وهي إضافة صحيحة ، إذا استثنينا موضوع الحركة الطلابية الذي لم تكن استراتيجية المصالحة في صالحه. صحيح أن النظام قدم للحركة بعض التنازلات الطفيفة والوعود الجميلة ، لكن الحركة لم تتصالح معه رضى بتنازله ، أو ثقة بوعده ، كما يؤكد الترابي "وإنما دخلت تلك المشاركة مهتدية باستراتيجية خاصة لا تعول على الوعد الإسلامي للنظام ، بل ولا على الأمل في إصلاحه، بقدر ما تبتغي اغتنام فرجة حرية بفضل الموادعة ، وتتوخى فرصة سانحة بفضل المشاركة ، لبناء صفها ، وتطوير حركتها الإسلامية التي هي معقد الآمال في الإصلاح الإسلامي الشافي" (65) .
رابعا : الاهتمام بالآثار الموضوعية لا بالمقاصد
إن مقاصد خصوم الحركة الإسلامية من حكام الفساد تسير دائما في اتجاه مناقض لمقاصد الحركة، لكن ذلك لا يعني أن الآثار الموضوعية لجميع أعمالهم ومبادراتهم تناقض مساعي الحركة وأهدافها. فالواقع يشهد أن الحياة السياسية والاجتماعية أكثر تعقيدا من ذلك ، وأن بعض أهداف الأعداء القريبة الأمد قد تخدم الحركة على المدى الأبعد . فحينما شن النميري الحرب على الشيوعيين السودانيين هلعا وخوفا على كرسيه ، وحينما أعلن تطبيق الشريعة إمعانا في اجتثاث الشيوعيين ، لم يكن همه - بكل تأكيد - خدمة الحركة الإسلامية . لكن الحركة وجدت في الآثار الموضوعية لمبادراته ما يخدم استراتيجتها الإسلامية . ولم تهتم الحركة بنوايا النميري ومقاصده .كما يقول الترابي : "لم نكن نهتم بدوافع النميري … وإنما كان تركيزنا على استغلال كل فرصة لترسيخ المطالب والأفكار الإسلامية … فالاهتمام العام بالنسبة لنا كان تحقيق غايتنا على المدى البعيد ، والمتمثلة في ترسيخ الحياة الإسلامية بكل مظاهرها" (66) "مهما كانت نيات نميري في سياساته ، فهذا أمر موكول إليه لا يهمنا ، لأن ما يعنينا هو الأعمال … فلم نُضع وقتنا في التكهنات بمدى صدق النميري أو بـنِيَته سحب البساط من الحركة الإسلامية ، ولكن ركزنا على استغلال كل حدث لتثبيت الشعارات الإسلامية ، والتقدم في اتجاهها ، حتى نقطع خط الرجعة أمام السلطة القائمة أو غيرها ، ونجعل الحدث سبب قوة لحركة الإسلام الشعبية . ومهما يكن ، فإنه لا يمكن لعاقل أبدا أن يطالبنا برفض تحريم الخمور في البلاد ، أو تطبيق الحدود، بدعوى أن نميري غير صادق مثلا ، إنما التصرف الحكيم حينئذ هو توظيف هذه الخطوات للتقدم في الدرب الأطول : إقامة الحياة الإسلامية بكل معالمها ومقوماتها … إن ذلك الجهد الذي بذلناه لتحويل قوانين الشريعة إلى مواقف إيمانية مبدئية عند الشعب ، قد أثمرت أكثر مما كنا نتوقع ، وقطعت بنا شوطا حاسما " (67) . وهكذا سار الطرفان معا ، لكن في اتجاهين مختلفين :
* كانت استراتيجية النميري مبنية على إعطاء الحركة الإسلامية "مبررا لتثبيت الوضع القائم" (68) وزيادة فرص بقائه في السلطة ، من خلال احتواء قوة سياسية فتية ضمن صفه .
* وكانت استراتيجية الحركة مبنية على استغلال فرصة لتغيير الوضع القائم ، وتحضير البديل الإسلامي للنظام ، من خلال "وراثة الأرض من بعده أو حتى برغمه" (69) .
ولم يكن مستحيلا أن يسير الطرفان معا لفترة من الزمن ، مع اختلاف الوجهة والمقاصد . وهذا الذي قصده المنظر الاستراتيجي الأمريكي ألبرت ووهلستتر بقوله "ليست كل أهدافنا متعارضة مع أهداف عدونا" (70) .
وقد غابت ثنائية المقاصد والآثار هذه ، عن بعض الحركات الإسلامية : فهذه الجماعة الإسلامية في باكستان تعارض إعلان تطبيق الشريعة الذي أصدره نواز شريف عام 1997 لتركيزها على تاريخ الرجل ومقاصده ، فتضر نفسها أكثر من نواز . وتلك الحركة الإسلامية في موريتانيا ، تهدر الفرص المتضمنة في تطبيق الحدود الشرعية الذي أعلنه الرئيس محمد خونا مطلع الثمانينات ، حتى جاء من ألغاها ، ثم تقف موقفا سلبيا من دستور 1991 الذي نص على أن الإسلام هو "المصدر الوحيد للتشريع" ، لعدم جدية مصدريه في التطبيق ، وتنسى الفائدة السياسية والإعلامية لمثل تلك النصوص ، وثمرتها في ترسيخ وعي إسلامي عام ، لو أحسن التفاعل معها .
لقد نسي هؤلاء وأولئك أن الأثر الموضوعي لتلك المبادرات كثيرا ما يتجاوز نوايا السلطة ، وأن المهم هو الثمرات الموضوعية . وقد أدرك شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأمر منذ أمد بعيد ، حينما أشار إلى أن "بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ، ويكون آثما بذلك ، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير ، كانوا كفارا فصاروا مسلمين . وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب ، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير" (71) . وليست هذه الظاهرة نادرة الوقوع في التاريخ الإسلامي . وسيظل في هذه الدنيا من يخدم الإسلام ومن يستخدمه ، وكل سيحشر على نيته . وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" (72) .
خامسا : الصبر على مزاج "أمير المؤمنين"
وغير بعيد من جدلية المقاصد والآثار ما تبنته الحركة من صبر جميل على مزاج النميري ، الذي نصب نفسه فجأة "إماما" و"أميرا للمؤمنين" ، بعد ما كان ثوريا يساريا ، دون أن يكون هذا ولا ذاك في حقيقة الأمر. ولم يكن من السهل "التعامل مع نظام لا يطرد نسقه على نظام واحد ، ولا يحكمه فكر أو مبادئ ، وإنما تسيره الأهواء ومنطق اهتبال الفرص" (73) . كان النميري واعيا بإمكانية استفادة الحركة سياسيا من إعلان تطبيق الشريعة ، الذي ألجأه إليه صراعه مع الشيوعيين، فلجأ إلى أسلوب المباغتة والمراوغة . وهكذا "أخذ الرئيس نميري الجميع على حين غرة ، معلنا تطبيق الشريعة الإسلامية" (74) "بل عمد النظام إلى إعطاء إشارات مختلفة إلى أن خيار الشريعة ليس له علاقة بحركة الإخوان ، كما عمد إلى إيجاد مداخل للشريعة متجاوزا حركة الإخوان" (75) . ومن أمثلة ذلك أن الترابي كان مستشار الرئيس نميري ، وحليفه السياسي ، قبل إعلان تطبيق الشريعة ، لكن النميري كتم عنه مساعيه ، واختار محامييْن شابين ينتميان إلى بعض الطرق الصوفية ، وكلفهما بصياغة القوانين الشرعية ، ثم أوصاهما أن لا يخبرا أحدا ، بمن في ذلك "الرجل الموجود وراء ذلك الباب" يعني مستشاره الترابي (76) . لكن الحركة الإسلامية لم تعبأ بذلك الالتفاف والتجاهل، وأعلنت دعمها بقوة لتوجه النميري إلى تطبيق بعض الأحكام الشرعية.
وفي مسعى آخر للالتفاف حول الحركة ، وتجريدها من المكاسب السياسية المترتبة على إعلان تطبيق الشريعة "حاول نميري أن يؤصل لتوجهه نحو الإسلام ، وأن يبين أن توجهه للإسلام كان أمرا مبيتا منذ عام 1969، وليس أمرا طارئا يتعلق بتعاونه مع الحركة الإسلامية ، واقتحم دنيا التنظير والتأليف ، حيث ظهر له كتابان ، أحدهما بعنوان : "النهج الإسلامي ، لماذا ؟" والآخر بعنوان : "النهج الإسلامي ، كيف ؟"" (77) ورغم انكشاف اللعبة ، فقد "حاول الإسلاميون الترويج للكتابين ، تشجيعا له على موالاة الطريق" (78) . ولم يتورع النميري عن وصف حلفائه من الإخوان المسلمين بـ"إخوان الشياطين" ، أثناء المؤتمر العالمي لتطبيق الشريعة ، الذي حضرت له الحركة وجمعت له الجموع ، كما يقول مكي : "اجتهدت الحركة الإسلامية في الدعوة لقيام مؤتمر عالمي عن تطبيق الشريعة … جاءت الاستجابة لهذا المؤتمر فوق تصور الحركة … كما تواكب مع المؤتمر الإعداد لحشد تظاهري ضخم مليوني … وفي أجواء الاحتفالات ، وبرغم سعادة الرئيس نميري بأضواء المؤتمر وحشوده الجماهيرية التي باركت مشروع الشريعة ، إلا أن الرئيس نميري انتبه أن القوة التي وقفت وراء كل هذا العمل - وهي الحركة الإسلامية - أصبح لها وحدها وجود وثقل يهدد أمن النظام . وفي محاولة لهز ثقة الحركة بنفسها والاستخفاف بها ، لجأ نميري لإطلاق تصريحات عدائية مثيرة ، واصفا فيها الإخوان بـ"إخوان الشياطين"" (79) .
لكن قيادة الحركة كانت تستصحب الصبر دائما ، وتصوب نظرها إلى المستقبل ، كما يشرحه الترابي في قوله : "كانت استراتيجيتنا توجهنا إلى الصبر على العارضات ، ومد النظر والعمل نحو المقاصد الآجلة ، وللتعامل مع الظروف المتقلبة في الساحة السياسية من هذا المنظور ، حتى لا تستخفنا فتؤثر سلبيا على خطتنا ومسيرتنا نحو التمكن في المجتمع . ربما تكون القاعدة قد انشغلت أحيانا بعوارض العلاقة مع نميري ، لكن القيادة كانت مدركة لمسؤوليتها ، وكان العمل يمضي في مجمله إلى قبته المرسومة ، بتدابير ثابتة لا تضطرب بها تقلبات السياسة النميرية ، بل تحتاط لاحتمالات انقلابه على الحركة ، أو طروء طارئ على نظامه . ولذلك لما ثارت الانتفاضة ، وطوحت بالنظام ، ألفتْنا مستعدين للمرحلة الجديدة" (80) .
ولو أن قيادة الحركة السودانية دخلت في تجاذبات مع النميري حول أحقيتها وأسبقيتها التاريخية إلى تبني تطبيق الشريعة ، أو استفزتها عباراته الجارحة ومزاجه المتقلب ، لكانت ارتكبت نفس خطإ الحزب الشيوعي السوداني ، وأمينه العام الذي اعتبر الناس "عيالا عليه" في الفكر الاشتراكي. وهو الخطأ نفسه الذي وقعت فيه بعض الحركات الإسلامية ، بتأثير من الروح الحزبية الضيقة ، وقصور في المنظور الاستراتيجي . لكن قيادة الحركة السودانية لم تستفزها تصريحات النميري ومراوغاته ومباغتاته . بل ظلت واثقة من نفسها ، مصرة على الاستمرار في الدرب الذي يكفل للإسلام التأمين والتمكين .
سادسا : الاستعداد لدفع الثمن
لم يكن من السهل على حركة تحمل رسالة أخلاقية أن تتحالف مع نظام سياسي فاسد ، وأن تدفع الثمن اللازم لذلك . فإن المصالحة "ترتب عليها إقرار الجبهة [الحركة] بحل تنظيماتها ، والتحاق جانب من أعضائها بالاتحاد الاشتراكي السوداني ، التنظيم السياسي الوحيد في البلاد"(81) . ولم يكن ذلك بالأمر الهين في المناخ السياسي والفكري السائد في السبعينات ، الذي سادت فيه العواطف الحماسية ، والاستقطابات السياسية والأديولوجية . لكن الحركة في السودان توصلت إلى أن ذلك هو السبيل الأوحد للتمكين ، فرجحت كسب المستقبل على سمعة الحاضر ، وأدركت أن أبواب الابتلاء لا حصر لها ، وقد يكون منها التضحية بالصورة الزاهية التي رسمها الناس للحركة وقادتها ، مقابل مكاسب استراتيجية تمكن للإسلام . "وهكذا كان الإخوان [السودانيون] وهم يستصحبون هذين الهدفين [=تقوية الحركة واختراق السلطة] مستعدين لتقديم تنازلات للسلطة ، خلافا لشركائهم السابقين [من قادة الأحزاب التقليدية] الذين ليست لهم أهداف سرية ، ولا يستطيعون دفع الثمن السياسي المتمثل في ظهورهم أمام الناس وهم يسيرون في فلك حكم دكتاتوري . أما الإخوان فكانوا يعتبرون تقوية حركتهم هي الهدف الأساسي ، ولذلك لم يحفلوا بخسارة نقاط سياسية أثناء عملية البناء الحركي" (82) . لذلك لا عجب أن النميري لما دعا إلى المصالحة "جاءت أكبر استجابة من طرف حسن الترابي ، الذي وجد في ذلك فرصة لبناء حركة "الإخوان المسلمين" تحت مظلة النظام ، ثم الاستيلاء على السلطة . ولم يكن للإخوان وجود في صورة حزب سياسي ، وقد قبل الترابي ذلك ، ووضَع خطة بعيدة المدى لتحقيق غايته النهائية ، وهي تطبيق الشريعة ، وإقامة دولة إسلامية" (83) .
ولم يكن الثمن الذي دفعته الحركة هينا على أية حال ، فقد كان منه :
*"انحسار جزئي في شعبية الحركة الإسلامية وسط قطاعات المهنيين والطلاب" (84) .
* تشويه سمعتها من خلال تحالفها مع نظام سياسي فاسد ، وهي التي طالما وعدت الناس بالشورى والعدل في القَسْم والحكم .
* اتهام أعضائها بالحرص على مصالحهم الشخصية على حساب مصالح الشعب نظرا لما تقلدوه من مناصب …الخ (85) .
*"جفوة وخصام من قبل رجال وقادة الأحزاب ، الذين شعروا بأن الحركة كسبت من وراء ظهورهم ، وتركتهم في العراء …" (86) .
* تعرض قيادة الحركة للانتقاد من بعض قواعدها التي "لا تنفك عن التبرم بالسياسات المشتركة، لجنوحها بالعادة لنقد السلطان من طول مجانبته ومعارضته ، ولتعلقها بالمثل المجردة" (87) .
* تحملها مسؤولية أخطاء سياسية فعلية ، حينما "أصبحت بعد براءة المعارضة ومثالية الدعوة عرضة للخطإ والفشل في سياسات الأمور" (88) .
* تعرضها لسخط قيادات إسلامية في دول أخرى ، لم تحسن تقدير الموقف ، ولا أحسنت الظن بإخوانها .
وقد صدق الترابي في وصف موقف بعض الإسلاميين في الخارج بالسطحية وقصر النظر ، حين قال : "كان الإسلاميون في الخارج في حيرة شديدة ، ويحكمون على مواقفنا حكما سطحيا بالتساؤل : هل يجوز لحركة إسلامية أن تصالح حكما عسكريا ؟ لم يكونوا قادرين على النظر إلى مدى استراتيجي ، والانتباه إلى اعتبارات كثيرة أخرى مؤثرة في الحكم بالنسبة لنا" (89) .
ومهما يكن ، فقد كان "من أشد الحرج على الحركة الإسلامية أن تضطر إلى مشاركة نظام موسوم بالطغيان والفساد . فالتلبس بمثل تلك العلاقة يؤذي سمعة الدعوة والجماعة ، ويتيح لأعدائها فرصة وحجة للنيل منها . لا سيما أن الناس يحاسبونها بمعايير الاستقامة أكثر مما يحاسبون أحزابا أخرى لا تبالي أو يبالي أتباعها بما يكسبون ، إلا عصبية ولاء ، وانتهاز فرص في السلطة"(90) . وزاد من شدة الحرج أن الحركة لا تستطيع الإفصاح عن أهدافها الاستراتيجية الخفية ، ردا على القادحين . ذلك أن "الضرورة الاستراتيجية التي ألجأت الحركة لأن تتغاضى على كره منها عن دكتاتورية النظام وفساده ، ما كانت مما يمكن التصريح به درءا للحجة المعارضة" (91) . لكن الحركة قدرت الموقف ، وقررت دفع الثمن دون تردد ، واقتحام المخاطر دون خوف . وكان هذا الخيار ثمرة لحيويتها وجرأتها الخاصة ، فهي "حركة جريئة لا تبالي أن تخوض المخاطرات المخوفة ما قدرت أن فيها خيرا لدعوتها وجهادها وشعبها" (92) .
ولا يزال أعداء الحركة يعيبون تحالفها مع النميري حتى اليوم . فقد كتب حيدر طه تحت عنوان "التحالف مع الشيطان" : "كان من الصعب أن يقبل المنطق العادي أن تلتقي شخصيتان مثل النميري والترابي تقول كل المظاهر أنهما متناحران في الفكر والثقافة والمزاج والأسلوب والالتزام"(93) . وسخر منصور خالد من ذلك "التركيب الإسلامي الغريب" الذي "كان فيه النميري إماما والترابي مؤذنا" حسب تعبيره (94) . لكن الحركة الإسلامية أدركت أن الحقائق الاستراتيجية لا يصلح التعامل معها من خلال المظاهر والأشكال ، أو كلام الأعداء وسخريتهم ، وقررت دفع الثمن مقابل كسب المستقبل .
سابعا : التخفيف من وقع الثمن
لقد كانت الحركة موقنة بضرورة دفع الثمن السياسي لتحالفها مع النميري ، ودفعته دون تردد ، لكنها لم تغفل عن الآثار السلبية لذلك على مستقبلها السياسي ، فتبنت بعض التدابير للتخفيف من وقعه بقدر المستطاع ، ولم تكن الموازنة سهلة دائما . يورد الأستاذ مكي جوانب من هذه التدابير، منها :
*"حرصت قيادة الحركة على أن تتجنب الظهور في مناسبات النظام ، خشية أن تضفي عليه شرعية إسلامية لم يتلمس طريقه إليها بعد . ودرج الترابي على الاستجابة لدعوات المشاركة في مؤتمر اتحاد الطلاب المسلمين في أمريكا وغيرها ، والتي تتوافق مع احتفالات ذكرى مايو[ثورة النميري] " (95) .
*"وآثرت [في الفترة الأخيرة من التحالف] أن تخفض المظهر السياسي لقيادة الحركة الإسلامية على الصعيد القومي والدولي ، مع استبقاء أصل المصالحة والمصابرة على كيد النظام .. طالما حفظ للجماعة مدى معقولا من حرية الدعوة والحركة ، مع إحكام التدبير السياسي ، احتياطا لسلامة الحركة وتقدمها في وجه الطوارئ" (96) .
* وكلما ازدادت ملامح التدهور العام ، نأت الحركة بنفسها عن النظام ، حفاظا على مصداقيتها ، وتحسبا لما يجدُّ من أمور : فحينما انتشرت المجاعة في السودان عام 1985 ، وانكشفت فضيحة النميري في تهجير يهود "الفلاشا" "أبدى د. الترابي زهده في مواصلة العمل السياسي في أجهزة النظام ، متعللا بالتفرغ للتدريس في جامعة الخرطوم وغير ذلك" (97) .
*"الحفاظ على علاقات مصالحة مع الأحزاب التقليدية ، احتياطا للطوارئ ، وتزهيدا لهم في مد التحالفات مع اليسار والجنوب والقوى الخارجية المعاكسة ، على أن يظل موقف الحركة مرحليا : الدفاع عن النظام … مع التحسب اليقظ لأقدار الطوارئ غير المنظورة"(98) .
* مواصلة انتقاد سياسات النميري التي لا تناسب منهج الحركة ، من أجل تمييز خطابها السياسي عنه . حيث "تم تعيين د. حسن الترابي مسؤولا عن الفكر والمنهجية في الاتحاد الاشتراكي ، ونائبا عاما ، [ومستشارا للرئيس مرتين] ولكنه رغم ذلك والى نقده لسياسات النظام … كذلك تحدث في محاضراته العامة عن الفساد السياسي ، وكانت هذه المحاضرات تصيب رواجا ، مما أغضب قادة النظام" (99) لكن ذلك الانتقاد يظل محصورا في حدود ، حتى لا يؤثر على استراتيجية المصالحة .
وبهذه التدابير استطاعت الحركة الإسلامية في السودان أن تخفف من وقع الثمن السياسي الذي دفعته جراء تحالفها مع النميري ، وضمنت أن لا يكون ذلك التحالف وصمة في تاريخها ، أو حاجزا أمام تطورها السياسي .
ثامنا : سيادة القرار الجماعي
إن مثل هذه المواقف السياسية المعقدة كثيرا ما تثير خلافات داخلية ، نظرا لدقة المأخذ ، الناتج عن عدم قطعية الأدلة الشرعية ، وتعارض المصالح العملية، وما يصاحبها من خوف على الحركة ، وطمع في السلطة . وخير علاج لذلك هو إدارة الحوار بالحسنى بين ذوي الآراء والتقديرات المختلفة ، والإفاضة في شرح الدوافع والمسوغات بقدر ما تسمح به الظروف ، والتزام قرار الجماعة . يقول الترابي :"وإذ كان ما بطن من الحيثيات الداعية للمصالحة أكثر مما ظهر ، فقد بدت خلافية من كل وجه ، في أصل مشروعيتها وفي حكمتها السياسية" (100) . وبعد المشاورات اللازمة تأصيلا وترجيحا ، من أجل تجاوز هذه الخلافات "ساد الرأي بأن المشاركة الصادرة من شورى الجماعة لا من هوى الفرد ، المؤسسة على تقدير وتدبير يتوخى مقاصد الدين ومصالح تمكينه ، ليست في شيء من الإعانة على الظلم ، وإنما هي وجه من المجاهدة والمنازعة للقوى اللادينية المتحكمة لتحويل النظام نحو الإسلام . فحين يشارك الأفراد في النظام يحق أن يرِد التساؤل عن مدى سلامة المقاصد، أو مدى الثبات والافتتان بالمنصب ، لأن الفرد الواحد عرضة لأن يُغرَى أو يحاط به على غير ما جماعة كاملة تهدي عمل أفرادها وتثبتهم" (101) . أما المشاركة الجماعية بقرار جماعي فأمرها مختلف .
ولم تكتف الحركة الإسلامية السودانية في جعل قرارها بالمصالحة مع النميري ثمرة حوار مستفيض ودراسة متأنية وتوجه جماعي، بل "كانت الصفقة تخضع للمراجعة والتقييم سنويا ، ويتم تقديمها لتصويت مجلس الشورى ، فكانت تحظى بالإقرار دائما ، لكن خمسة - على الأقل - من أعضاء مجلس الشورى الستين كانوا يعارضونها ، ويعبرون عن رفضهم للاستمرار فيها" (102) . وقد حرصت الحركة على تقنين فلسفتها بهذا الشأن في دستورها الصادر عام 1982 ، حينما نص الدستور على أن مجلس الشورى هو الذي يتخذ قرار "الدخول في الحكم ، أو تأييد النظام الحاكم، أو معارضته" (103) . وبذلك تم سد الباب أمام مغامرات الأفراد ومطامح القادة التنفيذيين، التي قد تُورِّط الحركة في تحالفات لا تخدمها .
لم يكن الأمر سهلا أبدا ، فقد ظهرت معارضة داخلية لمبدإ المصالحة في مناسبات شتى . ومن أمثلة ذلك :
*"جوبهت قيادة الإخوان بأن عددا من الإخوان الموجودين في المعسكرات [بليبيا] غير مقتنعين بدرب المصالحة ، إذ أدى انقطاع هؤلاء الإخوة عن مسار الحركة التنظيمية في السودان ، واكتفاؤهم بحياة التقشف والزهد ، وتشبعهم بروح الجهاد ، إلى تنمية روح مفاصلة لا تقبل إلا إقامة الدين أو الشهادة .. وقد وطَّن هؤلاء أنفسهم على السير على درب إخوانهم الذين استشهدوا في يوليو 1976 ..
* وحينما انعقد مكتب الإخوان بطرابلس لتقييم المصالحة تحفظ المكتب على قبول المصالحة … كما أبدى المكتب تحفظه ، لأن ربط الإسلام بنميري فيه فتنة للناس لجهلهم بالإسلام . وكعادة الإخوان يسجلون آراءهم ، ثم يذعنون لرأي القيادة التي أمرتهم بتصفية المعسكر ، والانصراف لشأنهم" (104) .
* وفي المؤتمر العام للحركة سنة 1982 "كانت 39.4% من عضوية المؤتمر مع الاستمرار في المصالحة ، وأفتت 11.6% بعدم الاستمرار، بينما بدت 45.9% حائرة ، وهي بلا شك نسبة كبيرة تشير إلى خيبة أمل قطاع كبير من الإخوان في المصالحة الوطنية . ويمكن أن يُعزَى ذلك إلى أن عام 1982 لم يكن عاما سعيدا للإخوان مع نظام الرئيس نميري" (105) .
*"وقد برز في مرحلة لاحقة تيار وسط طلاب الجامعة ، تأثر بأطروحات الثورة الإيرانية وآدابها، مما جعلها [=هذه الطائفة] غير مرتاحة لنظام المسالمة [مع نميري]، ولكنها واصلت التعبير عن نفسها داخل أطر التنظيم ، ولم تتجاوز تلك المشاعر الجامعة إلى ما سواها" (106).
وكلما أسفر النميري عن وجهه الانتهازي في مصالحته مع الحركة ، وكلما أحرجها بمزاجه المتقلب ، تناقص عدد المساندين لفكرة المصالحة داخل الصف الحركي . لكن كل ذلك لم يؤثر على القرار العام ، ولم يولد انشقاقا يثلم الروح الجماعية ، لأن الأمر انبنى على الشورى بدءا وختاما ، وظل الأكثرون مؤيدين له . ولذلك حينما "ثار النقاش حول ما إذا كان ينبغي على الترابي أن يقبل منصبا [في سلطة النميري] أم أن عليه أن يبقى بمعزل عن ذلك ، حتى لا تتلطخ صورته بالمشاركة المباشرة مع النظام ، وتم تقديم هذا الموضوع للتصويت ، تقرر أن على كل الأعضاء أن يتحملوا مسؤولية متكافئة في هذا الأمر ، وأن الترابي ليس مستثنى من ذلك" (107). وهكذا كان القرار الجماعي هو المتحكم في العملية بدءا وانتهاء ، وكان الجميع خاضعين له قيادة وقاعدة .
تاسعا : استقلال الخيارات الأساسية
كانت الحركة حذرة من الاندماج والتذويب السياسي ، ولذلك نأت بجانب كبير من قواعدها وأطرها عن التعامل مع السلطة ، حفاظا على المصداقية المستقبلية ، وحافظت على خياراتها وأهدافها الخاصة بعيدا عن توجه حليفها . وبذلك تكون الحركة السودانية أول الحركات الإسلامية التي نجحت في المعادلة الصعبة الجامعة بين "أسلوب العمل المتاح في ظل الأنظمة ، وأسلوب العمل الرافض لأساس الأنظمة" . يصف التقرير الاستراتيجي لمركز الأهرام عام 1987 هذا الموقف الدقيق فيقول : "لقد اصطدمت الحركة الإسلامية في السودان مع الطبيعة الفردية الاستبدادية لنظام حكم النميري ، ذلك أن النظام الاستبدادي لم يكن ليحتمل وجود طرف سياسي قوي ، له قاعدة سياسية مستقلة عن النظام . فالحركة الإسلامية برغم اندماج فريق منها في الاتحاد الاشتراكي السوداني ، وفي مؤسسات الدولة ، فإن القواعد الجماهيرية للحركة وكوادرها النشطة ظلت في أغلبها خارج هذه المؤسسات ، تتحرك كقوة سياسية مستقلة" (108). وهو نفس الأمر الذي لاحظه محمد محمود في قوله : "إن تصالح الحركة مع النميري لا يعني بحال من الأحوال أنها تخلت عن برنامجها الإسلامي الخاص" (109) . كما يشرح مكـي ذلك في قوله : "لم تعول الحركة الإسلامية كثيرا على فرص تحالف حقيقي مع نظام نميري ، وكانت الحركة تعتقد أن لقاءها مع نظام نميري تفرضه ظروف المرحلة" (110) . ولذلك "لم تضع قيادة الداخل الوقت في انتظار أيادي النظام : إذ كانت تعلم أن النظام سيحاول أن يصل إلى أهدافه حولها بالطرق الناعمة، بعد أن فشلت وسائل القسر والسجون . لذا رأت في المصالحة فرصة للعمل ، وليس لمقاسمة السلطة مع النظام" (111) .

ولك أن تقارن هذا الموقف الحكيم مع موقف الجماعة الإسلامية بباكستان في تحالفها مع الجنرال ضياء الحق . وهو يشبه تحالف الإسلاميين السودانيين مع النميري من أوجه كثيرة :
* فكل من الرجلين كان عسكريا مستبدا ، غطى على استبداده بتبني نوع من التوجه الإسلامي، لغاية الاستظهار السياسي .
* وكل منهما اضطرته ظروف سياسية غير مواتية إلى البحث عن الشرعية في التحالف مع قوة إسلامية ، يريد الاستفادة منها دون إفادتها .
لكن التجربة الباكستانية انتهت بنتائج بائسة ، على عكس التجربة السودانية : "فرغم نفوذ "الجماعة" في القطاعات العليا من الدولة [أيام ضياء الحق] فقد فشلت في توسيع قاعدتها الاجتماعية ، أو التأثير السياسي فيما وراء القنوات التي منحتها لها السلطة ، ولذلك لم تحصل على أكثر من 10 مقاعد في انتخابات الجمعية العمومية عام 1986 . إن الجماعة لم تستطع الاستفادة من ذلك التحالف في توطيد موقعها السياسي الخاص ، ولم تستطع تمييز برامجها عن برامج السلطة، ولذلك تحولت إلى أداة في يد السلطة ، وانتهت تجربة تحالفها مع ضياء الحق إلى خسارة أخلاقية وسياسية" (112) . ويمكن للباحث أن يدرك أبعاد هذه الخسارة حين يعلم أن الجماعة حصلت على 8 مقاعد برلمانية فقط في انتخابات سنتي 1988 و 1990 ، ثم سقط العدد إلى 3 مقاعد فقط في انتخابات 1993 (113) .
ومثل "الجماعة الإسلامية" في باكستان كثير من الحركات الإسلامية التي نجحت في التوصل إلى صيغة تعايش مع السلطة في بلادها ، فاستنزفت جهدها في المهاترات السياسية ، ومحاولة الحصول على المناصب ، ونسيت الكسب الأكبر من التعايش ، وهو وجود فرصة لتنمية العمل الداخلي ، والتأثير في المجتمع الخارجي ، لكسب رهان المستقبل .
ومن مظاهر استقلال الخيارات الأساسية الحفاظ على الكيان الحركي بصورة ، ورفض التضحية به ثمنا للمصالحة . إن النميري - شأنه شأن أي حاكم دكتاتوري - لم يكن ليتحالف مع حركة سياسية طموحة ، ثم يسمح لها بالإبقاء على تنظيمها السري . بل كان من ضمن أهدافه في التحالف سلب الحركة من بريقها الشعبي الخارجي ، ومن قوتها التنظيمية الداخلية . وقد قبلت الحركة التضحية بالأول - نسبيا - مقابل بعض المكاسب ، لكنها لم تكن لتقبل التضحية بالثاني بأي ثمن . وأدركت أن التنازل عنه مقابل وعود حاكم دكتاتوري انتحار وتعلق بوهم . فلم يكن أمامها من خيار سوى التظاهر والمراوغة السياسية : "وهكذا أعلن زعيم الحركة حسن الترابي حل تنظيم الإخوان المسلمين ، وأعلن أن أعضاء التنظيم سيمارسون عملهم من الآن فصاعدا من خلال "الاتحاد الاشتراكي السوداني" . لكن ما وقع بالفعل هو أن تنظيم الإخوان بقي على حاله ، بل نما وازدهر، بعد إدخال التغييرات الهيكلية اللازمة لانسجامه مع الظروف الجديدة ، وتسهيل توسعه وامتداده" (114) . "والواقع أن تنظيم الإخوان ظل موجودا في شكله التنظيمي ، رغم إعلانه على الملإ أنه قد حل نفسه" (115) . لقد ضحى الإخوان بالكثير في صفقة المصالحة "لكن الإخوان لم يقدموا للنميري أثمن شيء كان يطالب به، وهو حل تنظيمهم" (116) . ذلك أن أهداف الشريكين كانت متناقضة :
* فالنميري يريد من الإخوان حل حركتهم ، ثمنا للتنازلات السياسية التي قدمها لهم ..
* أما بالنسبة للإخوان فإن "الهم الأهم في المشاركة كان بناء الحركة" (117) .
وكان على الفريقين أن يلعبا لعبة الذكاء والحصافة ، فكسب الإخوان المعركة . وكانت خبرتهم في إدارة "التنظيم الموازي" التي طبقوها قبل ذلك أيام "جبهة الميثاق الإسلامي" خير عون لهم على النجاح في تلك اللعبة . وهكذا ففي الوقت الذي كان النميري يتلقى نبأ حل الحركة بغبطة "طُلِب من الأعضاء أن يركزوا على موضوع إعادة بناء الحركة" (118) .
على أن الدرس المستفاد هنا لا يمكن أخذه على إطلاقه ، بل لا بد لكل حركة من التكيف مع ظروفها الخاصة : فقد تسمح الظروف لحركة ما بالحفاظ على الهيكل الحركي كما هو ، دون مخاطر الانكشاف الأمني والالتفاف السياسي ، وقد تقتضي الظروف من حركة أخرى حل التنظيم العام، والحفاظ على بعض الأجهزة النوعية المحدودة ، التي هي رهان الحركة في معركة المستقبل . لكن من الواضح أن الإبقاء على "شيء ما" من الهيكل الحركي السري أمر لا مناص منه بالنسبة لمن لا يرضون التعلق بأذيال الوهم .
عاشرا : ضبط العملية والتحكم فيها
فقد حرصت الحركة على أن تتحكم في عملية التحالف ، وتظل ممسكة بزمام أمرها ، من حيث توقيت الدخول فيه والخروج منه ، وحدود ما تعطي وما تأخذ . وقد لا حظ محررو "تقرير الأهرام الاستراتيجي "مهارة" القادة الإسلاميين السودانيين في اختيارهم اللحظة المناسبة للابتعاد عن النميري وسلطته المتداعية فكتبوا يقولون : "لقد كشفت الحركة الإسلامية السودانية عن مهارة سياسية عالية ، عندما اختارت هذا التوقيت لتمييز نفسها عن نظام النميري" (119) . إن التحالفات السياسية تحتاج إلى إدارة وضبط وتحكم ، حتى لا تقع الحركة ضحية لما تعطي أو لما تأخذ . وإذا كان من الواضح للإسلاميين حدود ما عليهم أن يقدموه ، والتحفظ في ذلك ، فإن بعضهم لا ينتبه لحدود ما عليه أن يأخذ ، ولا يدري أنه إذا أخذ كل ما يعرض عليه دون ضبط أو تحكم ، فإن الأمر ينقلب وبالا عليه في النهاية . ومن الأمثلة المعبرة في هذا الشأن ما وقع في أفغانستان . فقد فتح الإسلاميون الأفغان أبوابهم مشرعة لكل حليف وكل عون في مواجهتهم للغزو السوفييتي ، ولم يضعوا حدودا تمكنهم من التحكم في هذا المدد العسكري والسياسي الضخم الذي تنوعت مصادره لحد التناقض : من باكستان إلى الهند ، ومن أمريكا إلى إيران . فتمكن كل طرف إقليمي أو دولي أن يبني له قاعدة ، ويحصل له على زبائن سياسيين أفغان . وكانت النتيجة المنطقية التي لا مفر منها هي انفجار هذا التركيب الغريب ، وتمزيق أفغانستان معه.
ولا بأس أن نختم الحديث عن أسباب نجاح المصالحة ، بمقارنة بين الحركة الإسلامية في السودان والحزب الشيوعي السوداني في تعاملهما مع النميري . وفي الجدول التالي نوجز أسباب الفشل الشيوعي والنجاح الإسلامي في التعامل مع النميري ، تركيزا للعبرة في أذهان القراء الأكارم :
الحركة الإسلامية / الحزب الشيوعي
- انفتاح فكري - جمود فكري
- وضوح المنطلق - غموض الرؤية
- مرونة سياسية - راديكالية وتصلب
- إيجابية وإقدام - سلبية وإحجام
- موقف جماعي - موقف مشتت
- مراوغة سياسية - تبلد وسطحية
- بذل الثمن - بخل بالثمن
- تخطيط محكم - ارتباك وتردد
- تركيز على الآثار - تركيز على النوايا
- صبر وتحمل - خضوع للاستفزاز
ثمرات المصالحة
بتلك العوامل متضافرة كسبت الحركة الإسلامية في السودان معركة المصالحة مع النميري والتحالف معه " ونجحت في الاستفادة من فترة المصالحة الوطنية إلى الحد الأقصى" (120) وجنت مكاسب استراتيجية ، منها :
أولا : النمو والامتداد السريع
فقد اتسعت عضوية الحركة ومؤسساتها في قطاعات المجتمع العام - مع مد وجزر في الطلاب والعمال - بفضل حرية العمل التي كسبتها من المصالحة . يقول مكي : "واستفادت الحركة الإسلامية من نظام الحريات النسبي الذي كفلته المصالحة ، مما منح الحركة مساحة تحرك ، مكنتها من إعادة رص صفها ، ومخاطبة الجماهير . الشيء الذي افتقدته طيلة ثمانية أعوام (1969-1977) . أدى تحرك الحركة إلى ازدهار واضح في جسم الحركة ، وظهرت ثمار ذلك في بروز عدد من واجهات العمل الإسلامي ، مثل : "منظمة الدعوة الإسلامية" "جماعة الفكر والثقافة الإسلامية" "جمعية الإصلاح والمواساة" "الوكالة الإسلامية الإفريقية للإغاثة" "جمعية رائدات النهضة" …إلخ"(121) . كما أن احتلال مواقع في السلطة فتح بابا من أبواب العلاقات العامة كانت الحركة في حاجة إليه. ولقد كانت بعض هذه المواقع شكلية مثل موقع مستشار رئيس الجمهورية الذي تقلده الترابي مرتين ، فكان "يتلقى من الاستشارات أكثر مما يقدم" حسب تعبيره (122) لكن لمناصب الدولة بريقها وهيبتها ، وعلائقها الخاصة التي تعين على بناء مكانة لمن يتقلدونها ، وفتح مداخل كثيرة أمامهم ، ونشر ما يمثلونه من مبادئ .
لقد أسلفنا أن من مشكلات الحركة السودانية أنها نشأت في القطاع الحديث ، وظلت لحين من الدهر بعيدة عن قطاعات المجتمع التقليدي . لكن التحالف مع النميري مكنها من الاحتكاك ببعض القطاعات التقليدية الشريكة معها في التحالف ، خصوصا رجالات التصوف والقبائل . وهكذا فـ"إن مواقع السلطة والنفوذ التي حصل عليها الإخوان نتيجة للمصالحة الوطنية قد سهلت عليهم تطبيق استراتيجيتهم في النمو والامتداد بدون ريب"(123) . وقد لاحظ محررو التقرير الاستراتيجي لمركز الأهرام ذلك ، حينما أشاروا إلى أن الإسلاميين السودانيين "حاولوا بنجاح نسبي الخروج من مأزق انحسار قاعدة تأييدهم في الطبقة الوسطى، حيث أتيحت لهم فرصة للاتصال والتخاطب مع قطاعات عريضة من الجماعات الإسلامية التقليدية الصوفية ، التي لم تكن الحركة تحتفظ بعلاقات طيبة معها في المرحلة السابقة . وقد ظهر أثر هذا التحول واضحا في أول انتخابات أجريت بعد سقوط النميري ، عندما استطاعت الحركة الإسلامية أن تفوز بثقة الناخبين في مواقع كانت تسيطر عليها الأحزاب التقليدية في الماضي" (124) . وهكذا "فإن الحركة الإسلامية في السودان انتقلت من موقع الشريك الضعيف في الحكم في عهد النميري ، إلى موقع المعارضة البرلمانية القوية بعد الإطاحة به"(125) .
ثانيا : حرية العمل بطلاقة
لقد أتيح لأبناء الحركة الإسلامية "قدر كبير من حرية العمل" (126) بفضل المصالحة . وهو أمر لم يتح لأي تيار سياسي آخر أيام النميري . وكان يكفي الإسلاميين أن يتحرروا من الأشكال والمسميات ، ثم يعملوا بعد ذلك ما طاب لهم العمل . وقد برهنت الحركة الإسلامية في السودان على قدرتها على التحرر من الأشكال والمسميات التي اعتبرتها دائما وسائط للعمل ، وليست هدفا في ذاتها . فتحررت من اسم "الإخوان" ، وأعلنت حل نفسها ، وانضمام أعضائها إلى حزب "الاتحاد الاشتراكي السوداني" الذي أسسه النميري "وكانت الحركة في عهد النميري تعمل من خلال واجهات ذات أسماء بريئة مثل "شباب البناء" و"رائدات النهضة"" (127) تجنبا لإثارة نوازع الاستبداد والخوف في نفس حليفها المتربص . وقد مكنت حرية العمل الإسلاميين من تعميق جذورهم في المجتمع العام ، وتحقيق العديد من المكاسب منها :
*"ظهور مؤسسات الدعوة وواجهات العمل الإسلامي .
* التحكم في مسار مؤسسات المال الإسلامي من بنوك ومؤسسات .
* زيادة وزنهم وسط قطاع الطلاب …
* بروز صوتهم في سياسات الدولة ومنابرها …
* انحياز حركة المرأة لداعي التوجه الإسلامي .
* توسع تنظيم الحركة على امتداد الداخل والخارج …
* إضعافهم لتيار العلمانيين في النظام …" (128) .
وكانت انتخابات 1986م - وهي أول انتخابات بعد سقوط النميري - دليلا ساطعا على تجذر الحركة في أوساط الشعب العامة ، بعد أن كانت نخبة معزولة ، وعلى أن الخسائر التي ألمت بها نتيجة التحالف مع النميري ، لا تضاهي المكاسب العظيمة التي حصلت عليها .
ثالثا : اختراق أجهزة الجيش والأمن
يقول الدكتور عبد الوهاب الأفندي : "لقد حقق الإخوان من خلال تعاونهم مع النميري فترة طويلة بعض الأهداف الحيوية من أهمها اختراق الأمن والجيش" (129) . ويقول حيدر طه : "من بين مكاسب الجبهة [=الحركة الإسلامية] التي نالتها بتعاملها مع نظام النميري لمدة ثمان سنوات كاملة ، أنها تعرفت على بنية الجيش الداخلية ، ووزعت بعض العناصر في مواقع مختلفة ، واستمالت بعض القيادات باستخدام أساليب متنوعة"(130) . ولم تقتصر استراتيجية الاختراق التي تبنتها الحركة على الجيش والأمن ، بل شملت القضاء والنقابات والمواصلات "وقد تم اختراق كل هذه القطاعات بتخطيط دقيق" (131). ولم يسلم "الاتحاد الاشتراكي السوداني" وفروعه الشبابية والنسائية من اختراق الحركة، بل "تغلغل الإخوان في الاتحاد الاشتراكي" (132) و"دفعت الحركة الإسلامية بعدد من القيادات في اتجاه اختراق تنظيمات الشباب والنساء المايوية ، في سبيل توظيف هذه التنظيمات في خدمة أغراض الحركة" (133) . وهكذا "والت الحركة الإسلامية محاولات اختراق نظام الرئيس نميري ، والتغلغل في صفه" (134) . وقد أثمرت تلك الاستراتيجية نتائج ثمينة ، إذ لم يسقط نظام نميري إلا بعد أن رسخت الحركة حضورها في بنية الدولة والمجتمع ، وضمنت لنفسها مستقبلا سياسيا في الساحة السودانية .
وكانت استراتيجية الاختراق هذه هي الشق الخاص من أهداف تحالف الحركة مع النميري ، وهي التي جعلت الحركة مستعدة للتضحية ببعض المظاهر ، والقبول بالمصالحة "بشروط أقل من تلك التي تمسك بها حلفاء سابقون لها" (135) . وهكذا فإن "قدرة الجبهة الإسلامية على القيام بانقلاب عسكري [عام 1989م] كانت ثمرة لاستراتيجيتها بعيدة المدى في اختراق الجيش ، التي بدأت بعد المصالحة مع النميري" (136) .
رابعا : إشاعة مناخ إسلامي عام
فقد احتاج النميري في حربه ضد الشيوعيين ، إلى إعلان تطبيق العقوبات الشرعية ، وبناء مناخ إسلامي عام ، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية في سودان السبعينات ، حيث كان للخطاب الشيوعي بريق وجاذبية شديدة . وقد سهل ذلك على الخطاب الإسلامي أن ينساب في أوساط النخبة وعبر المؤسسات العامة ، بل سهل مهمة اختراق قطاعات - مثل الجيش - كانت قليلة التسامح مع المتدينين ، وبذلك انفتح الباب أمام الحركة لتحقيق مطامح قديمة ، كما يقول الأفندي : "لقد بدأت محاولات الإخوان اختراق الجيش منذ الخمسينات ، لكن النتائج كانت هزيلة ، لأن ثقافة الجيش كانت تعادي التقاليد الإسلامية ، وكانت محكومة بقواعدها الخاصة التي تعتبر تعاطي الخمر وممارسة الزنا عنوانا للرجولة . فوجد الإخوان الذين انضموا إلى الجيش أنفسهم تحت ضغط شديد ، يفرض عليهم التكيف أو المغادرة" (137) . ويشير الأستاذ مكي إلى نفس المصاعب التي تواجه الحركة الإسلامية داخل المؤسسات العسكرية ، فيقول : "لماذا تضعف القابلية في الجيش للتغيير الإسلامي ؟ … إن الجيش أول جهاز تمت علمنته، أي تحديثه في العالم الإسلامي على النمط الغربي … وفي السودان بدأت علمنة الجيش مع تصفية جيش المهدية ، بعد عملية استعمار السودان في 1898 … ولما كانت مجتمعات الجيوش مجتمعات مغلقة ، فما كان من اليسير تغيير طبيعتها من الداخل ، كما حدث في المؤسسات التعليمية التي لبت نداء الدين . ولما كانت مناخات الجيوش في البلاد الإسلامية مناخات علمانية ، فقد كانت هناك القابلية لليسار والحركات العلمانية الأخرى" (138) .
فوجود مناخ إسلامي عام ، هو الذي فتح الباب أمام الإسلاميين السودانيين لإمكانية التقرب من هذه المؤسسة الحيوية التي تمسك بمقاليد الأمور في الدول الإسلامية الآن ، وتمثل أقوى حاجز بين الناس وبين الحياة الإسلامية في شؤونهم العامة .
خامسا : اكتساب خبرة سياسية ومراس إداري
لقد أكسبت المصالحة أبناء الحركة خبرة لا تقدر بثمن ، من خلال الاحتكاك بمواطن التأثير ، والمشاركة في صياغة القرار الرسمي . فقد تقلد عدد من قادة الحركة وأعضائها مناصب مكنتهم من التعامل المباشر مع الهيئات الرسمية ، والمؤسسات الإدارية في الدولة ، ودربتهم على طريقة عملها ، وأطلعتهم على نقاط قوتها وضعفها . وتلك خبرة ثمينة تحتاجها أي قوة تغيير طامحة إلى قيادة مجتمعها مستقبلا . وهي خبرة لا يمكن الحصول عليها بالتعامل مع جهاز الدولة من خارجه ، وخصوصا دول الاستبداد التي تتعمد تجهيل الشعب بما يجري وراء الكواليس ، تسترا على عوارها .
وبفضل هذه الخبرة السياسية والإدارية التي اكتسبها الإسلاميون من عهد المصالحة "أصبحوا القوة المسيطرة في الخرطوم ، ودخلوا مرحلة سياسية جديدة ، كانوا فيها أحسن القوى السياسية تنظيما، وأوسعها علاقات ، وأعظمها خبرة إدارية" (139) . كما تزودوا بهذه الخبرة لقيادة الدولة التي وصلوا إليها عام 1989 . . وقد أوردنا في بدء هذا الفصل الآثار السلبية للوصول إلى السلطة دون اكتساب الخبرة الإدارية والسياسية والدبلوماسية اللازمة لذلك.
سادسا : بناء قاعدة مالية قوية
فقد استفادت الحركة إفادة عظمى من المؤسسات المالية والاقتصادية التي سمح النميري بإقامتها ضمن برنامج تطبيق الشريعة . ومن أهم هذه المؤسسات البنوك الإسلامية التي ظهرت في السودان في تلك الفترة ، واستغل الإخوان وجودها أحسن استغلال ، كما لاحظ ذلك "بيتر وودوارد" فقال : "سعى الإخوان المسلمون [أيام المصالحة] إلى توسيع أنشطتهم ، وخصوصا من خلال الاستغلال الذكي للفرص التي وفرتها البنوك الإسلامية الجديدة ، التي كان لها أثر بالغ على الحركة المالية والتجارية في السودان" (140) . وقد أفادت تلك البنوك الإسلامية الحركة فائدتين :
* أولاهما : اكتساب الخبرة الإدارية والمالية في تسيير مؤسسات مالية غير ربوية ، وهي خبرة ثمينة بالنسبة لحركة تسعى إلى إعادة بناء الحياة على هدي من الدين .
* وثانيتهما : ما وفرته هذه المصارف لأعضاء الحركة من موارد مالية - عبر القروض وغيرها - وهو أمر لا بد أن يرسخ قوة الحركة ومكانتها في مجتمع فقير .
لقد أشرنا في الفصل الأول من هذه الدراسة إلى أن المال هو أحد العناصر الثلاثة المكونة للقوة النوعية التي فرطت فيها الحركات الإسلامية مدة مديدة . وقد أدرك ذلك حكماء الصحوة ، مثل الشيخ محمد أحمد الراشد الذي دعا الإسلاميين إلى "توبة نصوح" من موقفهم السلبي تجاه القوة المالية في المجتمع المعاصر . لكن الحركة الإسلامية في السودان انتبهت إلى ذلك منذ السبعينات ، وتداركته بسرعة . ولم تكن استفادتها من المصارف الإسلامية أيام النميري إلا تعبيرا عن ذلك الوعي والانتباه .
سابعا : نشر نموذج التفاعل والإيجابية
لقد ساعد تحالف الحركة الإسلامية في السودان مع سلطة النميري في التخفيف من حدة الفكر الإطلاقي الذي ساد الخطاب الإسلامي في الستينات والسبعينات ، والأثر السلبي لذلك الفكر على منهج الحركات الإسلامية ، في نموها الداخلي وتعاملها مع الغير . فقدمت الحركة السودانية نموذجا مختلفا عماده الإيجابية والتفاعل مع السلطة ، بدلا من القنوط منها واعتزالها . وكان لذلك أثره على حركات إسلامية عديدة في الثمانينات وما تلاها ، كما لاحظ مكي في قوله : "أدى نجاح حركة المصالحة الوطنية في السودان ، ومنهج حركة السودان الإسلامية في المخاطبة والتعامل والتحالف مع الحكومات .. إلى إضعاف حاجز العزلة بين الحركات الإسلامية والحكومات … إذ دخلت الحركة الإسلامية المصرية انتخابات مجلس الشعب في بداية الثمانينات تحت مظلة "حزب الوفد الجديد" ، ونالت 8 مقاعد من أصل 393 ، وفي انتخابات ابريل 1987 شاركت الحركة الإسلامية المصرية في الانتخابات داخل مظلة "حزب العمل الاشتراكي" ، حيث نالت 35 مقعدا من أصل 448 بنسبة 17% من الأصوات . بينما نالت الحركة الإسلامية التونسية 14.5% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة مارس 1989. كما أصبح معظم قادة الحركات الإسلامية على مستوى العالم يتعاطفون مع الأنموذج السوداني ، على اعتبار أنه محاولة للخروج من ظروف التيه والسجون" (141) .
ولو لم يكن في تحالف الحركة مع النميري سوى إنقاذ السودان من السقوط في براثن الشيوعية، لكان ذلك كافيا . وفي هذا الصدد لن يكون في وسعنا إلا موافقة الأفندي في قوله : "لا أستطيع القول إن رفض المصالحة [مع النميري] خيار إسلامي ، إذا كانت النتيجة هي انتصار الشيوعية في السودان ، وهدم كل ما هو إسلامي في البلد" (142) .
وحينما آذن النميري حلفاءه الإسلاميين بالحرب ، وزج بهم في السجون يوم 10 مارس 1985 كانت الحركة قد قطفت ثمار المصالحة كاملة غير منقوصة ، ورسخت قدمها في الدولة والمجتمع بشكل لا يمكن اجتثاثه . فلم تكن الاعتقالات نهاية الحركة - كما أراد النميري - بل كانت نهاية النميري نفسه ، الذي لم تتجاوز فترة حكمه بعدها شهرا واحدا .
الإخوان وعبد الناصر
ولا بأس في أن نختم هذا الفصل بمقارنة بين الحركة الإسلامية في السودان في تعاملها مع النميري ، وبين الحركة الإسلامية في مصر في تعاملها مع عبد الناصر وسلطة "الضباط الأحرار" ، تعميقا للخبرة والعبرة في هذا المجال .
لقد اعتاد الوعي الإسلامي أن يتناول علاقة الإخوان في مصر بعبد الناصر بعقلية جبرية ، لا مكان فيها لفكرة "الإمكان التاريخي" ، ولا مجال فيها للتمييز بين الخطإ والخطيئة . فضاعت على الإسلاميين - في مصر أولا ثم في كل أرجاء العالم - فرصة الاعتبار بالأخطاء التي قادت إلى أكبر محنة في التاريخ الإسلامي المعاصر . وانشغل الكتاب الإسلاميون بالحديث عن خطيئة عبد الناصر في اضطهاد الحركة ، عن أخطاء التقدير السياسي والاستراتيجي التي ارتكبها قادة الحركة من غير وعي بها ، ولا إدراك لما يترتب عليها ، فساعدت على الدخول في الورطة ، وفوتت على الحركة فرصا عظيمة للازدهار والتمكين .
ولا بد من الإشارة في البدء إلى أن فرص الحركة الإسلامية المصرية في التفاهم مع سلطة "الضباط الأحرار" واحتوائها - أو تحييدها واجتناب شرها على الأقل - كانت أحسن بكثير من فرص أختها السودانية ، لأن الإسلاميين المصريين كانوا شركاء في الثورة ، ولهم وجود معتبر بين الضباط حينها ، على عكس الإسلاميين السودانيين ، كما أن قادة الثورة المصرية ابتدأوا حكمهم متحمسين للتفاهم مع "الإخوان" تقديرا لجهدهم في الثورة ، وسعيا إلى احتواء قوتهم السياسية والعسكرية ، وتوظيفها ضد ذيول السلطة الملكية . كانت علاقة الإخوان بالثورة المصرية مثل علاقة الشيوعيين السودانيين بثورة النميري : شركاء في الثورة ، وحلفاؤها الطبيعيون ، مع التحفظ منهم والسعي إلى احتوائهم ، ضمن التنافس الداخلي بين الأجنحة والرجال الأقوياء في التشكيلة القيادية الجديدة . والمؤسف أن الإخوان في مصر ارتكبوا نفس الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية التي ارتكبها الشيوعيون السودانيون ، والتي نتجت عن فكر إطلاقي لا يعترف بالتدرج أو الحلول الوسط ، وخلط بين الأهداف المرحلية والمستقبلية ، ونقص في إدراك الواقع السياسي بكل تفصيلاته وملابساته .
وقد قدم الدكتور النفيسي تحليلا لتلك العلاقات جديرا بالتأمل ، ونستسمح القارئ الكريم في نقل هذا التحليل - على طوله - نظرا لأهميته ، وخروجه عن الرؤية الجبرية التقليدية التي طالما قدمت بها تلك الأحداث . يقول النفيسي : "كان من الممكن أن تتطور هذه العلاقة الخاصة [قبل الثورة] لتتحول إلى تحالف استراتيجي بين الهيئة الحاكمة الجديدة (مجلس قيادة الثورة) والإخوان . غير أن عوامل عديدة ضغطت باتجاه آخر تماما . ويبدو أن ترتيب الأولويات بالنسبة للطرفين قد بدأ يتعارض ، عندما تبدل ميزان القوى جذريا لصالحهما . كان الضباط في مجلس قيادة الثورة (أغلبهم وليس جميعهم) يرون أنه لا بد من التركيز على تحقيق ثلاثة أهداف ، لكي يستقر مد التغيير الذي حصل على هيئة الحكم بانقلاب 32/يوليو / 1952 . الأول : تنمية الجيش وتحديثه … والثاني تحقيق جلاء الجيش البريطاني … والثالث القيام بإصلاح زراعي في الريف … ويبدو أن أولويات الإخوان كانت تختلف عن هذا التسلسل ، بل أستطيع أن أزعم بأن نظام الأولويات وترتيبها لدى الإخوان لم يكن واضحا بالقدر الكافي ، أقصد أن الإخوان وقتها كانوا يعرفون بالضبط ما لا يريدون ، لا ما يريدون ، كانوا ضد سيطرة الضباط على البلاد ، ربما لأنهم أحسوا بأنهم والضباط على غير وفاق سياسي . لذلك نجد أن الإخوان قد بالغوا في التعبير عن خلافاتهم مع مجلس قيادة الثورة . ولقد برز الخلاف للجمهور من خلال رفضهم الاشتراك في الوزارة. ولقد صرح المرشد العام للإخوان آنذاك حسن الهضيبي رحمه الله للصحف المصرية قائلا: "لقد عرض علينا الاشتراك في الوزارة ، ولكننا اعتذرنا" . وتم فصل الشيخ الباقوري من عضوية الإخوان ، لأنه قبل الاشتراك في الوزارة . ثم نجد الإخوان - ولم يكن ذلك ينم عن بعد نظر سياسي - يتدخلون في خلافات الضباط داخل مجلس قيادة الثورة ، فيقفون مع نجيب - ولم يكن له قوة داخل المجلس - وضد عبد الناصر ، الذي كان يسيطر على الضباط داخل المجلس . كان على الإخوان أن يدركوا وقتها أن التنافس بين نجيب وعبد الناصر كان تنافسا غرضه السلطة (من الطرفين ، وليس من عبد الناصر فقط ، كما تفيد مصادر الإخوان) وكان من الأجدر والأحوط سياسيا الابتعاد ما أمكن عن هذه اللعبة النارية ، التي أحرقت أطرافا سياسية في مصر ، منها الإخوان . هذه العوامل مجتمعة : رفض الإخوان الاشتراك في الوزارة ، والإعلان الصريح حول ذلك في الصحف ، ومشايعة نجيب ضد عبد الناصر ، وحشود جمهور الإخوان في هذا المجال .. أدخل الإخوان في صراع مباشر مع السلطة الجديدة (وهي سلطة لم تستقر بعد) وهو صراع لم يستكمل الإخوان شروط مباشرته ، ولم تتحمل السلطة الجديدة الشروع فيه ، أو حتى مجرد الاعتراف به ، بما أنها سلطة مضطربة لم تستقر بعد في النسيج الاجتماعي لمصر . وكانت المعادلة - معادلة الصراع - تميل دون شك لصالح مجلس قيادة الثورة ، برئاسة عبد الناصر ، الذي كان يمتلك وقتها عنف جهاز الدولة وآلته الدعائية … ونتج عن ذلك مذابح للجماعة ذهب ضحيتها آلاف من رجالات وشباب الإخوان ، على أعواد المشانق وفي غياهب السراديب والزنزانات . وبدلا من أن يقف الإخوان للمراجعة والمدارسة والنقد الذاتي لأساليب العمل وكيفياته (ولا أقول لشيء آخر) يلاحظ المرء أن تفسيرهم للأحداث السياسية التي عصفت بهم لا يخلو من مسحة كربلائية ، تؤكد على حتمية المحنة (وأن المحنة منحة ربانية) وأن ما أصابهم هو جزء من التمحيص الرباني للصفوف" (143) . ثم يبين النفيسي أن ما وقع بعد ذلك لا يصلح تفسيره بالعقلية الجبرية، إذ لم يكن ضربة لازب ، بل كان احتمالا من ضمن احتمالات عدة ، لم تحسن قيادة الإخوان التعامل معها ، فيقول: "يشير محمود عبد الحليم [وكان من قيادات الإخوان آنذاك] لاجتماع هام جدا تم في منزل جمال عبد الناصر في 20/9/1954 بين الإخوان (يمثلهم ستة أشخاص من ضمنهم هو نفسه) ومجلس قيادة الثورة ، يمثله عبد الناصر . وكان الغرض من هذا الاجتماع حل الخلاف المستمر بين الإخوان وعبد الناصر . وقد أشار محمود عبد الحليم أنه في نهاية الاجتماع الطويل (من 9 صباحا إلى 3 بعد الظهر) تم التوصل إلى اتفاق على هدنة لها شروطها ، وفي حالة تنفيذ الشروط من الجانبين تنفتح إمكانيات الصلح . أما شروط عبد الناصر على الإخوان فكانت أن يوقفوا حملتهم على اتفاقية الجلاء ، وأن يوقفوا إصدار النشرات المضادة لعبد الناصر . وأما شروط الإخوان على عبد الناصر [فكانت] أن يوقف الاعتقالات والتشريد للإخوان ، وأن يوقف حملته الصحفية عليهم . تم الاتفاق على ذلك ، لكن المؤسف حقا أن تجتمع الهيئة التأسيسية للإخوان بعد ذلك ، لترفض هذا الاتفاق . ولقد علق محمود عبد الحليم على ذلك قائلا : "لم يكن إخواننا هؤلاء [=أعضاء الهيئة التأسيسية] ولا إخوان الأقاليم يتوقعون ما كنا نتوقعه من أهوال ستنصب فوق رؤوسنا صبا، لأنهم حجبوا أنفسهم عن الحقائق ، ورضوا أن يعيشوا سابحين في الأوهام … وأرادوا أن يفرضوا على الواقع ما تخيلوه من أوهام"" (144) .
تلكم بعض أخطاء التقدير والمزالق السياسية التي وقعت فيها قيادة الإخوان في علاقاتها بالثورة الناصرية ، والحديث عنها أكثر فائدة وأكبر ثمرة للإسلاميين من الحديث عن طغيان عبد الناصر واستبداده ، إذا كنا نرغب في اكتساب الخبرة واستخلاص العبرة للمستقبل .
ومهما يكن فإن موضوع علاقة الحركات الإسلامية بالسلطة سيكتسب أهمية أكبر في المستقبل ، فقد اقتنع الحكام وظهيرهم الدولي بأن القمع المباشر لا يفيد ، وأن التضييق الكامل قد يولد انفجارات غير متوقعة ، وبدأت استراتيجية الاحتواء والترويض تظهر في كل مكان . وستتوقف طبيعة الثمرات على مستوى إدراك الحركات الإسلامية لأبعاد اللعبة ، واستيعاب مقتضياتها ، وهو ما نرجو أن نكون قد أوضحنا جوانب منه ، خلال هذه القراءة للتجربة السودانية في مجال العلاقة بالسلطة .
----------------------------------
هوامش الفصل السادس
(1)- الذهبي : سير أعلام النبلاء 3/74
(2) - Graham Fuller : Islamism in the Next Century (in the Islamism Debate p. 147)
(3)- G. Fuller : Islamism in the Next Century p. 148
(4) - مذكرات كورت فالدهايم (أربعون عاما في مسرح السياسة الدولية) ص 14 ترجمة عيسى بشارة ، ط أولى ، دار الكرمل، عمان ، الأردن 1987
(5)- نفس المرجع ص 17
(6)- نفس المرجع والصفحة
(7)- انظر Oxford Encyclopedia 2/126-127 وكذلك 2/380
(8)- الغنوشي والترابي : الحركة الإسلامية والتحديث ص 35 (نقلا عن الهرماسي : "الإسلام الاحتجاجي في تونس" ضمن ندوة "الحركات الإسلامية في الوطن العربي " ص 270)
(9) - انظر هذه المقولة منسوبة إلى مكي في Viorst : In the Shadow of the Prophet p. 117
(10)- نقلا عن د. عبد الله النفيسي : "مستقبل الصحوة الإسلامية" ضمن ندوة "الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي" ص 329
(11)- من تقديم النفيسي لكتاب "الحركة الإسلامية ، رؤية مستقبلية ، أوراق في النقد الذاتي" ص 26
(12) - د. حسن مكي : "الإخوان والسلطة" مقال منشور في صحيفة "الرأي العام" السودانية يوم 4/3/2001
(13) - نفس المقال
(14) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 31
(15) - نفس المرجع ص 68
(16) - Edgar O'balance : the Secret War in the Sudan 1955-1972 p. 105
(17) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 37
(18) - O'balance : the Secret war in the Sudan p. 105
(19) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 34
(20) - نفس المرجع ص 33
(21) - نفس المرجع ص 43
(22) - نفس المرجع ص 42
(23) - نفس المرجع والصفحة
(24) - نفس المرجع ص 49
(25) - O'balance : the Secret War in the Sudan p. 108
(26) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 73 (هامش) ط 1982
(27) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 57
(28) - نفس المرجع ص 49
(29) - فؤاد مطر: الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم انتحر ؟ ص 126
(30) - نفس المرجع ص 134
(31) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 52
(32) - نفس المرجع ص 53
(33) - نفس المرجع ص 43
(34) - انظر Mansour Khalid : Nimeiri and the Revolution of Dis-May p.12
(35) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 56
(36) - نفس المرجع والصفحة
(37) - Fransis M. Deng : War of Visions p. 18
(38) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 38
(39) - Edward Mortiner : Faith and Power, The Politics of Islam p. 261
(40) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 60
(41) - التقرير الاستراتيجي لمركز الأهرام عن الحالة الدينية في مصر عام 1987 ص 4
(42) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 102
(43) - نفس المرجع والصفحة
(44) - نفس المرجع ص 99
(45) - نفس المرجع ص 103
(46) - نفس المرجع ص 206
(47) - Simon : In Whose Image 52
(48) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 100
(49) - نفس المرجع ص 101
(50) - انظر مثلا O'balance : the Secret war in the Sudan p. 106
(51) - Peter K. Bechtold : Politics in the Sudan p. 267
(52) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 71
(53) - نفس المرجع ص 102
(54) - Oxford Encyclopedia 3/198
(55) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 196
(56) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان 195
(57) - نفس المرجع والصفحة
(58) - سورة الأنبياء ، الآية 35
(59) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 197
(60) - د. محمد عبد الباقي الهرماسي : الإسلام الاحتجاجي في تونس ، ضمن ندوة "الحركات الإسلامية
في الوطن العربي " ص 260
(61) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 114
(62) - EL-Affendi p. 119
(63) - Mohammed Mahmoud : in "religion, nationalism and peace in Sudan"
ملتقى نظمه "معهد الولايات المتحدة للسلام" في واشنطن يومي 16-17 سبتمبر 1997
(64) - Abd Assalam Sid'Ahmed : Islam & Politics in Contemporary Sudan p. 131-132
(65) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 199
(66) - Mohammed Elhachmi Hamdi : The Making of an Islamic Political Leader,
Conversations with Hasan al-Turabi p. 25-26
(67) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 41 وكذلك ص 34
(68) - Daniel Pipes : In the Path of God, Islam and political power p. 254
(69) - Mansour Khalid : Nimeiri and the Revolution of Dis-May p. 263
وقارن مع Peter Woodward : Sudan (1898-1989) the Unstable State p. 182
(70) - Albert Wohlstetter : No highway to high purpose بحث نشرته مؤسسة "راند" الأمريكية للأبحاث في موقعها على الإنترنت (www rand org) عام 2000
(71) - ابن تيمية : مجموع الفتاوى 13/96 تحقيق عبد الرحمن النجدي ، ط ثانية ، مكتبة ابن تيمية
(72) - رواه البخاري 3/1114 ومسلم 1/105وأحمد 2/309 والنسائي 5/278 والبيهقي 9/36 والدارمي 2/314
وابن حبان 3/377
(73) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 128
(74) - نفس المرجع ص 130
(75) - نفس المرجع ص 135
(76) - Mansour Khalid : Nimeiri and the Revolution of Dis-May p. 278
(77) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 125
(78) - نفس المرجع والصفحة
(79) - نفس المرجع ص 136
(80) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 43
(81) - التقرير الاستراتيجي لمركز الأهرام عام 1987 ص "ج" من المقدمة
(82) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 114
(83) - Peter Woodward : Sudan (1898-1989) the Unstable State p. 135
(84) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 135
(85) - انظر : EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 120-121 & 128
(86) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 124
(87) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 202
(88) - نفس المرجع ص 203
(89) - الهاشمي الحامدي : الحركة الإسلامية في السودان ص 40-41
(90) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 198
(91)- نفس المرجع والصفحة
(92) - نفس المرجع والصفحة
(93) - حيدر طه : الإخوان والعسكر ص 33
(94) - Mansour Khalid : Nimeiri and the Revolution of Dis-May p. 180
(95) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 123
(96) - نفس المرجع ص 207
(97) - نفس المرجع ص 138
(98) - نفس المرجع ص 207
(99) - نفس المرجع ص 124
(100) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 196
(101) - نفس المرجع ص 197
(102) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 114
(103) - دستور جماعة الإخوان المسلمين في السودان ، المادة 60
(104) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 104
(105) - نفس المرجع ص 160
(106) - نفس المرجع والصفحة
(107) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 114
(108) - التقرير الاستراتيجي لمركز الأهرام ص 6
(109) - Mohammed Mahmoud : in "religion, nationalism and peace in Sudan" مرجع سابق
(110) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 122-123
(111) - نفس المرجع ص 165
(112) - Oxford Encyclopedia 2/359
(113) - نفس المرجع والصفحة
(114) - Abd Assalam Sid'Ahmed : Islam & Politics in Contemporary Sudan p. 201 & 131
(115) - Sid' Ahmed 131
(116) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 126
(117) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 201
(118) - EL-Affendi : : Turabi's Revolution p. 115
(119) - تقرير مركز الأهرام ص 34
(120) - نفس المرجع ص 6
(121) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 122-123
(122) - Affendi 126 وقارن مع تقرير الأهرام الاستراتيجي ص 32 ومع Mansour Khalid : Nimeiri and the Revolution of Dis-May p. 208
(123) - Sid' Ahmed : Islam & Politics in Contemporary Sudan p. 193
(124) - تقرير مركز الأهرام ص 6-7
(125) - نفس المرجع ص (د) من المقدمة
(126) - Sid' Ahmed : Islam & Politics in Contemporary Sudan p. 201
(127) - Sid' Ahmed p. 201
(128) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 128
(129) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 129
(130) - حيدر طه : الإخوان والعسكر ص 132
(131) - Milton Viorst : In the Shadow of the Prophet p. 131
(132) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 125
(133) - نفس المرجع ص 165
(134) - نفس المرجع ص 110
(135) - تقرير مركز الأهرام ص 5
(136) - Sid' Ahmed : Islam & Politics in Contemporary Sudan p. 211
(137) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 102
(138) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 115-116 ط 1982
(139) - Simone : In whose Image p. 53
(140) - Peter Woodward : Sudan (1898-1989) the Unstable State p. 153
(141) - مكي : الحركة ا لإسلامية في السودان (1969-1985) ص 172
(142) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 185
(143) - النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ" (ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية" ص 223-225)
(144) - نفس المرجع ص 231



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية