الجمعة، 13 فبراير 2015

الحركة الاسلامية في السودان 6/8

الفصل الخامس
العمل في المجتمع

أرافق في طريقي كل سار *** وأعطيه نصيبا من طريقي
ولم أر في طريقٍ مستعـدا *** يكون إلى نهايتـه رفيقي
محمد إقبال

ليست الحركة الإسلامية بنية مغلقة ومعزولة ، بل هي كائن حي ينمو في وسط حي . لذلك فإن قضية العلاقات العامة من القضايا التنظيمية والاستراتيجية المحورية التي لا يمكن إغفالها . فالعلاقة بالقوى الاجتماعية المحلية وبالسلطة لها تأثير قوي على كيان الحركة الداخلي وامتدادها الخارجي. والعلاقة بالحركات الإسلامية الأخرى لها أهمية خاصة في مجال التعارف والتناصر وتبادل الخبرات، تعاونا على مشاق الطريق ، وتمهيدا لوحدة الشعوب الإسلامية .
لقد اشترط "دكميجيان" لنجاح الحركات الإسلامية في ضمان مستقبل سياسي أربعة شروط ، هي :
* تقديم برنامج إسلامي عام ومرن ، يتضمن خطابا قادرا على اجتذاب قطاعات واسعة من المجتمع .
* تنظيم "جبهة وطنية" مع الأطراف غير الإسلامية التي تعارض السلطة .
* بناء روابط قوية بين الحركات الإسلامية داخل وخارج الدول العربية .
* إفراز قيادات كفؤة قادرة على تفجير الثورة (1) .
وهكذا تجد أن الشرط الثاني والثالث يدخلان ضمن موضوع العلاقات العامة ، والشرط الأول غير بعيد عنها .
ونظرا للأهمية المحورية لموضوع العلاقات العامة بأبعاده الثلاثة ، فقد خصصنا هذا الفصل لمنهج الحركة الإسلامية في السودان في التعامل مع القوى الاجتماعية المحلية . كما خصصنا الفصلين التاليين لعلاقتها بالسلطة السياسية ، ثم بالحركات الإسلامية .
وتشمل القوى الاجتماعية التي نتناولها في هذا الفصل عشرة أصناف هي : الأحزاب ، والجيش ، والطلاب ، والعلماء ، والسلفية ، والصوفية ، والنساء ، والقبائل ، والمسيحيون ، والعمال .
لم تفقد الحركة الإسلامية السودانية أبدا الثقة في الجماهير المسلمة ، ولم تقف منها موقف عداء واستعلاء ، كما فعل البعض . بل أدركت أن المجتمع المسلم - مهما انحرف - تظل فطرة الخير مركوزة فيه ، وأن خير ما يفجر تلك الفطرة الكامنة هو التفاعل معها ، لا الانزواء عنها أو الاستعلاء عليها . وكانت الحركة عملية إلى حد بعيد في صلتها بمجتمعها : فهي تقدر كوامن الخير فيه وتشجعها ولو لابسها غبش ، وتقف في وجه الشر ، ولا تترك له فراغا يتمكن فيه .
كما أدركت الحركة السودانية أن التغلب على مشاق الطريق يقتضي البحث عن رفقة ، مهما كان الخلاف مع تلك الرفقة كبيرا ، ومهما كان السير معها محدودا زمنيا . فالخلاف مع أي من السائرين لا يقتضي حتما استحالة قطع جزء من الطريق في صحبته ، والرفقة الدائمة أمر بعيد المنال . وهو ما عبر عنه محمد إقبال في بيتين من شعره ، فقال :
أرافق في طريقي كل سار *** وأعطيه نصيبا من طريقي
ولم أر في طريق مستعـدا *** يكون إلى نهايتـه رفيقي (2)
كما عبر عنه نلسون مانديلا بقوله : "لم أجد حاجة إلى أن أصبح شيوعيا ، كي أعمل جنبا إلى جنب مع الشيوعيين" (3) .
ويمكن إجمال تجربة الحركة في التعامل مع القوى الاجتماعية المختلفة في كلمتين ، هما "التفاعل" و"الانفتاح" . ولعل القارئ قد أدرك من خلال حديثنا عن الشمول والتكامل القيادي - في الفصل الرابع - حرص الحركة على استيعاب مختلف قطاعات قاعدتها الاجتماعية في بنيتها القيادية . ويبقى تعاملها مع القوى الاجتماعية خارج الصف الحركي بحاجة إلى وقفات خاصة .
أولا : الأحزاب
لقد كان من نقاط الضعف في تجربة الإمام البنا - كما لاحظ الدكتور النفيسي بحق - "تحامله الدائم على الحزبية والأحزاب ، مما يعكس لديه غياب النظرية المتكاملة لعلاقاته السياسية داخل مصر"(4) . ولهذا الموقف أساس فكري ضعيف ، ينطلق من تصور مثالي للمجتمع البشري، وينسى أن التعدد سنة من سنن الله الطبيعية ، وأن المدافعة هي التي تحمي من الفساد كما بين القرآن الكريم . فحتى مجتمع الصحابة - وهو أكثر المجتمعات انسجاما فكريا - لم يكن يخلو من اتجاهات مختلفة ، لها اجتهاداتها المتباينة في الحكم على الرجال والسياسات . لم يكن أي من علي أو عثمان رضي الله عنهما يقود حزبا علمانيا والثاني حزبا إسلاميا ، لكن المجتمع انقسم على نفسه في ترجيح أيهما أكفأ ، ولم يتوصل إلى حل إلا بعد جهد كثيف من المشاورات ، قاده عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ثلاثة أيام بلياليها ، لم يكتحل فيها جفنه بكثير نوم ، حسب تعبيره (5) . فالحاجة إلى بذل كل هذا الجهد تكشف لنا عن أن انقسام المجتمع إلى توجهات سياسية مختلفة أمر لا مناص منه ، وأن مصادرة ذلك تعطيل للشورى ، وحجر لا مسوغ له . هذا على المستوى النظري ، أما على المستوى العملي فليس من الحكمة بالنسبة لحركة سياسية ناشئة ، لا تزال تبحث لها عن موقع واعتراف في مجتمعها أن تدعو إلى حظر الأحزاب - كل الأحزاب - ما عداها . بل الحكمة والواقعية أن تعترف بالآخر حتى يعترف بها . لكن البنا أخطأ التقدير في ذلك كما لاحظ الدكتور النفيسي ، فقال : "أما عمليا فلم يكن من المستساغ - سياسيا - أن يتحرك البنا في الأوساط السياسية ، داعيا إلى إلغاء - نعمْ إلغاء - كافة الأحزاب ما عدا جماعته من الوجود في الساحة… إن دعوة البنا المضادة للأحزاب والحزبية قد وتَّرت علاقاته السياسية معها ، رغم استعداد الأخيرة لقبول جماعة الإخوان كشريك سياسي في الساحة . هذا الموقف المضاد للتعددية السياسية، والذي تبناه البنا رحمه الله، قد وضع الجماعة في زاوية حادة ، من حيث علاقاتها السياسية بالفرقاء السياسيين ، وربما قطَع الجسور مع كثير من الأحزاب السياسية التي كسبت الشرعية السياسية الواقعية ، سواء بصلتها بالهيئة الحاكمة ، أم بقاعدة الجمهور . ويبدو أن جماعة الإخوان في مصر لم تزل تحاول الخروج من هذا المأزق الذي كان نتيجة خطإ كبير في اجتهاد المؤسس رحمه الله" (6) . وقد خطت حركة الإخوان في مصر خطوات جدية لتصحيح هذا الموقف خلال عقدي الثمانينات والتسعينات ، وشهد فكرها وعملها تطورا إيجابيا في هذا السبيل.
أما الحركة الإسلامية في السودان فلم تنطلق من منطلق فكري إطلاقي في علاقتها بالأحزاب السياسية ، ولا دفعها الصراع مع تلك الأحزاب إلى بت العلاقة معها ، أو إجمالها في سياق واحد، والدعوة إلى حلها كافة . بل ميزت الحركة بين الأحزاب التقليدية غير المناهضة للدين ، وبين الحزب الشيوعي ، فتوصلت بنظرتها الإصلاحية وتقديرها الاستراتيجي إلى التشخيص التالي بشأن الأحزاب التقليدية :
* أن قاعدة الأحزاب التقليدية السودانية (حزب الأمة ، والحزب الاتحادي ..) هي قاعدة إسلامية تاريخيا ، ينقصها الوعي ، وتستغلها قياداتها في تحقيق مصالح شخصية وطائفية . فهي ليست قوى علمانية أديولوجية ، بل هي "قوى الإسلام الفاقدة للوعي بذاتها" حسب تعبير الدكتور حسن مكي (7) . وينطبق هذا القول على حزب الأمة أكثر ، إذ أن قاعدته - الأنصار - هي بقايا حركة المهدي الجهادية ، التي دوخت الإنكليز نهاية القرن التاسع عشر ، وأقامت دولة إسلامية . لكن الإشكال يكمن في تناقض الذاكرة الجهادية مع الواقع السياسي اليوم في الطائفة ، وهو ما بينه مكي بقوله : "مع أن الأنصارية ظلت انتماء صارما بنصرة الدين ، إلا أنها ظلت تُوظَّف سياسيا ، وتُستخدَم ضد طبيعتها من قِبل المثقفين العلمانيين الذين سادوا في حزب الأمة ، والذين استخدموا الأنصارية لإشباع تطلعاتهم السياسية ، وتثبيت خيار العلمانية ، مستغلين جهل الأنصار ، الذين ظلوا أسرى للفقر والتخلف والعزلة والانكفاء ، كما أصبحوا غير قادرين على التمييز بين آل المهدي والدعوة الإسلامية . كما أن الأنصار في استصحابهم لموالاة بيت المهدي التقليدية، أصبحوا غير واعين بمضامين هذا العهد ، وغير واعين كذلك بالموالاة القائمة على علاقات الدم والقبيلة والعرق ، والمولاة المرتكزة على العقيدة ونصرة الدين … ولكنْ تعامَل المثقفون العلمانيون في حزب الأمة مع هذه الوقائع بانتهازية ماكرة ، مما أدى لإهدار طاقات الأنصار في بناء قاعدة اجتماعية واقتصادية لقوى العلمانية التي لا علاقة لها بالدين" (8) .
* أن الولاء العرفي الذي انبنت عليه الأحزاب التقليدية هو ولاء رخو ، يسهل النفاذ إليه بشيء من التفاعل والثقة . وقد تجلى ذلك من خلال قدرة الإسلاميين المشاركين في معسكرات التدريب في ليبيا - ضمن جهود "الجبهة الوطنية" المناوئة للنميري - على التقرب إلى "الأنصار" والتأثير فيهم ، رغم العوائق التي تفرضها قيادة حزب الأمة ، فقد "تجاوز الإخوان محاولات عزلهم عن الأنصار ، واجتهدوا في زيارة الأنصار والتعرف عليهم . وأثار وجود الإخوان في الصحراء تساؤلات عديدة وسط الأنصار .. إذ كانوا يظنون بأنه لا توجد مجموعات جهادية - تصابر على الشدائد والصحراء ، وما فيها من مصاعب وتدريب - غيرهم ، وأنه لا دعاة للشريعة غيرهم … ولكن قلبت معايشتهم للإخوان موازين تفكيرهم … تأثر عدد من شباب الأنصار بتدين شباب الإخوان ، وانعدمت العنصرية والقبلية وسطهم ، كما أعجبوا بنظام معسكرهم ، وأسلوب تعاملهم مع قيادتهم ، حيث انعدمت البروتوكولات والركوع وتقبيل الأيدي .. " (9) . وكان من نتائج ذلك أن "تأثر الأنصار بسلوك الإخوان والتزامهم الإسلامي ، فأثنوا عليهم ، وأكرموهم ، ووصفوهم بأنهم "أنصار" ينقصهم "الراتب" .. وهذه غاية الثناء عليهم" (10) .
* أن الحركة بحاجة إلى "الاستظهار" مرحليا بهذه القوى التقليدية ، تجنبا للانكشاف السياسي ، حتى تتحول إلى قوة مستقلة قادرة على المغالبة والأخذ بقوة . وقد ورد بيان لاستراتيجية الاستظهار هذه في وثيقة "العلاقات السياسية النظامية للحركة الإسلامية " الصادرة عام 1975، حيث جاء في الوثيقة : "ولا مناص للجماعة من الاستظهار باسم "الجبهة الوطنية" ، ما دام نفوذها الفئوي - والجماهيري خاصة - ليس اليوم كافيا" (11) . وألمح مكي إلى المغزى من هذه الاستراتيجية في إشارته إلى "محاولات الحركة الإسلامية للبحث عن الحلفاء المرحليين ، لتخفيف الضغط ، وتفادي المجابهة قبل أن يكتمل بناؤها"(12).كما أن هذه القوى التقليدية ذات العاطفة الإسلامية - مهما نقَصها الوعي - تصلح نصيرا في معارك الحركة مع القوى الأديولوجية المناهضة للدين بشكل سافر ، خصوصا الشيوعيين . وهو أمر سنرى أهميته فيما بعد . ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن التعاون مع تلك الأحزاب التقليدية ضَمن للحركة وجودا دائما في المعادلة السياسية ، وحافظ على أجواء الحرية السياسية التي استمتعت بها الحركة السودانية أكثر من غيرها من الحركات الإسلامية ، التي عزلت نفسها فانعزلت . وهكذا فبالرغم من إدراك الحركة لسعة الهوة بينها وبين قيادات الأحزاب التقليدية في المنطلق والهدف الاستراتيجي ، فإن الحركة ظلت حريصة على التعاون مع تلك الأحزاب، والاحتكاك بقواعدها ، في محاولة لانتشال تلك القواعد من واقع التجهيل بالدين والاستغلال السياسي الذي يمارسه عليها قادتها .
وقد أثمرت استراتيجية الاستظهار بالأحزاب التقليدية تحقيق بعض المكاسب التكتيكية المهمة ، منها :
* التخلص من دكتاتورية الجنرال عبود حيث "كان هدف أول تحالف عقدته حركة الإخوان السودانية يستهدف إسقاط نظام عسكري مستبد [= عبود] ، وليس إقامة دولة إسلامية" (13) . وقد تجسد هذا التحالف فيما عرف حينها بـ"الجبهة الوطنية المتحدة" التي تكونت من ممثلين عن الحركة الإسلامية والأحزاب السياسية الأخرى (14) .
* محاولة إصدار دستور إسلامي نهاية الستينات ، دعت إليه "جبهة الميثاق الإسلامي" ، وهي تحالف شكلته الحركة من مختلف القوى الإسلامية ، وأيدته الأحزاب التقليدية في مسعاه . ورغم أن انقلاب النميري وأَد المشروع قبل أن يولد ، حيث "وقع الانقلاب بضعة أيام قبل انعقاد جلسة البرلمان المقررة للمصادقة على مسودة الدستور الإسلامي" (15) فإن الجهد الفكري والإعلامي الذي بذل فيه ، أدخل فكرة الحل السياسي الإسلامي إلى قلوب كثيرين .
* حل الحزب الشيوعي السوداني بقرار من الجمعية التأسيسية يوم 11/11/1965 وإسقاط عضوية النواب الشيوعيين الثمانية في البرلمان يوم 29/12/1965 (16) وهو أمر ما كانت الحركة لتنجح فيه لولا دعم الأحزاب التقليدية ، خصوصا حزب الأمة . وسنرجع إلى هذا الموضوع فيما بعد .
* تخليص النقابات من سيطرة الشيوعيين في السبعينات ، إذ "لم يكن الهدف آنذاك هو السيطرة الكاملة على النقابات ، بقدر ما كان إزاحة الشيوعيين من قيادتها . وفي سبيل ذلك كان الإخوان مستعدين للتعاون مع أي كان" (17) . وقد نجحت تكتلات "النقابات الوطنية" التي شكلتها الحركة الإسلامية والأحزاب التقليدية في تخليص النقابات من براثن الشيوعية .
* محاربة نظام نميري والضغط عليه في أعوامه الأولى . فقد اشتركت الحركة في تأسيس "الجبهة الوطنية" المناوئة للنميري ، وشاركت بفعالية في نشاط الجبهة ، بما في ذلك المحاولات العسكرية المتكررة ، للانقلاب العسكري عليه ، أو غزوه من خارج ، والتي كان آخرها محاولة 2/7/1976 . وقد شكلت تلك المحاولة - رغم فشلها العسكري - وسيلة ضغط سياسي، قادت النميري في النهاية إلى قبول "المصالحة الوطنية" التي كانت الحركة الإسلامية أكبر المستفيدين منها.
* المشاركة في السلطة ، من خلال التحالف مع أحد الحزبين التقليديين . وقد حصل ذلك عدة مرات ، كان آخرها تقلد الترابي منصب وزير الخارجية لفترة وجيزة ، ضمن حكومة الصادق المهدي نهاية الثمانينات (18) . وللمشاركة في السلطة فوائد عملية عديدة ، تناولناها في الفصل السادس .
على أن تعامل الحركة مع الأحزاب التقليدية لم يخل من عثرات وعوائق ، وهو أمر لا يستغرب في العلاقات السياسية . وقد رصد الأستاذ مكي بعضا من هذه العثرات في تجربة الحركة الإسلامية مع الجبهة الوطنية المناوئة للنميري ، وبين أن الإسلاميين لم يكونوا راضين عن مسار الأمور في الجبهة الوطنية ..
*"حيث كان حظهم دائما مبخوسا حين قسمة المخصصات وتوزيع الأموال ، مع أن معظم أمور الجبهة كان يديرها عمليا الإخوان .
* كما كان معظم كوادر الإخوان القيادية والقاعدية في السجن ، وكان الإخوان يظنون أن قيادة الجبهة ستقوم بواجبها تجاه إعالة عوائل المسجونين وغيرهم ، الشيء الذي لم يحدث ..
* كما شعر الإخوان أن هناك محاولات لعزلهم وعزل عناصرهم عن التدريب .
* كما أخفيت عنهم حينا من الدهر أخبار المعسكرات ، وحينما علم بها الإخوان لم تُوفَّر لهم سبل الانضمام ، كما لم يتوفر لهم التدريب الكافي ..
* كما بذلت جهود للحيلولة بين الإخوان واختلاطهم وتفاعلهم مع الأنصار ..
وشعر الإخوان بأن المقصود من وراء كل ذلك تحجيم دورهم حتى يصبح وجودهم في الحركة ثانويا ، وبذلك ينتفي تأثيرهم عليها" (19) .
وقد تبين ضعف الثقة بين الحلفاء المنضوين تحت لواء "الجبهة الوطنية" أثناء المحاولة الفاشلة لغزو سلطة النميري يوم 2/7/1976 ، وقد شاركت فيها الحركة بكتيبة من شبابها الذين تدربوا في معسكرات "العوينات" بليبيا ، وكانت مهمة الكتيبة هي الاستيلاء على المطار ومركز الهاتف بالخرطوم (20) . لكن لاحظ الإسلاميون أن "قيادة الحركة [الانقلابية =الصادق المهدي] اجتهدت في تقليل دور شركائها ، والاحتراس منهم .. أكثر من اجتهادها في التخطيط الناضج والتفكير السليم في مستلزمات النصر ، الذي كان يتطلب تناسي كل التناقضات الجانبية ، وسد الثغرات ، وإدارة العملية على أنها مشروع تحالف مصيري مشترك" (21) .
ولأن الفشل هو أعظم هادم للثقة بين السياسيين ، فقد كان فشل تلك العملية العسكرية آخر ضربة للثقة المتزعزعة أصلا بين مكونات "الجبهة الوطنية" . وكان للحركة الإسلامية نصيبها من الإحباط وفقدان الثقة في الشركاء ، من خلال أمور ثلاثة :
* الأمر الأول : "أحس الإسلاميون أنهم كانوا ضحية لتصرفات بعض القائمين على أمر الجبهة ، وأنهم قاسوا الأمرين ودفعوا الثمن مرتين ، ومن دون أن يكون هناك اعتراف بدورهم ، إذ داخل دوائر الجبهة كانت تحجب عنهم المعلومات ، وألقت بهم قيادة الجبهة في معركة خاسرة ، من دون تحديد لدورهم ، ومن دون ربط لهم مع غيرهم ، بل كان التخطيط المستقبلي يحمل احتمالات عزلهم وتجاوزهم .
* والأمر الثاني أن معظم من كانوا في المعتقلات كانوا من الإسلاميين ابتداء بالقيادة ، وانتهاء بالعناصر الوسيطة والقاعدية .
* والأمر الثالث أنهم مهروا الحركة [العسكرية ضد النميري] بدماء عشرة من أعز أبنائهم من طلاب الحركة الإسلامية داخل وخارج البلاد ، ولم تكن ثمار هذه التضحيات واضحة"(22) .
وهكذا كان من أسباب تفكك الجبهة الوطنية المناوئة للنميري
*"عدم التجانس بين الجزئيات المكونة لحركة الجبهة
* والتباين في الأفكار
* وعدم الثقة .
إذ خشي الأنصار من أن يفوز الاتحاديون بالغنيمة ، لذا فقد أعدوا تدابير خاصة خارج إطار التدبير العام ، كما أن الاتحاديين والأنصار خافوا من أن يفوز الإسلاميون بالغنيمة ، خصوصا وهم [أي الإسلاميون ، هم] العنصر المنظم والواعي بمتطلبات الحركة فنيا وتنظيميا ، فلجأوا إلى عزل العنصر الإخواني ، وحالوا بينه وبين مواقع التحريك الإعلامي ، كما حجبوا عنه كثيرا من المعلومات الضرورية" (23) .
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالريبة والتوجس ، بدأت القوة السياسية المكونة للجبهة تبحث لها عن دور جديد ، من خلال المصالحة مع النميري - هذه المرة - لا محاربته . وبدأ السباق المحموم على ذلك . وبرهنت الحركة الإسلامية أنها السباقة دائما ، كما سنشرحه في الفصل السادس بإذن الله .
ورغم هذه النهاية الصعبة في التحالف مع الأحزاب التقليدية ، فقد كان لذلك التحالف فوائد جمة لعل أهمها أن النميري الذي كان واثقا من نفسه ، أصبح يحس بالخطر ، ويدرك أن التمادي في درب المجانبة الكاملة للقوى الإسلامية والوطنية أمر غير مضمون الثمرات ، فكان التفكير في المصالحة .
أما الحزب الشيوعي السوداني فكان أمره مختلفا. ويتبين ذلك من خلال المعطيات التالية :
* يختلف الحزب الشيوعي عن الحركة الإسلامية في المنطلق الفكري والعقائدي ، ويقدم مشروع مجتمع مناقضا لمشروع المجتمع الذي تقدمه . خصوصا وأن القائد الفكري والسياسي للحزب - عبد الخالق محجوب - كان ماركسيا جَلْدا ، ولم يكن مجرد سياسي يميل إلى النزعة اليسارية أو الاشتراكية الاجتماعية (24) .
* ينتمي قادة الحزب الشيوعي وأغلب أعضائه إلى القوى الحديثة المتعلمة التي تنتمي إليها وتراهن عليها الحركة الإسلامية ، حيث إن "كلا من المنظمتين تتجه بخطابها إلى نفس الطبقة الاجتماعية ، أي الشباب المتعلمين الذين ساءهم الفشل المتكرر للقوى التقليدية في حل المشكلات الوطنية" (25) .
* يشكل الحزب قوة متماسكة أديولوجيا وتنظيميا يصعب النفاذ إليها . وقد لاحظ ذلك "هولت" فقال : "إن القوى السياسية الوحيدة التي كانت منظمة آنذاك [الخمسينات وبداية الستينات] ، وتجمعها أديولوجية متماسكة ، ولم تكن مجرد تابع لمصلحة شخصية ، أو ولاء طائفي، هي الحزب الشيوعي [السوداني] " (26) .
* كان الحزب يمتلك سندا إقليميا ودوليا قويا ، متمثلا في العلاقات الشخصية الحميمة التي تربط عبد الخالق محجوب بعبد الناصر ، ومساندة الاتحاد السوفياتي ودول أوربا الشرقية له . وهو أمر اتضح من خلال التدخلات السوفييتية الكثيرة لصالحه ، ومن خلال لجوء عبد الخالق محجوب إلى سفارة بلغاريا حينما هرب من سجن النميري (27) .
كل هذه المعطيات تجعل شأن الحزب الشيوعي السوداني مختلفا عن شأن الأحزاب التقليدية ، لذلك كان الحزبَ السياسي الوحيد الذي نابذته الحركة بدون هوادة . ولم يكن سبب ذلك - كما رأينا - هو بشاعة طرحه الإلحادي فقط ، وإنما لأنه كان الحزب الوحيد الذي يشكل خطرا استراتيجيا على الإسلام في السودان ، نظرا لقوته التنظيمية ، ودعايته الأديولوجية ، وسنده الدولي . فكانت المفاصلة هي قاعدة العلاقة بين الحركة الإسلامية والحزب الشيوعي ، إدراكا من الحركة أن لا مستقبل للتحول الإسلامي في السودان مع وجود هذا الخطر الأحمر . لذلك "كانت واحدة من استراتيجيات العمل الإسلامي في الفترة 1965-1969 تأمين الجبهة الداخلية بمحاربة الحزب الشيوعي ، ونزلت هذه السياسة إلى الميدان في شكل اتحادات [مهنية] وجبهة نسائية وروابط معلمين ، وفي حملة إعلامية ضاربة من منابر المساجد والليالي السياسية" (28) .
وقد آتت هذه الاستراتيجية أكلها ، فنجحت الحركة في حشد القوى السياسية التقليدية وتعبئة المجتمع والدولة لحل الحزب . وفي يوم 11/11/1965 أعلنت الجمعية التأسيسية السودانية حل الحزب الشيوعي ، وهي محاصرة بما يقرب من مائة ألف مواطن ، جاءوا من مختلف بقاع السودان، كما أسقطت عضوية النواب الشيوعيين الثمانية في البرلمان يوم 29/12/1965(29).
ولم تكن تلك الإجراءات نهاية الحزب الشيوعي ، ولا خاتمة الصراع بينه وبين الحركة الإسلامية ، بل ظل الحزب تحديا مباشرا للحركة من خلال اختراقه للجيش والنقابات ، وتحالفه مع النميري أول عهده . وهي أمور يحسن تأجيل الحديث عنها إلى الفصل السادس ، لصلتها بموضوع العلاقة بالسلطة .
ثانيا : الجيش
لقد أشرنا في الفصل الأول إلى أن القوى النوعية المتحكمة في المجتمعات الإسلامية الحالية ثلاث قوى : الجيش والمال والإعلام ، وفي المجتمعات الغربية - حيث تنبني شرعية السلطة على الاختيار لا على القوة - فقد الجيش نفوذه كقوة سياسية ، فتبارى الناس في التأثير من خلال المال والإعلام . ومن هنا فطنة اليهود الذين اتجهوا إلى هاتين القوتين ، فسيطروا بهما على الحياة السياسية في دول الغرب .
أما الجيش في الدول الإسلامية - وفي العالم الثالث عموما - فهو مؤسسة سياسية تملك القوة ، في مجتمعات لا تزال الشرعية فيها خادمة للقوة لا العكس ، وهو أقوى مؤسسة علمانية في المجتمعات الإسلامية الحالية ، وأكثرها تماسكا ، وأقواها عصبية . ويرجع ذلك إلى ارتباط هذه المؤسسة بتنشئة الاستعمار وميراثه ، وهو ما يشرحه مكي في الحالة السودانية بقوله : "إن النواة التي قامت عليها قوة دفاع السودان هي بقايا حملة جيش "كتشنر" الغازي … وأصبح الجيش السوداني قولا وفعلا تابعا لجيش الامبراطورية البريطانية التي اعتنت به على أنه جيش علماني ، تقوم فكرته على الفناء في شخصية الدولة ، وحماية التراب ، وطاعة الرتبة الأعلى ، والقتال الآلي القائم على مسخ الانتماء العقائدي والفكري ، باعتبار الولاء لفكرة العسكرية كمهارة مدفوعة الثمن . وحلت في هذا الجيش آليةُ الوظيفة العسكرية محل قيم الجهاد ، ونصرة الإسلام ، وبسط الشريعة .. لقد دُمِّر الجيش العقائدي ، ليحل محله الجيش الوظيفي" (30) .
وليس خفيا دور الجيش في بناء الدول الإسلامية-العلمانية الحديثة التي منحها الاستعمار شهادة الميلاد ، وأن "الدولة العلمانية الحديثة سواء في تركيا أو مصر أو السودان إنما نهضت على أكتاف المؤسسة العسكرية" (31) وفي الحالة السودانية بالذات "يمكن القول : إن السودان صنعه الجيش ، كما قام على حكم الجيش" (32) وهو أمر ينطبق على أغلب الدول الإسلامية الحالية ، التي لم تعرف تقاليد الدولة الحديثة إلا تحت قهر الاستعمار والجيش الوطني الذي خلفه .
ولأن الحركة الإسلامية في السودان حركة واقعية عملية ، فقد أدركت ، بعد أعوام الحشد السياسي والفكري ، أن الجيش - ببنيته وثقافته الحالية - حاجز كثيف أمام التغيير الإسلامي ، وأداة فعالة من أدواته . كانت بداية هذا الوعي عام 1969 "حينما تحرك الضباط الأحرار بقيادة النميري ، وبتحالف مع اليسار ، فوجد الإخوان أنفسهم عزلا … كما اكتشفوا الواقع المرير المتمثل في عجزهم عن تعبئة الجماهير ضد عدوهم اللدود ، وأنْ لا خيار أمامهم سوى التوسل إلى قيادات الأحزاب التقليدية لفعل أي شيء ينقذ الموقف . لقد كان ذلك العجز درسا مريرا استوعبه الإخوان تماما" (33) .
كما أن الإسلاميين السودانيين "انتبهوا إلى المسافة الواقعة بين إقرار الشكل الدستوري والترجمة الحقيقية لهذا الدستور ، أو قل سريان روح الإسلام داخل أجهزة الدولة ومعاملاتها … و[التي] لا يكفي الإعلان الدستوري لجعلها دولة عابدة ، مما أثار قضية شوكة الدولة العلمانية "المؤسسة العسكرية" ، وكيفية أسلمة هذه المؤسسة ، كمدخل لإسلام بقية أجهزة الدولة" (34) .
ويمكن تصور ثلاثة طرائق في التعامل مع المؤسسة العسكرية في الدول الإسلامية المعاصرة :
* تحييدها سياسيا ، من خلال بناء تحالفات سياسية عريضة ، تضع الجيش وجها لوجه أمام الشعب كله أو جله . وبذلك لا يجد الجيش خيارا غير الانسحاب من السياسة ، وتسليم السلطة للمدنيين . والعائق الأكبر أمام هذا الخيار هو ضعف الوعي السياسي لدى الشعوب المسلمة ، والأنانية التي تتسم بها القوى السياسية فيها ، بحيث لا تستطيع بناء جبهة عريضة مشتركة ، تتواضع على قواعد أخلاقية للعمل السياسي ، تكفل حرية العمل للجميع ، وتتحاكم إلى الشعب، كما هو الشأن في الدول المتقدمة الآن .
*غزوها من خارجها من خلال بناء قوة موازية لها . وهو أمر كان ممكنا في الخمسينات والستينات ، حينما كانت دول العالم الثالث حديثة عهد بالاستقلال ، هشة البنية ، ولم تكن جيوشها قد تحولت إلى مؤسسات متماسكة . لكنه أصبح أمرا متعذرا ، باهظ الثمن بعد ذلك. وهو ما تشهد به تجربة الجزائر اليوم . كما أن الثقافة التاريخية في الدول الإسلامية السُّنِّية التي تحكَّم فيها هاجس الخوف من الفتنة ، لا تؤيد فكرة الصدام المباشر مع قوة الدولة لنصرة الدين ، مهما كان ذلك مجديا أو متعينا .
* اختراقها من الداخل من خلال عملية تسرب بعيدة المدى . وهو أمر يستلزم خبرة فنية كبيرة، وقوة تنظيمية وتخطيطية لا تملكها جل الحركات الإسلامية . كما أن الحكام المستبدين وظهيرهم الدولي يقظون جدا لهذه الثغرة ، فجل عملهم الوقائي يتركز عليها . ومع ذلك فإن هذه الطريقة هي أقل الطرائق الثلاث مخاطر ، وأخفها ثمنا على الأمة ، وعلى الجيش الذي يظل أبناؤه جزءا من الأمة ، يستحق الترفق ، ويحتاج إلى الهداية .
ويمكن القول إن الحركة الإسلامية في السودان جربت الطرائق الثلاث :
* ففي نهاية الخمسينات وبداية الستينات نهجت الحركة نهج التحييد السياسي للمؤسسة العسكرية ضمن "الجبهة الوطنية المتحدة" التي استطاعت الإطاحة بالجنرال عبود ، بعد ستة أعوام من المنازلة السياسية (1958-1964) . وبفضل مساهمة الحركة في تلك الجهود أصبح لها ممثل في الحكومتين الانتقاليتين اللتين خلفتا حكم الجنرال عبود ، كما أصبح لها سبعة ممثلين في البرلمان في انتخابات 1965 (35) .
* وفي بداية السبعينات لجأت الحركة إلى خيار غزو المؤسسة العسكرية من خارجها ، أولا بالتحالف مع الأنصار في ثورتهم الشعبية المسلحة ضد النميري في مارس 1970، والتي انتهت بفاجعة عسكرية في جزيرة (أبا) مأوى الأنصار ، وفقدت الحركة واحدا من أبرز قادتها في المعركة هو الدكتور محمد صالح عمر . وثانيا ضمن "الجبهة الوطنية" المتمركزة في ليبيا ، ولم تثمر تلك المحاولة ثمرات عسكرية تذكر . بل انتهت بفشل عسكري ذريع يوم 2/7/1976 ، لكنها أثمرت فوائد سياسية ، قادت إلى المصالحة مع النميري .
* وفي نهاية السبعينات وبداية الثمانينات تركز جهد الحركة على اختراق بنية الجيش داخليا ، بعد أن تأكدت من وقوف قيادة الجيش في وجه المشروع الإسلامي . فكانت ثورة الإنقاذ فجر الثلاثين من يونيو 1989 حصيلة "استراتيجية التمكين" التي اعتمدتها الحركة على مدى عقد من الزمان . وسنرى في الفصل السادس - بإذن الله - كيف استطاعت الحركة أن تسير في هذا الدرب بنجاح ، بفضل المصالحة مع النميري ، وما صاحبها من مناخ إسلامي عام .
وكانت الحركة السودانية آخذة في الاعتبار كل هذه الطرائق بشكل متواز ، وإن غلب عليها ترجيح طريقة معينة في كل مرحلة زمنية كما رأينا . فمحاولة الرشيد الطاهر الانقلابية الفاشلة ضد الجنرال عبود عام 1959 تدل على أن طريقة الاختراق الداخلي كانت حاضرة ، رغم تركيز الحركة على التحييد السياسي حينها . كما أن طريقة القوة الموازية ظلت حاضرة ، رغم التركيز على الاختراق الداخلي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات . وتدل على ذلك مشاركة بعض التشكيلات الإسلامية شبه العسكرية - التي تدربت في ليبيا أيام "الجبهة الوطنية" - في ثورة الإنقاذ عام 1989 ، حيث "قامت بمهام تتعلق بالتأمين والاستطلاع في كفاءة ، وخفض مظهر ، بحيث لم تبرز في واجهة الأحداث إلا أذرع العسكريين المحترفين" (36) .
فإذا تركنا الجوانب الفنية جانبا ، ونظرنا إلى التعامل مع المؤسسة العسكرية من زاوية مبدئية ، فإن طريقة التحييد السياسي هي التي تنسجم مع أخلاقيات العمل الإسلامي . وحتى لو لجأ الإسلاميون إلى الطريقتين الأخريين ، فينبغي أن يكون الهم الأهم هو تحرير الشعوب المسلمة من الاستبداد والفساد ، لا الاستيلاء على السلطة في ذاته . فليس الاستيلاء على السلطة سوى وسيلة لتحرير الناس من شرورها ، وإلا فقدَ قيمته الأخلاقية . لكن ذلك لن يعني بحال قبول الحركة بالانكشاف أمام زمرة متعطشة للدماء ، لا تقيم لخيار الأمة وزنا. وخلاصة الحكمة هنا ما ورد في الكتاب العزيز: فقد علمنا الخالق الحكيم أن الحق لا يقوم ولا يأمن بغير قوة : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"(37) ثم بين في الآية التالية أن هدف القوة هو إقامة السلم ورفع الظلم "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" (38) . فمتى ارتفع الظلم ، وانتفت الحواجز أمام الحق لم يعد لاستخدام القوة مبرر ، حتى وإن كان ذلك لا يغني عن مواصلة الإعداد والاستعداد . فالإعداد والاستعداد الدائم جزء من فلسفة الجهاد في الإسلام ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة . وثمرة القوة أكبر بكثير من مجرد استخدامها ، كما تشهد به عبرة نصف قرن من الحرب الباردة بين الشرق والغرب .
إن ما فعلته الحركة السودانية لم يكن سوى الاستعداد لظروف القهر ، وأخذ العبرة من محنة حركات إسلامية ، خاضت أيدي الظلمة في دمائها ، وهذا واجب يحتمه الشرع والعقل . فقد توالت في السودان حوادث منذرة بالخطر مطلع العام 1989 ، ولم يكن للحركة الإسلامية أن تتجاهلها . هذه الحوادث هي :
* مطالبة كل من وزير الدفاع السوداني ورئيس أركانه رئيس الوزراء الصادق المهدي بإبعاد الإسلاميين من المشاركة في السلطة (39) .
* استقالة وزير الدفاع يوم 20/2/1989 احتجاجا على استمرار مشاركة الإسلاميين في الحكومة .
* رفع مائة وخمسين من كبار الضباط السودانيين في اليوم الموالي للاستقالة مذكرة إلى الحكومة تدعو إلى ذلك (40) .
ولم يكن الأمر ليقف عند هذا الحد ، حسب رؤية الحركة الإسلامية للأحداث - وهي مطلعة على بواطن الأمور - بل "كان تحليل الإسلاميين أن الأمر أكبر من ذلك ، وأن هناك تجهيزا لانقلاب عسكري تقوم به قيادة الجيش ، وأن هذا الانقلاب سيكون من أولوياته استئصال الإسلاميين"(41) . لذلك لم يكن أمام الحركة سوى التحرك بسرعة ، والأخذ بقوة ، تجنبا لاستئصال المشروع الإسلامي، وتكرار المأساة التي تعرض لها الشباب الإسلامي في دول عربية عديدة .
ويبقى أن تبرهن الحركة الإسلامية في السودان على أن انقلابها العسكري ، وتضحيتها بالشرعية السياسية ، إجراء مؤقت اقتضته ظروف معوجة ، وأن تفتح الباب لبناء شرعية جديدة ، لا تكون القوة فيها هي الرهان ، ولا يكون فيها خطر على الإسلام .
ومهما يكن من أمر ، فإن التعامل مع المؤسسة العسكرية - تحييدا أو غزوا أو اختراقا - سيظل تحديا جديا أمام المشروع الإسلامي "وستظل إشكالية الدولة الإسلامية معلقة بهوية وطبيعة المؤسسة العسكرية وامتداداتها ، من نظام تعليمي وخدمة مدنية ونظام قانوني" (42) . وكلما تقدمت الحركات الإسلامية في سعيها ، وتبصرت أكثر حول عوائق الطريق ، وتمرست بأساليب التكيف معها ، ستتبين لها أهمية المؤسسة العسكرية في معادلة الحسم .
ثالثا : الطلاب
نشأت الحركة الإسلامية في السودان على أيدي جماعة من الشباب الطلاب - كما رأينا في الفصل الأول - وكانت الحركة دائما أكثر تحيزا لهذه الطائفة "فكان الطلاب هم محور كل الحركة الإسلامية" (43) "إذ استصحبتْ تقديرا بأن الطلاب هم رواد المستقبل، فالعمل فيهم ضمان لمستقبل إسلامي" (44) . وهو أمر أثر على خطاب الحركة ومسارها ، كما لاحظ محمد محمود ، فقال : "إن طبيعة خطاب الحركة في طور النشوء صاغتها إلى حد بعيد جذورها الطلابية"(45) .
ولا ريب أن الحركة قطفت ثمارا طيبة من هذا النهج ، وكان من أسباب حيويتها وفاعليتها، والسر في منحاها التجديدي في الفكر والعمل . ولم يخب ظن الحركة في شبابها وطلابها بعد تجاوز طور التأسيس ، واستقلال الطلاب الإسلاميين كيانا قائما بذاته ، ضمن هيئات الحركة ومحاورها العامة ، إذ أن "عطاء الحركة الطلابية للحركة الإسلامية العامة كان جليلا ... لأنها كانت الإطار الأمتن بناء، والأحكم تنظيما ، والأكثر استعدادا فكريا وتنظيميا لتطوير الاستجابات المناسبة لكل ابتلاء طارئ " (46) بل إن الطلاب "بلغوا من إحكام التدبير وإحسان الأداء وإنجاز الفعل مستوى أرقى بكثير من سائر الحركة" (47) .
إن الأهمية الكبرى للتركيز على الطلاب في عمل الحركات الإسلامية غير خافية :
* فهم يمثلون بذرة النخبة التي تتحكم في مصائر الناس مستقبلا ، فلا يمكن لمن يراهن على المستقبل أن يتجاهل أهميتهم .
* وهم وسيلة الحركة للولوج إلى بعض القطاعات الحيوية والقوة النوعية في المجتمع ، مثل الجيش والإعلام .
* وهم نزاعون إلى التجديد الجريء ، والحركة بحاجة إلى التجديد ، مع الانتباه للوجه السلبي لذلك النزوع لدى هؤلاء "وميلهم للانحشاد والاندفاع والتمرد إن كُبِتوا أو تُرِكوا سدى" (48) .
لذلك انصبت استراتيجية الحركة الإسلامية في السودان على الطلاب . وكان من ثمرات ذلك أن كسبت الحركة القطاع الحديث المتعلم من المجتمع ، فضمن لها ذلك قيادة وريادة لم تستطعها العديد من الحركات السلامية حتى اليوم . كما ضمن لها وجودا سياسيا نوعيا ، يضاهي التكاثر الكمي الذي اتسمت به الأحزاب التقليدية . وقد اتضح ذلك في انتخابات 1986 ، حينما "فاز الإخوان بـ 23 مقعدا برلمانيا من أصل 28 مقعدا مخصصة للخريجين ، بينما لم يفز أي من حزب الأمة أو الحزب الاتحادي بمقعد واحد من تلك المقاعد" (49) . وكان ذلك مؤشرا واضحا على أن الحركة - بتركيزها على الطلاب - قد كسبت رهان المستقبل في السودان بشكل لا رجعة فيه ، وأن خصومها السياسيين أصبحوا جزءا من الماضي ، رغم كمهم العددي .
رابعا : العلماء
لم تجد الحركة السودانية عائقا كبيرا أمام التحامها بعلماء الشرع ، ودمجهم في نهجها الإصلاحي الشامل "بالرغم من أن الإسلامي الحديث مباين من حيث الملبس والمسلك والمنطق لنمط العالم التقليدي ، وليس دائما بذي علم أو عمل بالمذهب المالكي السائد بين العلماء [في السودان]" (50) . وقد ساعدها على ذلك أن "العلماء في السودان لم يقعوا في فتنة التشكل طبقةً ذات مصالح وأهواء تراعيها ، ولا أفلح الاستعمار أو السلطان أن يستدرجهم لدعمه ، بترتيب العطايا والميزات والمناصب ، ليكون هواهم في استقرار الأوضاع في وجه من يسعى لتغييرها بحق الإسلام" (51) . ومن المعلوم أن كثيرا ممن يتسمَّوْن "علماء" في الدول الإسلامية اليوم قد وقعوا في شراك الحكام الظلمة ، وتحولوا إلى طبقة كثيفة ، تحجب من نور الشرع أكثر مما تقدم، وتتستر بالسكوت على عوراء حكام يحسنون شراء السكوت كما يحسنون شراء الكلام ، وتقف في صفهم - علنا - في كل القضايا الاستراتيجية ، وإن خالفتهم أحيانا في بعض الفروع التي لا قيمة لها في سلم الأولويات الشرعية ، حفاظا على المكانة في قلوب العوام . والكل يدرك دور بعض المؤسسات الدينية الرسمية : وزارات الأوقاف ، وإدارات الإفتاء ، وهيئات كبار العلماء ، وروابط العلماء ، والمجالس الإسلامية الرسمية .. من تسويغ ظلم الظلمة ، وبيع الدين بعرض من الدنيا ، إلا من عصم ربك .
وقد أدرك الفيلسوف الشاعر محمد إقبال هذا الداء ، وكيف اتبع المسلمون فيه سنن مَن قبلهم من أهل الكتاب ، شبرا بشبر وذراعا بذراع .. فقال :
ما للقصور وللكنائس حيلة *** في الناس غير تبادل الأدوارِ (52)
وتوصل إقبال إلى أن الثورة على ظلم الحكام الظلمة لا تنفك عن الثورة على حلفائهم من علماء السوء وسدنة فرعون ، فقال :
فإلى متى صمتى وحولي أمة *** يلهو بها السلطان والدرويشُ
هذا بسُبحته وذاك بسيفه *** وكلاهمـا مما تكـدُّ يعـيشُ (53)
وكأن إقبال يردد هنا صدى بيت قديم للعالم الزاهد عبد الله بن المبارك :
وهل أفسد الدين إلا الملوك *** وأحبار سـوء ورهبانهــا (54)
ومن المضحكات المبكيات في هذا الشأن بيانات شيخي الأزهر عبد الرحمن تاج وحسن مأمون وبيانات جماعة كبار العلماء بمصر وعبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الإفتاء في الخمسينات والستينات ، والتي تصف الإخوان المسلمين بأنهم "خوارج لا تقبل منهم توبة ولا شفاعة" في الوقت الذي تفيض أرواح الشهداء : يوسف طلعت ومحمد فرغلي وسيد قطب وعبد القادر عودة وغيرهم .. على المشانق ، وتصعد إلى بارئها ، تشكو ظلم الظلمة ، وتواطؤ السدنة (55) .
ومن المضحكات المبكيات كذلك أن أحد الشيوخ الدعاة وجه رسالة مفتوحة إلى قائد بلد إسلامي عريق ، يدعوه فيها إلى القيام بالقسط وتحقيق العدل ، لكن رئيس "رابطة العلماء" في ذلك البلد ، اقترح على القائد المذكور وضع ذلك الشيخ في مستشفى الأمراض العقلية - على طريقة ستالين مع معارضيه - لأنه تجرأ على مخاطبة القائد بهذا الكلام (56) . وآخر ما تفتقت عنه أذهان علماء السلطان ، هو تبرير الاستسلام لليهود ، والتفريط في القدس والمسجد الأقصا المبارك .
ولا يزال بعض "العلماء" يقومون بهذا الدور في بلدان إسلامية عديدة ، ويتخذ الحكام الفاسدون من هؤلاء "العلماء" ستارا لظلمهم ورفضهم أي توجه للإصلاح ، أو عدل في الحكم والقَسْم ، وهم الذين يعينونهم على تأويل معاني الشرع بما يسند ظلمهم وبغيهم . وبذلك يذل هؤلاء "العلماء" أنفسهم ، والأنكى من ذلك أنهم يذلون العلم والدين ويدنسون محياهما الطاهر.. ولله در علي بن عبد العزيز الجرجاني ، إذ يقول :
يقولون لي فيك انقباض ، وإنمـا *** رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهمُ هان عندهم *** ومن أكرمتْـه عزة النفس أُكرِمـا
ولم أقض حق العلم إن كان كلمـا *** بـدا طـمعٌ صيَّرْتُـه ليَ سُـلَّما
إذا قيل هذا منهل قلت قـد أرى *** ولكن نفس الحـر تحتمل الظَّـمـا
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجـتي *** لأخدُم من لاقـيْتُ لكن لأُخدَمـا
أأشقى به غرسا وأجنيـه ذلــة *** إذن فاتباع الجهل قد كان أحـزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانـهم *** ولو عظموه في النفوس لعُـظِّـما
ولكن أهانوه فهـان ، ودنَّـسوا *** محـيَّـاه بالأطماع حتى تجـهَّـما (57)
وإذا كانت بعض الأسر المالكة في الدول العربية لا تزال تستمد شرعيتها من تلك الدعوى الهشة القائلة بأن الأسرة تحكم بمشاركة من العلماء وتشاور معهم ، فإن تطور الوعي السياسي في عامة الشعب ، وانكشاف العوار في التسعينات بعد اضطهاد الدعاة المصلحين ، وتهميش العلماء الناصحين ، جعلت هذه الدعوى الزائفة أكثر هشاشة من ذي قبل . ولذلك لن يكون ممكنا لفترة طويلة أن يتستر أولئك الحكام على رفضهم للإصلاح بستار الإسلام كما لاحظ "فيورست" (58) فقد بدأ الشعب يدرك مظاهر التدليس والتلبيس .
ولم يعد من السهل أن يغتر الناس بشيخ معمم ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ، بل يبيع دينه بدنيا غيره ، ويقدم المسوغات الشرعية للظلم ، ويتستر على عوراء حكام لا شرعية لهم ، يوالون أعداء الأمة ، وينهبون ثروتها ، ويتاجرون بكرامتها ، ويضطهدون الذين يأمرون بالقسط من الناس .
على أن الإنصاف يقتضي الإقرار بأن ليس كل هؤلاء "العلماء" طماعا وطلاب دنيا ، وإنما كان وقوع بعضهم في الزلل ناتجا عن غفلة وجهل بمقتضيات الدين في الواقع المعاصر ، وتوظيف الحكام لتلك الغفلة ، والله يعلم المفسد من المصلح .
وقد ألمح المؤرخ اليمني "الهمداني" في كتابه "الإكليل" إلى تلك الظاهرة الاجتماعية الخطيرة ، حينما قال : "إن أتباع الملوك قسمان : طماع ومغفلون" (59) .
فواجب الحركة الإسلامية هو التقرب من هؤلاء المغفلين ، وتبصيرهم بمسؤولياتهم في العصر الحاضر ، حتى يتبين الصادق سبيل الرشد ، وتقوم الحجة على المنافق البائع لدينه بدنيا غيره .
أما في السودان ، فقد انتفت الحواجز بين الحركة الإسلامية وبين أغلب العلماء "فكان بعض العلماء في طليعة من رعوا الحركة الإسلامية لمنشئها … وكلما أقبلت الحركة على مرحلة انفتاح عام وانطلاق شعبي ، كان العلماء من خارجها إما مستجيبا للدعوة ، مندرجا في الصف ، متوليا لدور في القيادة ، أو ناصرا وشاهدا للحركة ، ناشطا في مواقفها الإسلامية العامة . وتكاد تتحد اليوم حركة العلماء في السودان وحركة الإسلام الحديثة على فقه موحد للدين ، وموقف متشابه في التوجه للإصلاح والفعل في المجتمع ، ورابطة مودة وتعاون على نصرة قضايا الإسلام" (60) . وكان من ثمرات هذه السياسة الحكيمة التي دمجت العلماء في نشاط الحركة أن سلم الواقع الإسلامي السوداني من تلك الازدواجية المريرة ، التي تعاني منها مجتمعات إسلامية كثيرة .
خامسا : السلفية
تعتبر الحركة السلفية من أهم الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي اليوم . وقد كان للحركة وجودها في السودان ، وصوتها الداعي إلى تحرير الدين من شوائب العرف وبدع الخلَف ، والذي عبرت عنه "جماعة أنصار السنة" "وقد كسبت تلك الجماعة قليلا من الأنصار وكثيرا من التأثير، بنشاط دعوتها وقوة حجتها" (61) .
لكن فكر الحركات السلفية المعاصرة اشتمل على مساوئ منهجية كبيرة ، منها :
* تحول مفهوم السلفية عند البعض في العصر الحديث من منهج سليم في المعتقد ، مبني على التفويض وعدم التكلف - وهو أمر تشاركها فيه كل الحركات الإسلامية - إلى مذهبية في أمور الفقه والحياة المتغيرة تقيد الفكر والعمل .
* تحول السلفية المعاصرة إلى ما يشبه المدرسة الكلامية ، التي تهتم بالجدل أكثر من العمل ، وتطنب في الحديث عن العقائد دون داع شرعي ، وهو ما لا ينسجم مع منهج السلف القائم على البساطة ، وتجنب الخوض في تلك المباحث إلا لضرورة .
* جفاء أغلب السلفيين في إنكارهم على إخوانهم المسلمين المتلبسين ببعض البدع ، دون لطف أو ترفق . وكأن مجرد إدانة واقع البدع والخرافات كاف للقضاء عليه . فلم ينتهج جل السلفيين منهجا عمليا ، يراعي الثمرات ، ويترفق بالناس ، ويرجح التعليم على التشهير .
* عدم التمييز بين كليات العقيدة التي لا اجتهاد فيها ، وبين جزئياتها التي جاءت النصوص فيها محتملة ، فللخلاف فيها متسع . والانشغال بها لا يؤدي إلى الحسم فيها علميا ، ولا تترتب عليه ثمرة عمليا .
* خلط أغلب السلفيين - ضمنا - بين الوحي والتاريخ في المرجعية ، جراء نقص في الوعي بالتاريخ لا يميز بين صورته ومعناه ، وتقصير في دراسة حياة السلف دراسة استقصائية تلم بكل جوانبها المضيئة والقاتمة ، ولا تقف عند سرد المناقب فقط .
* انفصال العلم الشرعي عن الواقع المعيش ، مما يعمق تهميش الدين في الحياة العامة ، ويرسخ العلمانية المفروضة ، إضافة إلى ما يؤدي إليه ذلك من أخطاء فكرية وفقهية جسيمة . وليست هذه الظاهرة خاصة بالسلفيين ، وإن كانت أكثر بروزا لديهم
* نقص في النظر الأصولي أنتج خلطا بين "فعل العادة" و"فعل العبادة" في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسير السلف الصالح . وقد ترتب على ذلك إلزام الناس بما لا يلزم ، والتشديد عليهم فيما فيه متسع .
لكن هل يعني ذلك براءة الحركات الإسلامية من هذه العيوب المنهجية ؟ كلا ، فالواقع يشهد بغير ذلك . لقد سلمت الحركات الإسلامية من بعض هذه المساوئ ، لكن أصابها بعضها ، وأحيانا بصورة أسوأ مما في الحركات السلفية . فأسر التاريخ - مثلا - واتخاذه مرجعية ضمنية ، أمر موجود في بعض الحركات الإسلامية . والفرق الوحيد هو أن السلفيين يتعصبون لتاريخ الصحابة والتابعين ، والإسلاميون يتعصبون لرجال الحركة وأشكالها . والذي يتجاوز حدود المظاهر إلى عمق الظواهر ، يدرك أن بعض الحركات الإسلامية سلفية الفكر والعمل ، رغم نقدها للسلفيين ، وأن بعض الحركات السلفية هي حركات كلامية ، رغم هجومها على المتكلمين . وليس في استعمالنا لمصطلح "السلفية" مقابل "الإسلامية" أية دلالة على أن الحركات السلفية غير إسلامية ، أو أن الحركات الإسلامية غير سلفية ، وإنما هو استخدام اصطلاحي للتمييز المنهجي ، وتسمية للناس بما ارتضوه لأنفسهم من مسميات .
وقد أحسن الدكتور الترابي في تصوير بعض هذه المساوئ المنهجية ، فقال متحدثا عن ظاهرة الخلط الضمني بين الوحي والتاريخ في المرجعية : " … ولكن تسمى بالسلفية آخرون يرون الدين متمثلا في تاريخ المتدينين ، فهم بحسن نية يتعصبون لذلك التاريخ ، وينسون أن مغزاه في وجهته لا في صورته ، ويقلدون السلف لا في مسالكهم من التدين اجتهادا وجهادا ، بل يحاكون حرف أقوالهم وأعمالهم، ويرون الاتباع لا في المضي قدما إلى الله ، بل في الوقوف عند حد الأولين ومبلغهم"(62) ثم عقب مصححا هذا الانحراف المنهجي فقال : "ومهما يكن تاريخ السلف الصالح امتدادا لأصول الشرع ، فإنه لا ينبغي أن يُوَقَّر بانفعال يحجب تلك الأصول" (63) .
وقال عن ظاهرة انفصال العلم الشرعي عن الحياة : "لعل من أخطر أمراض المجتمعات والجماعات الدينية انفصام الفكر عن الحركة ، وقيام أهل العلم فئة مختصة متميزة ، لا تباشر العمل بينما تقوم وصيا عليه ، وتحاكمه بنظرها المتجافي عن حاجات الواقع وضروراته" (64) . ويبدو أن مخاض الستينات أدى إلى خروج جماعة من شباب الحركة عن التيار العام ، ونهجهم نهجا سلفيا ، أدركت الحركة من خلاله المساوئ المتضمنة في مثل ذلك التفكير ، واختلال أولوياته . يقول مكي : "وفي تلك الفترة برز تيار داخل تنظيم الجامعة ، نهج نهجا يقوم على تزكية النفس ، والتقيد بالسنة في اللبس والأكل والمظهر ، والحرص على الصلوات في جماعة ، وتعلم القرآن ، ومحاولة إحكام تجويده وحفظه ، وقراءة كتب ابن تيمية وابن القيم بتركيز . وخطورة هذا الاتجاه على الحركة هو حصره لحركة التدين في هذا الإطار الصغير والمحدود ، مما يغير طبيعة الحركة ، من حركة إسلامية ذات استراتيجية للتغيير الشامل ، إلى مذهب فقهي جديد ، يستقطب جهود أفراده في معالجة إشكالات صغيرة ، تُدخِل الحركة في دائرة ضيقة ، وتصرفها عن كسب السلطة السياسية ، وأداء المهام السياسية والفكرية الأخرى" (65) .
لذلك تبنت الحركة الإسلامية في السودان منهجا في الأولويات العملية مختلفا عن منهج الحركة السلفية ، رغم اتفاق الحركتين في المبادئ النظرية . وقد شرح مكي هذا المنهج بقوله : "بدت الحركة زاهدة في الدخول في تفاصيل تحريك مشروع بعث العقيدة السلفية ، لما يكتنف هذا المشروع من مخاطر:
* إذ خشيت الحركة الإسلامية أن تنزلق في متاهات الجدل الدائر حول العقيدة ، والذي أدى إلى قسمة المسلمين إلى أشاعرة وأهل سنة ومعتزلة ، مما يؤدي إلى إحياء المعارك التي ماتت ، كما يؤدي إلى تبديد جهودها بصرفها عن مهامها .
* كما أن رؤية عدد من القيادات لقضية محاربة البدع والخرافات والترهات أن هذه الأمراض مرتبطة بالجهل والتخلف ، وأنه مع شيوع التعليم والتنمية ، وارتفاع مستوى المعيشة ، ستنقشع أمراض الاعتقاد ، وتزول مفاهيم الشعوذة . لذا فلا مغزى من التحرش بها.
* والأوْلى صرف الجهود لمحاربة اللادينية الجديدة ، المسلحة بالمفاهيم الحديثة من ليبرالية وشيوعية وعلمانية ودهرية ..الخ والتي هي إما مسيطرة على جهاز الدولة ، أو في طريقها للسيطرة على هذا الجهاز الخطير لتأكيد رؤيتها .
*لذا فصراع المستقبل إنما يكمن بين هذه التيارات والحركة الإسلامية . وبما أن هذه التيارات مدعومة بالقوى الخارجية ، فالأولى الاستعانة بالإسلام التقليدي في مجابهتها ودحرها، بدلا من الانشغال بمناوشة حركة الإسلام التقليدي .
* ويعزوا تيار آخر في الحركة الإسلامية عدم طرقهم على باب تصحيح النظرة الاعتقادية إلى أنه من الحكمة أن تتنزل تصورات العقيدة [الصحيحة] في منهج المدارس برفق وتدرج ، ويتم بذلك صياغة الجيل الجديد بهدوء ودون ضجة ، اعتبارا بتجربة "أنصار السنة" الذين لم تزدهم محاولاتهم في تصحيح عقائد الناس إلا بعدا عن الخاصة والعامة .
* كما ربما رأت الحركة أن الأوْلى صرف الجهود في التبشير الإسلامي بين غير المسلمين ، وكسبهم للصف الإسلامي ، واعتماد البساطة في الخطاب ، كما هو نهج السلف ، والابتعاد عن الغلو والتعقيد الفكري في مجتمع هو في مرحلة التبشير ، ويسوده الجهل والتخلف" (66).
وانسجاما مع هذا التشخيص للأولويات العملية ، فإن الحركة "ظلت تسعى لإقامة قواسم مشتركة مع الجماعات الصوفية والزعامات الدينية [التقليدية] وحركة أنصار السنة [السلفية] - على ما بين هذه الجماعات من تفاوت واختلاف في أمر العقيدة - لإقامة الشرع الإسلامي"(67).
وقد أدركت الحركة الإسلامية في السودان أن خلافها مع الحركة السلفية خلاف منهجي لا مبدئي ، ولذلك حرصت على تجنب الصراع والاستقطاب في علاقتها بالسلفيين "فلم تكن بين الإسلاميين والسلفيين مفارقة فكرية أو نفسية تذكر ، فلما دعا داعي "الجبهة الإسلامية" العريضة لجمع الصف المسلم في وجه المتكاثر من العداء للدين .. لبى الدعاءَ جانب كبير من السلفيين ، وأحجم جانب" (68) .
على أن من الإنصاف التذكير أن المساوئ المنهجية التي بينا اشتمال الخطاب السلفي المعاصر عليها ، بدأت تضمحل تدريجيا - باستثناء جيوب معزولة هنا وهناك - ولا تخطئ عين الباحث المتجرد أن الفكر السلفي يعيش الآن حالة مخاض ، ويحاول الاقتراب من هموم الأمة ، والتحرر من أسر التاريخ ، والخروج من عباءة بعض الأنظمة الفاسدة ، التي طالما ركبت الموجة السلفية لتحقيق مآربها . وللجماعات السلفية المغتربة في أوربا وأمريكا دور كبير في هذه التطورات الإيجابية . كما أن للجماعات السلفية عموما يد بيضاء ودور مشكور في أسلمة المعاملات المصرفية ، بل إن دورها في ذلك أمضى من دور الحركات الإسلامية . ونحسب كل ذلك بوادر خير كثير بإذن الله .
وإذا كان الإيرانيون سيدركون في النهاية أن لديهم أعداء غير الأمويين ،كما يقول الترابي (69) فإن السلفيين سيدركون في النهاية أن أمامهم - وأمام الإسلام - تحديات غير منازلة المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والشيعة .. فما تحتاجه الصحوة الإسلامية اليوم ، هو قوم يعيشون تحديات عصرهم ، لا الذين تستعبدهم مقولات الماضي ومصطلحاته ، وحروبه ولجاجاته . فتلك ظاهرة أضاعت على القوى الإسلامية الكثير من الوقت والجهد ، وكان إقبال قد نبه عليها منذ أمد بعيد، فقال :
ترى النشء يملأ وجه الطريقْ *** بروحات نِسر وغدْوات بازْ
ومفـتي المدينة وادٍ سحيـقْ *** يضجُّ بمصطلـحات الحجازْ
أنا لست أفهم هذي الكؤوسْ *** ويؤسفني مثلُ هذا اللَّـجاجْ
ومن كان يحسن نحت الصخورْ *** ترفَّع عن أن يصوغ الزجاجْ (70)
ورغم أن جهات عديدة لا تزال حريصة على توسعة الجفوة بين الحركات الإسلامية والحركات السلفية، منعا من تشكيل جبهة إسلامية عريضة في وجه الظلم والاستبداد الضارب بأطنابه ، فإن اتجاه تلك التطورات والوقائع يتجه الآن إلى التعاون والتكامل . لقد بدأ السلفيون يتحررون من داء التنظير المجرد ومتاهات علم الكلام ، ويفتحون أعينهم على تحديات الواقع المعاصر وتعقيداته، وبدأ الإسلاميون يتحررون من الروح الحزبية ويفتحون صدورهم لكل عامل ولو من خارج التنظيم ، وفي ذلك بوادر خير تبشر بوحدة في تنوع ، وتكامل في تخصص .
سادسا : الصوفية
نشأت الحركة السودانية - شأنها شأن أغلب الحركات الإسلامية الحديثة - بعيدا عن أجواء التصوف ومقولاته . ولم تكن العلاقة بينها وبين الصوفية علاقة حسنة في البدء : فالمنحى التجديدي لدى شباب الحركة يميل بهم إلى الرجوع إلى أصل الدين ومنابعه الأولى ، وإلى التجافي عن طرائق التدين العرفية التي شابها بعض الغبش والبدع . كما أن الحركة "لما خرجت إلى المجتمع، صادفت ريبة لدى أهل التصوف ، انتابتهم غيرةً من ولاء جديد ، واستغرابا لجماعة قائمة على غير سمت المشيخة والذكر الراتب ، تجادل بالعقل ، وتستهوي الشباب الحديث ، وتمارس السياسة . فمنهم من اشتبه في نسبتها إلى الحركة السلفية التي لا يكن لها الصوفيون ودا ، لِما سمعوا من مصطلحها الفقهي والعقلي . ومنهم من خشي أن تكون بدعة كفرية قرينة للشيوعية ، لأنها جاءت من تلقاء الثقافة المصبوغة بغير الصبغة التقليدية . وكان أهل التصوف أعداء ما جهلوا" (71) . لكن فقه الحركة فقه إصلاحي مبني على استثارة مكامن الخير حيثما كانت ، ولو لا بسها بعض انحراف . لذلك توصلت إلى أنه "مهما يؤخذْ على واقع الصوفية من بدعيات وجهالة في الاعتقاد والعمل ، ومن كثافة طقوس تكاد تستنزف طاقات التدين في المراسم والأشكال ، ومن رخاوة شرعية تقعد بصاحبها ساكنا عاجزا ، ومن فرْط ولاء واتباع يكاد يحجب عن الله .. مهما يكن ذلك ، فإن في التصوف أصل زهادة وتجرد ونظام يمكن أن ينقلب استعدادا للجهاد ، جودا بالنفس غير مفتتن بالدنيا ، وقياما بصف منتظم ، وفناء في سبيل الله . وقد وقع مثل هذا الانقلاب في الموقف الصوفي أيام جهاد المهدية بالسودان ، وأيام الجهاد ضد الهجمة الاستعمارية في إفريقيا وآسيا ، ورأت الحركة مشاهد من مثله عند تعبئة بعض المتصوفة لنصرة الشريعة … والحركة الإسلامية إنما تنشد الإصلاح والإرشاد في واقع تهدده الماديات وتمزقه الشقاقات .. ويجديها أن تنظر في التراث القديم وتبني عليه : اعتبارا واتعاظا ، وتقويما وتكييفا وتجديدا ، وسعة للتباين وتوحيدا" (72) . وبناء على هذا النظر الفقهي والتقدير المصلحي انفتحت الحركة السودانية على الصوفية واستوعبت منهم كثيرين ، فأفادوها حشدا وكما ، وأفادتهم فقها وعملا . وكان موقف الصوفية المساند لتطبيق بعض العقوبات والأحكام الشرعية أيام النميري ثمرة من ثمار هذه السياسة الحكيمة ، فقد "ساند قادة الصوفية تطبيق الشريعة دون لبس [آنذاك] "(73) . ولئن كانت بعض التيارات الإسلامية قد شغلتها محاربة البدع التي شابت التصوف ، فإن الحركة الإسلامية في السودان لم تجد مسوغا للتركيز على هذا الجانب ، نظرا لأنه في طريقه إلى التلاشي أمام الوعي الإسلامي الأصيل ، والثقافة العقلية المعاصرة ، بل اتجهت إلى البدع الحية الراسخة ، مثل بدعة الشيوعية والعلمانية والاستبداد ، انسجاما مع فلسفتها العملية القاضية بأنه "ليس بقدر الشذوذ المنكر تهتم الحركة بالظواهر الطارئة في المجتمع ، بل بقدر الخطر الموضوعي" (74) وتلك قاعدة جليلة في التغيير ، غابت عن بال السلفيين ، وكثيرين غيرهم . وقد أثمر منهج الحركة العملي في التعامل مع الصوفية دعما من هؤلاء لبعض مواقفها ، ودمجا لبعضهم في "الجبهة الإسلامية القومية" في الثمانينات . وكان برنامج الحركة الشمولي الطموح خير دافع لها على الاستفادة من كل هذه الطوائف حتى يستجمع أهلها خير الجميع :
*"بتعمق في فقه الدين كالعالم
*ومنهجية في تزكية النفوس كالصوفي
* وتعبئة جماعية لبناء قوة منظمة ، تقيم شأن الدين الخاص والعام ، كالمجاهد" (75) .
وهذا شأن من يطمحون إلى بناء أمة ، لأن الأمة بحاجة إلى جهود كل أولئك .
وربما كان موقف الحركة من الصوفية ذا صلة بطبيعة التصوف السوداني الذي طعمته الحركة المهدية بمضمون سياسي ، وأخرجته من عزلته ، كما قال الصادق المهدي متحدثا عن حركة جده: "لقد أقامت المهدية الحلقة المفقودة بين التصوف الإسلامي والدولة" (76) . ويعرف الجميع دور التصوف في أسلمة وتعريب بعض البلدان الافريقية ، ومنها السودان ، فليس من السهل تجاهل ظاهرة بهذا المستوى من الأهمية وعمق الجذور ، إذ "..البيئة السودانية .. يسيطر عليها التصوف فكرا وانتماء" (77) . وإذا كانت هذه الظاهرة بلغت الغاية في عمق المجتمع السوداني "حتى أصبح التصوف هو الدين عند أهل السودان" حسب تعبير الأستاذ مكي (78) فإن النتيجة المنطقية لذلك هي أنه "يحسن في السودان الكلام عن تفاعل ديني ، لا عن نقاء ديني ، على غرار التفاعل العرقي والثقافي ، لا النقاء العرقي والثقافي" (79) . وهذا ما يكشف لنا عن ارتباط تجربة الحركة في هذا المجال بالموقع الاجتماعي والجغرافي ، لذا فإنها ستفيد الحركات الإسلامية العاملة في مجتمعات يطبعها التعدد المذهبي والروحي ، أكثر من الحركات العاملة في مجتمعات منسجمة .
ومهما يكن من أمر ، فإن الحركة تبنت استراتيجية تجاه الصوفية ، أساسها مبدأ الاستيعاب ، لا المواجهة . وقد أنشأت الحركة في جهازها القيادي المركزي مكتبا خاصا للتعامل مع الصوفية ، كما أنشأت مكاتب في فروعها لهذه المهمة . وأسفرت هذه الاستراتيجية عن نجاح باهر في مجال الحشد والتعاظم الكمي للحركة ، حيث "وَالى مكتب الطرق الصوفية الاتصال برجال التصوف وإعمار العلاقات معهم ، بالإضافة إلى دعم الخلاوي ودور تحفيظ القرآن ، وتنشيط الاتصال الفردي . وقد أدى ذلك إلى تضاعف أعداد الجماعة إلى عشرة أضعاف ، وساعد على الانتشار الشعبي" (80) .
ولا تزال الحركة واثقة من نجاح هذه الاستراتيجية في استيعاب قوى التدين التقليدية في المجتمع السوداني ، كما يقول مكي : "يبدو أن الحركة الإسلامية [في السودان] مرشحة لاستيعاب واستقطاب الجيل الجديد من أبناء "الأنصار" في غرب وأواسط السودان ، إذ البنية الأنصارية القديمة فقدت جاذبيتها ، وما عادت تلبي احتياجات الفروسية الكامنة -بالقوة - في تنشئة دينية متمثلة شخصية المهدي في قالب عصري … كما أن الحركة الإسلامية السودانية مؤهلة لاستيعاب سائر أبناء الطرق الصوفية ، إذ ما عادت هذه تشبع حاجات الجيل الجديد لتعبير ديني معاصر . ومجمل القول أن حركة الإخوان مهيأة لاستيعاب حركة المتدينين ، الذين يريدونها إسلامية" (81) . وقد حققت استراتيجية الاستيعاب هذه ثمرات طيبة حتى الآن . لذلك يمكن اعتبارها درسا ثمينا للحركات الإسلامية في التعامل مع ظاهرة ضاربة الجذور في أغلب مجتمعاتها .
سابعا : النساء
لم يشهد المجتمع الإسلامي الأول في عهد النبوة والخلافة الراشدة انشطارا في حركة تحرير المجتمع من المواريث الجاهلية والأعراف الظالمة ، ولم تعرف المجتمعات الإسلامية في قرون ازدهارها مثل هذا الانشطار، وإنما كان القيام بالقسط يعطي الجميع حقوقهم دون تمييز بين رجل وامرأة ، والظلم يشملهما . لكن قرون الانحطاط سلبت المرأة المسلمة جل الحقوق التي منحها الإسلام إياها ، وعادت الأعراف المتعسفة بقوة . وقد بلغ الحد ببعض الفقهاء إلى منع المرأة من حضور الصلوات في المسجد ، وشهود دعوة الخير ، بل غالى بعضهم إلى حد تحريم الكتابة عليها ، حتى اضطر الشيخ شمس الحق العظيم آبادي إلى تأليف رسالة في الرد عليهم سماها : "عقود الجمان في جواز الكتابة للنسوان" (82) . وتحول سد الذرائع الذي غالى فيه أولئك الفقهاء إلى سد لأبواب الخير ، لا غير .
ثم جاء بريق الحضارة المعاصرة البعيدة عن تعاليم الوحي ، فزاد الموقف تعقيدا ، وانضاف إلى سد أبواب الخير الذي أثمره فقه الانحطاط ، انفتاحُ أبواب الشر على مصاريعها . ولم يستطع كثيرون مواجهة الأعراف الظالمة المهينة لكرامة المرأة ، خوفا من انفلات الأمور ، وانتهاء التحرر من العرف إلى تحرر من الدين ، كما يريد العلمانيون . لكن موقف الحذر والتوجس برهن دوما أنه موقف سلبي ، قد يحافظ على بعض الخير الموجود مؤقتا ، لكنه لا يغيره نحو الأحسن . وذلك ما أشار إليه الأستاذ عمر عبيد حسنة حينما أخذ على الحركات الإسلامية "الانشغال بحماية المرأة عن الاشتغال بتنمية شخصيتها" (83).
لكن الحركة الإسلامية في السودان سرعان ما أدركت مساوئ هذا الموقف المتوجس ، فقررت الابتعاد عنه ، ونحت منحى جريئا ينسجم مع منهج الإقدام والتوكل الذي انتهجته في شأنها كله . وكان أول ما بدأت به الحركة هو التأصيل لتحرير المرأة ومشاركتها في العمل الإسلامي ، ووضع حد فاصل لا لبس فيه بين "تعاليم الدين وتقاليد المجتمع" . وقد تولت ذلك رسالة كتبها الترابي بعنوان "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع" . ورغم إيجاز الرسالة ، فقد تضمنت التنبيه على بعض الأمور الجوهرية ، التي غابت عن إدراك الكثير من الإسلاميين ، أو فقدت مدلولها العملي في تفكيرهم . وفيما يلي إشارة إلى تلك الأمور ذات الصلة بموضوعنا (84) :
* استقلال الشخصية الأخلاقية للمرأة في التصور الإسلامي ، مما يترتب عليه عدم التبعية للرجل في اعتناق الإسلام ، أو في أي مبادرة لخدمة الدين . ولذلك فإن مجمل الأحكام الشرعية لا تميز بين رجل وامرأة . والأحكام القليلة التي ورد فيها تمييز بينهما ، غايتها هي تمكين كل منهما من أداء دوره بإحسان .
* أغلب آيات القرآن الكريم التي تناولت موضوعات ذات صلة بالمرأة (مثل الطلاق والظهار والعدة والميراث ..الخ) كانت تهدف إلى رفع الأغلال المفروضة عليها في عهد الجاهلية ، ولم تهدف إلى تقييدها بقيود جديدة . ولذلك مدلوله الكبير في منهج التحرير ، وهو درس عميق لم يستوعبه الذين يريدون إصلاح أوضاع المرأة بالقيود والحدود فقط .
* الأصل مشاركة المرأة في أعباء الواجبات الإسلامية العامة لنصرة الدين وخدمة المجتمع . وما ورد من نصوص تفيد إعفاء النساء من بعض الواجبات العامة المحدودة - كالجهاد وصلاة الجماعة - لا يعني منعا لهن من ذلك . ولذلك اشترك بعضهن في الجهاد في عهد النبوة ، ونهى الشارع عن منعهن مساجد الله . لكن بعض الفقهاء لم يميزوا بين التحريم وعدم الوجوب .
* لقد انتهى فكر المسلمين وواقعهم إلى تغيير أغلب الأحكام المتعلقة بالمرأة ، وطغت تقاليد الأقوام على تعاليم الإسلام ، والأسوأ من ذلك أن هذه التقاليد أصبحت تتلبس بلبوس الدين، وتكتسب قدسية في قلوب الناس . ولا حل إلا بالنسج على منوال مجتمع النبوة ، ورفض البدع المستحدثة تساهلا أوتشديدا . وقد جاءت رسالة الترابي هذه "كأنما هي قطعة وصفية لمكانة المرأة في مجتمع النبوة"(85) حسب تعبير الأستاذ مكي .
* في الثقافة الغربية المعاصرة طغت أنوثة المرأة على إنسانيتها . وحينما غزت هذه الثقافة العالم الإسلامي المعاصر ، كانت المجتمعات الإسلامية قد فقدت حصانتها وصلابتها منذ أمد بعيد ، بسبب الخلط بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع . فانضاف فساد جديد إلى الفساد الموروث . ولم ينفع بكاء الباكين وندب النادبين ، الذين يشكون انتشار الفتنة وفساد الزمان، ويجلسون في سلبية أمام التيار الجارف .
* إن تحرر المرأة من التقاليد أمر لا محيد عنه ، لأسباب تتعلق ببنية المجتمع المعاصر اقتصاديا واجتماعيا . والوقوف في وجه ذلك التحرر - ولو باسم الدين - جهد ضائع . فعلى الإسلاميين أن يمسكوا بزمام المبادرة ، ويقودوا تحرير المرأة في إطار تعاليم الوحي ، كما حررها الإسلام أول مرة . وإلا فإن تيارات التحرر المطلق والإباحية ستقودها إلى الثورة على التقاليد والدين معا ، ويا لها من خسارة !!
ورغم اشتمال الرسالة على بعض الآراء الفقهية الجزئية المثيرة للجدل ، فإنها تضمنت رؤية أصولية واضحة ، حررت الحركة السودانية من الأثر السلبي لفقه عصر الانحطاط في مجال المرأة ، وفتحت الباب لاجتذاب النساء المتعلمات إلى الحركة ، بعد أن أسأْن الظن بالإسلام وبالحركة الإسلامية ، ونحيْن نحو التيارات العلمانية المتحررة من الدين ، لبعض الوقت .
يقول مكي عن أثر تلك الرسالة على نهضة العمل الإسلامي النسوي في السودان : "إن الأثر الأكبر لما حدث من نمو في الحركة الإسلامية في قسم المرأة إنما يعود إلى دراسته [=الترابي] الصغيرة : "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع" ، والتي عرفت باسم "رسالة المرأة" . ومع أن الدراسة لا تتعدى حجم المقالة المطولة ، إلا أنها أصبحت "مانيفستو" لجمهور النساء ، كما أثارت الدراسة ردود فعل على نطاق العالم الإسلامي، وترجمت للغة الانجليزية" (86) .
وبفضل هذا التأصيل الذي فتح الباب أمام تحرير المرأة من مواريث عصر الانحطاط عبر الالتزام بالدين "أصبح الدين الإسلامي سبيل المرأة للتحرر ، والانعتاق من قيود التخلف وعهود الانحطاط" (87) بعد أن صوره العلمانيون واليساريون طويلا على أنه الحليف الأمثل للجهل والتخلف والتقاليد الظالمة "ولو جمدت الحركة عند مرحلة الفقه الاعتذاري - "أن الإسلام لم يظلم المرأة" - وراحت تدرأ الشبهات التاريخية والفقهية ، وتتولى الدفاع ، وتترك المبادرة لغيرها ليقود حركة التحرير ، لما عصمت المرأة من الفتنة اللادينية ، أو لربما تأخر ذلك التحرير" (88). وهكذا "حالف التوفيق عمل الحركة وسط النساء ، ونجحت الحركة في استقطاب حركة تقدم المرأة ونهضتها في اتجاه الإسلام . وربما كان هذا من أكبر إنجازات الحركة … لأن المرأة هي الحفيظة على التقاليد وتربية النشء ، لذا فحينما تتمثل نهضة المرأة خط التوجه الإسلامي ، فإن مجمل اتجاه مستقبل حركة الحياة يظل في خط الإسلام صاعدا ، مهما تصاعدت تدابير الكيد العلماني" (89) .
وكان لبعض الجمعيات النسوية التي أسستها الحركة فضل كبير في تقدم المرأة السودانية ، ضمن الالتزام بالإسلام . ومن هذه الجمعيات "… "جمعية رائدات النهضة" التي تم تأسيسها في عام 1979 … وفي العام 1984 أصبح لها سبعة وستون فرعا … أدى انتشار عمل الرائدات وجهود مكتب الطالبات إلى أن أصبح معنى التقدم في حركة المرأة مرتبطا بمعنى الانتماء للإسلام ، على عكس ما اجتهدت الثقافة الغربية ومنابر التكييف العلماني في ربط حركة تقدم المرأة باللادينية … كما ظهرت روابط الفتاة المسلمة ، ودور المؤمنات" (90) .
لقد أثمر فقه الحركة الإسلامية في السودان ومنهجها في تحرير المرأة ظواهر ملفتة للنظر ، لا يوجد لها مثيل في الحركات الإسلامية الأخرى ، منها على سبيل المثال :
*كان من بين الإخوان الذين اعتقلهم النميري "د. سعاد الفاتح البدوي ، والتي صارت بذلك أول معتقلة سياسية في فترة ما بعد الاستقلال" (91) ويكفي ذلك دليلا على مستوى المشاركة والإيجابية للمرأة ، و"دورها الذي فاق در الرجل في الحركة الإسلامية" حسب تقدير الترابي (92)
*"طغى عدد الإناث في الحركة الإسلامية السودانية على الذكور" (93) خصوصا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات (94) . وتلك ظاهرة فريدة تستحق الاعتبار ، خصوصا لو قارنا مع بعض الحركات الإسلامية التي لا تزال ناديا للذكور تقريبا . بل ذهب الأمر ببعضها إلى رفض عضوية أية امرأة غير متزوجة - دون مستند شرعي - كما فعلت "الجماعة الإسلامية" بباكستان أول عهدها .
* كانت الجبهة الإسلامية القومية - حزب الحركة الإسلامية في السودان - هي الحزب السياسي الوحيد الذي رشح نساء في الانتخابات البرلمانية السودانية عام (95).
وبذلك سدت الحركة الإسلامية السودانية الباب أمام دعاية العلمانيين والملحدين الإباحيين الذين يتهمون الإسلام باضطهاد المرأة ، ويفتنون النساء المسلمات عن دينهن ، يعينهم في ذلك فقه ممزوج بالتقاليد ، لا تزال تتشبث به بعض الجماعات والحركات الإسلامية .
ثامنا : القبائل
لم تهتم الحركة - بدء أمرها - بالقبائل وأهل البادية ، إذ هي صفوة من المثقفين ثقافة عصرية "فكان هذا العالم العرفي خارج وعيها وهمها ، وكان أهله خارج صفها وكنفها" (96) كما كانت دائما "مراكز الثقل التأييدي [للحركة] تقع في المناطق الحضرية" (97) . لكنها أدركت في النهاية أن منهج التوسع الكمي يقتضي الاهتمام بهؤلاء ، وأن لهؤلاء - كغيرهم - حقا في الدعوة. فكانت لها بعض المداخل إلى القبائل والعشائر تتناسب مع عقلية أبناء الريف ومستوى وعيهم :
*"فأحيانا يفلح أبناء الحركة من الطلاب والخريجين والحضريين - بفضل علمهم وقرابتهم - في أن يحوزوا ثقة أهلهم ، فيُدْلوا بهم إلى الولاء للحركة .
* وأحيانا تستجيب قيادة قبَلية أو قروية بما أوتيتْ من التدين لداعي الحركة ، فتتداعى بأهلها إليها .
* وأحيانا يواتي الحركة نمط الصراع القبلي ، فينحاز إليها البعض مجانبة للآخرين .
* وربما انجذب أهل الريف إلى الحركة رغبة في خدماتها الاجتماعية المبسوطة .." (98) .
ولم يكن خافيا على الحركة أن أبناء البادية والريف تتحكم فيهم أحيانا بعض الأعراف ، فتجعل ولاءهم للأخوة الإسلامية ناقصا ، ولذلك "فإن انخراطهم في صف الجماعة الملتزم وفي طرازها التربوي يقتضي أجلا ، حتى يتم التطهر من العصبية القبلية والولاء العرفي ، والانتقال إلى الاعتصام بمعايير الحق الإسلامية ، والإخلاص بعهد الدين الأعلى . وحتى تهيء الحركة لغة خطاب ومواعين استيعاب مناسبة لأهل القرى والبادية ، أصبح عليها أن ترضى بما تستصحبه طبيعتها الشعبية الشاملة من تباين في مستويات نظامها وأدائها ، وأن تصبر وتتسامح مع بقية روح قبلية قد تتجاوز عاطفة التضامن الأهلي الإيجابي" (99) . وهكذا رجحت الحركة أن تصبر على هؤلاء وتتلطف بهم ، حتى يتجاوزوا بعقولهم حدود عالمهم الضيق ، إذ لا بديل عن ذلك سوى تركهم نهبة للشيوعيين والعلمانيين ، وضحية للحكام الفاسدين . وقد وجدت الحركة سابقة شرعية بنت عليها موقفها هذا ، وهي المعاملة السمحة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقابل بها جفاء الأعراب من المسلمين الأُول، حتى ينتشلهم من أعراف الجاهلية "فبعض هذه العلل الانتقالية كان في إسلام الأعراب صدرَ الإسلام ، عندما أقبل بعضهم رغَبا أو رهَبا ، واندفعوا أفواجا ، تنازعهم عصبية الجاهلية عن إخلاص الإخاء والولاء في الدين ، وتراودهم أخلاق الجاهلية ، ويلاحقهم الجهل بشعائر الدين وحدوده ، حتى تمحض الإيمان وحسن الإسلام ، فتعلموا وزكوا . وتلك ظاهرة انتقال تتكرر كلما دخلت في الملة أفواج الشعوب ، ويقع ما يقاربها كلما حدثت صحوة وتوبة واسعة إلى الدين" (100) . وتطبيقا لهذا المنهج أنشأت الحركة في هيكلها التنظيمي مكاتب للاتصال بقادة القبائل، وتعبئتهم لنصرة الدين ، من خلال خطاب سياسي واجتماعي مبسط يستوعبونه .
تاسعا : المسيحيون
بدأت الحركة الإسلامية محصورة في أبناء الشمال السوداني المسلم ، وهو ما كانت تقضي به طبيعة الثقل الثقافي الإسلامي في الشمال ، وتقتضيه خصوصيات مرحلة التأسيس . ثم أدركت الحركة في طور التوسع والنضج أن الغفلة عن الجنوب غير المسلم لا يتناسب مع حقوق أخوة الوطن ، ومستلزمات عالمية الإسلام . فالنموذج الإسلامي المطلوب في أيامنا هذه لا يمكن أن يكون محصور الاهتمام في المسلمين ، دون سواهم من أبناء الوطن والجوار ، فليس ذلك مما يصلح لعصر انطبع بتداخل الثقافات وحوار الحضارات . فبدأت الحركة التأصيل الفقهي والممارسة العملية لاستراتيجية جديدة تجاه مواطني جنوب السودان غير المسلمين ، تحاول دمجهم في الحياة السودانية ، على أساس مبدإ البر والقسط ، الذي جعله القرآن الكريم أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم ، وتحررت من النظرة الطائفية الضيقة . وهكذا "اعتدل خطاب الجماعة واعتدل تركيبها، فدخلت العناصر الجنوبية أفواجا . بل أتاح دستورها مكانا في العضوية لغير المسلمين الذين يرضون أهدافها العملية . ذلك أنها نموذج لمجتمع مسلم ، يسمح بمشاركة الموالين من غير المسلمين عن بر وقسط" (101) . وقد أصدرت الحركة "ميثاق السودان" عام 1965 ، وأودعته رؤيتها الفقهية والعملية لهذا الأمر ، وضمَّنتْـه :

*"اقتساما للسلطة على النهج الاتحادي ، المقيس على وثيقة دستور المدينة المنورة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
* وعدلا في توزيع الثروة
* ومساواة بين القوميات والناس
* وحرية في الاعتقاد والثقافة ، كما عُرِف في هدي الشرع وسماحة الإسلام التاريخية"(102)
*"واستقلال قوانين الأحوال الشخصية والتعليم الديني
* وتسوية مسألة الجنوب بالمفاوضات والتراضي
* وتطبيق مبدإ اللامركزية" (103) .
هذا على المستوى السياسي ، أما على المستوى الثقافي فقد تبنت الحركة استراتيجية للتعامل مع الجنوب ، أساسها حماية المسلمين الجنوبيين ، وتكثيف عمل الدعوة لاكتساب مسلمين جدد ، قبل أن تستحوذ الكنائس على الساحة . وقد كان من ثمرات ذلك التوجه :
*"وصلها لمسلمي جنوب السودان بإخوانهم في الشمال ، وفي العالم الإسلامي" (104) وهو مكسب سياسي واجتماعي في بلد معرض للتمزق ، كما أنه وسيلة للحفاظ على أولئك المسلمين الغرباء من الذوبان في أغلبية مسيحية ووثنية ، تنشط فيها الكنائس العالمية .
*"إقامة نواة حركة إسلامية جنوبية ، تحمل استعداد النمو والتكاثر" (105) "إذ حسب استراتيجية التوسع التي رسمتها الحركة لنفسها ، فقد بدأت الحركة الإسلامية العمل في الجنوب منذ بدايات عام 1980 ، واستطاعت أن تكسب قلوب فريق من الطلاب الجنوبيين الذين جاءوا مباشرة من المسيحية إلى الإسلام والحركة الإسلامية" (106) .
وكان لا بد أن تدفع الحركة ضريبة العمل في تلك الأدغال المشحونة بالألغام والأحقاد العرقية والدينية "ولم يكن ثمن ذلك سهلا : إذ استشهد عدد من شباب الحركة ، من بينهم ثلاثة أطباء في جوبا، كما أسرت حركة التمرد عددا من عناصر الحركة ، كما استبسل عدد من شبابها في الإقامة في الجنوب لتأسيس العمل التنظيمي وتثبيت واجهاته" (107) .
وكان منهج الحركة في الجنوب ، يختلف عن منهجها في الشمال ، لاختلاف الظروف والأحوال . ففي الجنوب لم يكن الهدف الأهم هو البناء الحركي والحضور السياسي ، بل تقوية الوجود الإسلامي وحماية المسلمين الجنوبيين . لذلك كان من المبادئ الموجهة للعمل في الجنوب :
*"تفادي الدخول في مواجهات مع الحكومة الإقليمية ، أو السلطات المحلية ، أو حتى مع المنظمات الكنسية .
* قومية العمل ، بحيث يصبح الهم التمكين للإسلام ، وليس بناء تنظيم للإخوان .
* والتعاون في ذلك مع الحكومة ، والتيار الإسلامي العام ، والدول العربية الراغبة … ترجمت هذه التوصيات في قيام منظمة الدعوة الإسلامية ومؤسساتها الأخرى" (108) .
ولئن حالت المعضلات الداخلية والمكائد الخارجية دون وضع تلك الاستراتيجيات موضع التنفيذ الكامل سياسيا وثقافيا ، فإنها ستظل معالم في الطريق صالحة للتطبيق التدريجي مستقبلا ، كلما رسخت الحركة قدمها تأمينا وتمكينا . كما ستظل فيها عبرة للحركات الإسلامية التي تعيش في مواطن الازدواج الديني والثقافي .
عاشرا : العمال
يعتبر كسب الحركة الإسلامية في السودان في القوى العاملة ضعيفا ، إذا ما قورن بكسبها في بعض القطاعات الاجتماعية الأخرى ، ويرجع السبب في ذلك إلى تأخر الاهتمام ، كما يشرحه مكي بقوله : "بدأت حركة الإخوان [السودانية] العمل وسط العمال متأخرة بعض الشيء ، وقد خالفت في هذا حركة الإخوان بمصر ، إذ هناك مثلت أول خلية إخوانية تجمعا عماليا ، حيث التف خمسة من عمال هيئة قناة السويس [في] الإسماعيلية حول الإمام حسن البنا في 1928 ، واختاروه كمرشد لهم … بينما نشأت الحركة السودانية أساسا وسط الطلاب والقطاعات المثقفة نسبيا ، ولم تتبلور في العمال والطبقات القاعدية الأخرى إلا مؤخرا" (109) .
ثم دخلت الحركة حلبة الصراع العمالي بقوة في الستينات والسبعينات ، مدافَعة للشيوعيين . واستطاعت أن تعزلهم ، وتنزع القيادة النقابية منهم ، بالتحالف مع الأحزاب التقليدية . وقد شاركت الحركة في تأسيس "اتحاد النقابيين الوطنيين" خلال مؤتمر 21/2/1965 النقابي "منافسة لـ"اتحاد العمال" الذي سيطر عليه واستتر به الشيوعيون" (110) "وكان المؤتمر عبارة عن تحالف بين النقابيين والإخوان والعناصر الوطنية الأخرى الموالية للأحزاب التقليدية" (111) واعتمد المؤتمر ضمن أهدافه المعلنة "إبعاد الشيوعيين عن الحركة النقابية" (112) .
لكن رد الفعل الذي تحكم في العمل الإسلامي وسط العمال ، لم يسمح بتحوله إلى عمل أصيل . ولذلك انحسر هذا العمل فيما بعد ، لأسباب يجملها الترابي في ثلاثة :
*"أن طرائق الدعوة والتنظيم فيها [=في الحركة] كانت أنسب للصفوة منها للعمال .
* ثم إن الطبقة العمالية الحديثة في السودان لم تترق ، بل ازدادت بعدا عن الصفوة ، إذ كان غالبها أول الأمر أهل قراءة وكتابة ، يمكن أن تستوعبهم حركة حديثة قوامها المثقفون ، ثم أخذ هؤلاء يهجرون المهنة أو البلاد ، يخلفهم نازحون ريفيون .
* ومع ضعف القطاع الاقتصادي الحديث ، تدهور الوزن السياسي للفئة العاملة فيه ، بينما تضاءل خطر الاستغلال السياسي من قبل الشيوعيين ، لاسيما أن الحركة الإسلامية قد فعلت كثيرا لفضح تدبيراتهم وواجهاتهم ، واتسع وعي الأحزاب بضرورة محاصرتهم بين العمال" (113) .
ومن هنا أهمية الخلاصة التي توصل إليها الترابي من أن الحركة كان عليها أن تدخل العمل النقابي "بمأرب ديني إيجابي ، لا ينفد بنفاد أغراض التنافس السياسي" (114) . وفي ذلك عبرة للحركات الإسلامية التي ما تزال تواجه هذا التحدي .
وهنالك عامل آخر من عوامل القصور في الكسب العمالي للحركة السودانية ، يمكن أن يؤثر في أي حركة إسلامية أخرى ، وهو ما يمكن أن ندعوه "ثمن الشمول" . فالحركة في تعاملها مع العمال ، كانت تأخذ في الاعتبار حيثيات أخلاقية وسياسية أخرى أكبر من الدائرة العمالية ، فتقيد تلك الاعتبارات يدها ، وتفقدها جزءا من مكانتها وسمعتها لدى العمال . يحكي لنا مكي مثالا على هذه الموازنة الحرجة في حديثه عن إضراب الأطباء السودانيين عام 1984 ، فيقول : "… وتلا ذلك في مارس - ابريل 1984 دخول الأطباء في إضراب امتد لثلاثة أسابيع . ومع أن قيادة النقابة كانت إسلامية ، وجاءت لمواقعها عبر سواعد الإسلاميين … إلا أن الإضراب كان قرارا اتخذته القواعد ، واعتبرت القيادة [النقابية] أنها لا تملك إلا التنفيذ . حاولت القيادة الإسلامية حث الرئيس نميري على الاستجابة لمطالب الأطباء ، ولكنه عاند ذلك بصلابة ، مما دفع القيادة الإسلامية للموازنة الصعبة بين ترك الأمور تسير مسارها العادي - مما يقود إلى تقويض مشروع تطبيق الشريعة - أو مجابهة الموالاة والعصبية النقابية بداعي الالتزام الإسلامي . وعلى الأخص فإن إضراب الأطباء تضمن التوقف حتى عن تسيير حالات الطوارئ والحوادث ، مما أدى إلى تدخل التنظيم ملزما قواعد الأطباء الإسلاميين بعدم الاستجابة لكل إملاءات الإضراب ، على الأخص الخدمة التطوعية في أقسام الطوارئ والحوادث ، لأن ذلك يعرض أرواح الناس للموت ، مما يتنافى مع التكليف الشرعي القائم على صيانة حق الحياة … ثم دفعت الحركة الإسلامية ثمن ذلك غاليا ، حينما والى الأطباء عزل العناصر الإسلامية من قيادة النقابة" (115) .
ومهما يكن ، فإن كسب الحركة في العمال ظل ضعيفا ، قياسا بكسبها في القوى الاجتماعية الأخرى . وفي ذلك عبرة ينبغي أن يستفيد منها الإسلاميون ، لسد هذه الثغرة المهمة من ثغرات العمل في المجتمع
------------------- .
هوامش الفصل الخامس :
(1) - H. Dekmejian : Islam in Revolution p. 166-167
(2) - محمد إقبال : جناح جبريل ص 322
(3) - نلسون مانديلا : رحلتي الطويلة من أجل الحرية ص 118
(4) - النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ" ضمن كتاب : "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية ص 216
(5) - انظر : سنن البيهقي 8/147 ومصنف عبد الرزاق 5/477 وفتح الباري 13/196
(6) - النفيسي : "الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ" (مرجع سابق) ص 222
(7) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 225
(8)- نفس المرجع ص 45
(9)- نفس المرجع ص 108
(10) - نفس المرجع ص 82
(11) - نقلا عن نفس المرجع ص 77
(12) - نفس المرجع ص 226
(13)- EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 159
(14) - انظر : Mohamed Omer Beshir : Revolution and Nationalism in the Sudan p. 210-211 Harper and Row Publishers, INCUSA 1974
(15) - Elhachmi Hamdi : The Making of a Islamic Political Leader, Conversations with Hasan al-Turabi p. 3 Westview Press, London, 1998
(16) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 84 ط 1982
(17) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 95
(18) - انظر : G. Norman Anderson : Sudan in Crisis p. 171
(19) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 81
(20) - انظر Mansour Khalid : Nimeiri and the Revolution of Dis-May p. 151 KPI Limited, London 1985 وقارن مع مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 89
(21) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 95
(22) - مكي : الحركة الطلابية السودانية بين الأمس واليوم ص 43
(23) - نفس المرجع والصفحة
(24) - يمكن الاطلاع على جوانب من فكر الرجل وتنظيره في الوثائق الملحقة بكتاب فؤاد مطر : "الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر"؟
(25) - Peter K. Bechtold : Politics in the Sudan p. 88
(26) - P. M. Holt : A Modern history of the Sudan p. 183, from the Funj Sultanate to the present day, Grove Press, INC. New York 1961
(27) - انظر مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 52-53
(28) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 83 ط 1982
(29) - انظر نفس المرجع ص 84
(30) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 85
(31) - نفس المرجع ص 201
(32) - نفس المرجع ص 202
(33) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 102
(34) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 200-201
(35) - انظر مكي : "الإخوان والسلطة" مقال منشور في صحيفة "الرأي العام" السودانية يوم 4/3/2001
(36) - نفس المقال
(37) - سورة الأنفال ، الآية 60
(38) - سورة الأنفال ، الآية 61
(39) - يروي محمد الهاشمي الحامدي أن الصادق المهدي أقر له بذلك خلال مقابلة معه عام 1996 . انظر Elhachmi Hamdi : The Making of a Islamic Political Leader, Conversations with Hasan al-Turabi p.7 كما ينسبها إلى الصادق المهدي السفير الأمريكي الأسبق في الخرطوم "نورمان أندرسون" . انظر: G. N. Anderson : Sudan in Crisis p. 179
(40) - انظر Anderson : Sudan in Crisis p. 175 وقارن مع مكي : الإخوان والسلطة (المقال السابق)
(41) - مكي : الإخوان والسلطة (نفس المقال)
(42) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 86
(43) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 132
(44) - نفس المرجع ص 48
(45) - Mohammed Mahmoud : in "religion, nationalism and peace in Sudan" ملتقى نظمه "معهد الولايات المتحدة للسلام" في واشنطن يومي 16-17 سبتمبر 1997
(46) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 133
(47) - نفس المرجع والصفحة
(48) - نفس المرجع والصفحة
(49) - Peter Woodward : Sudan (1898-1989) the Unstable State p. 207 Lynne Rinner Publishers, inc . USA 1995
(50) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 153
(51) - نفس المرجع والصفحة
(52) - إقبال : جناح جبريل ص 260
(53) - نفس المرجع ص 94
(54) - الذهبي : سير أعلام النبلاء 12/213 والقرطبي : الجامع لأحكام القرآن 8/120
(55) - حول هذه البيانات المشبوهة انظر إبراهيم زهمول : الإخوان المسلمون ، أوراق تاريخية ص 271
(56) - حول تفاصيل هذه الحادثة ، انظر Oxford encyclopedia 3/131
(57) - الخطيب البغدادي : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/371
(58) - Milton Viorst : In the Shadow of the Prophet p. 236
(59) - نقلا عن رضوان السيد : الأمة والجماعة والسلطة ص 174
(60) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان 153
(61) - نفس المرجع ص 154
(62) - الترابي : قضايا التجديد ، نحو منهج أصولي ص 82 ، وقارن نفس الفكرة منسوبة إلى الترابي
في كتاب Simone : In whose Image p. 163
(63) - نفس المرجع ص 83
(64) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 230
(65) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 94 ط 1982
(66) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 194-195
(67) - نفس المرجع ص 194
(68) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 155
(69) - انظر : Elhachmi Hamdi : The Making of a Islamic Political Leader,
Conversations with Hasan al-Turabi p. 86
(70) - إقبال : جناح جبريل ص 82
(71) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 150
(72) - نفس المرجع ص 151
(73) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 124
(74) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 155
(75) - نفس المرجع ص 154
(76) - Milton Viorst : In the Shadow of the Prophet p. 119
(77) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان ص 184
(78) - مكي : "حوار مع السلفيين" مقال منشور في جريدة "الرأي العام" السودانية 11/20/2001
(79) - نفس المقال
(80) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 168
(81) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 131 ط 1982
(82) - أشار الشيخ شمس الحق إلى رسالته هذه في كتابه : "عون المعبود شرح سنن أبي داود" 10/268
(83) - عمر عبيد حسنة : مراجعات في الفكر والدعوة والحركة 120
(84) - لم نحصل على أصل الرسالة بالعربية أثناء كتابة هذه الدراسة ، لذلك نرجع في تلخيص هذه الأفكار إلى ترجمتها الإنكليزية (Women in Islam & Muslim Society) المنشورة على الإنترنت في الموقع (www witness-pioneer org) عام 2001
(85) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 113 ط 1982
(86) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 177
(87) - نفس المرجع ص 178
(88) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 140
(89) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 155
(90) - نفس المرجع ص 166
(91) - نفس المرجع ص 35
(92) - Sandra Hale : the Women of Sudan's National Islamic Front (in : Political Islam, Essays from Middle East Report p. 245 University of California Press, Los Angelos, USA
(93) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 178
(94) - انظر : Elhachmi Hamdi : The Making of an Islamic Political Leader,
Conversations with Hasan al-Turabi p. 31
(95) - 1986 Elhachmi Hamdi : The Making … p. 10
(96) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 148
(97) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 72 ط 1982
(98) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 148
(99) - نفس المرجع ص 149
(100) - نفس المرجع والصفحة
(101) - نفس المرجع ص 157-158
(102) - نفس المرجع ص 158
(103) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 69-70 ط 1982
(104) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 173
(105) - نفس المرجع والصفحة
(106) - نفس المرجع ص 122
(107) -نفس المرجع ص 173
(108) - نفس المرجع ص 158
(109) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 52 ط 1982
(110) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 146
(111) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 79 ط 1982
(112) - نفس المرجع والصفحة
(113) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 146
(114) - نفس المرجع ص 147
(115) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 133


0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية