الجمعة، 13 فبراير 2015

الحركة الاسلامية في السودان 5/8

الفصل الرابع
البناء القيادي

لماذا يغيب الرشد عن الحركات
الإسلامية إذا غاب عنها "المرشد" ؟
د. محمد عمارة

نتناول في هذا الفصل فلسفة الحركة الإسلامية في السودان ، في مجال البناء القيادي . وقد اقتضت منا اعتبارات منهجية أن نتناول جوانب من إجراءات البناء القيادي لدى الحركة في الفصل السابق ، نظرا لصلتها العضوية بالهيكل التنظيمي . لذلك سنركز في هذا الفصل على المبادئ الموجهة لهذه العملية ، أكثر من التركيز على جوانبها الإجرائية ، مع الإشارة إلى المقارنات اللازمة .
يتفق الخبراء المتتبعون لمسيرة الحركات الإسلامية -سواء بعين العطف أو العداء - أنها تعاني من مشكلات في القيادة كبيرة ، وأن لهذه المشكلات أثر جدي على واقعها الحاضر ومستقبلها الآتي .
لقد لاحظ الأستاذ عمر عبيد حسنة أن من أمراض الحركات الإسلامية ما دعاه "تخليد فكر الأزمة" ، مما "جعل مواصفات القيادة ومؤهلاتها مواصفات شخصية أفرزتها الأزمة : من عدد سنوات السجن ، والاعتقال ، والمطاردة ، والمواجهة ، والثبات .. دون حرية القدرة على اكتشاف المؤهلات والصفات الموضوعية للقيادة في كل عصر ومصر" (1) كما لاحظ أن "من الإصابات الخطيرة التي لحقت بالحركات والتنظيمات الإسلامية : عجزها وعدم قدرتها على استنبات قيادات متجددة ومعاصرة بالقدر المأمول ، تضمن القدرة على التواصل .. وغالبا ما تتوهم أن المحافظة على استمرار القيادات - حتى ولو أصبحت عاجزة - نوع من الوفاء . الأمر الذي جعلها تتجمد ، وتتحنط ، وتتكلس ، وتتحول لتقتات بتاريخها ، وإنجاز القادة السابقين"(2). وقد نسيت هذه الحركات أن الثبات إذا كان واجبا ، فإن التغيير ضرورة .
كما لاحظ "هرير دكميجيان" - وهو من أوسع الخبراء الأمريكيين اطلاعا على مسيرة الحركات الإسلامية - أن "تطور الحركة الأصولية الإسلامية سيتوقف على نوعية قيادتها السياسية والثقافية. وفي الظروف الحالية ، تعاني الحركة بشكل جدي من القصور في قيادتها الفكرية والسياسية والتكتيتية" (3) . وفي مقارنته لميزان القوى بين الدولة والحركة الإسلامية في عدد من الدول العربية ، توصل إلى النتيجة المنطقية المترتبة على القصور القيادي والتنظيمي السائد الآن في الحركات الإسلامية ، فقال : "بغياب طليعة منظمة ، فإن الصراع الذي لا محيد عنه بين الحركات الأصولية والدولة ستميل كفته لصالح الدولة في المستقبل القريب على الأقل" (4) .
وربما اغترَّتْ بعض الأوساط الحركية الإسلامية بالتعاظم الكمي للصحوة ، وانتشار روح التدين في المجتمع ، فدفعها ذلك إلى التفاؤل المفرط المبني على حتمية الانتصار . ونسي هؤلاء أن التاريخ لا تحكمه حتميات صماء ، بقدر ما تحكمه الإرادة الحرة ، والتخطيط الدقيق ، والعمل المضني والبناء السليم . كما نسوا أنه "قد تصح القابلية في المجتمع ، ولا يوجد الاستعداد في الحركة، كما قد تنضج الظروف [في الحركة] ثم لا توجد القيادة" (5) .
وحتى لو آمنا بحتمية النصر ، فأي نصر نريد ؟ هل من اللازم أن يمر ذلك النصر بمحنة مريرة مثل محنة الإخوان في "ليمان طرة" و"السجن الحربي" ، أو بهدم مدينة على رؤوس ساكنيها ، كما حدث في حماه ، أو بتدفق نهر من الدماء كما هو الحال في الجزائر اليوم ؟؟
إن الشرع والمنطق يلزماننا ببذل الجهد في إنقاذ الأمة من ورطتها ، في أسرع وقت ممكن ، وبإهدار أقل ثمن لازم من الدماء والطاقات .
ويمكن أن نجمل أوجه أزمة القيادة في الحركات الإسلامية في النقاط التالية :
أولا : الخطأ في تصور وظيفة القيادة
فمهمة القيادة العليا في أي تنظيم ليست الإدارة اليومية ، والاستغراق في المهام الصغيرة الحقيرة ، والتدخل في كل صغيرة وكبيرة . ففي ذلك استنزاف لجهد القائد ، وشغل له عن رسالته الأصلية. إن رسالة القائد العام هي أن يُرِيَ أتباعه الطريق ، وينظُر أبعد مما ينظُرون . إنه الشخص الذي يبني الحلم ، ويقنع الآخرين بإمكان تحقيقه ، ويبين لهم طرق الوصول إليه ، ثم ينسق جهودهم ويصوبها إلى الهدف في انسجام . ولذلك كانت القدرة التصورية أهم فيه من القدرة العملية . فهو مخطط استراتيجي ، ومشرف عام ، وليس هو بالجندي أو الموظف الإداري . والحقيقة أن للقيادة جانبين : "تصوري وعملي : فالأول ينظر إلى مسيرة التنظيم نظرة كلية ، تشمل الماضي والمستقبل، فيحدد الأهداف الاستراتيجية ، ويحلل ويقيِّم المنجزات العملية ، ويمد النظر إلى المستقبل ، فيخطط إلى الولوج إليه بنجاح . والثاني يدير الشأن اليومي ، ويحل المعضلات التي تعترض الطريق . وكل من الوظيفتين تستند إلى الأخرى وتحتاجها . لكن القادة يحتاجون إلى الموهبة التصورية أكثر من العملية" (6) . وكلما ارتقى الإنسان في سلم القيادة أصبح الجانب التصوري المتعلق بالتحليل والتقييم والتخطيط واستنطاق دلالات الحاضر واحتمالات المستقبل أهمَّ فيه ، وكلما نزل في السلَّم كان الجانب التنفيذي المتعلق بالإدارة اليومية وحل المشكلات المعترضة أهم فيه . ولذلك كانت أنجح التنظيمات هي تلك التي تديرها قيادة جماعية تضم كلا من الفريقين : فريق التنظير والتخطيط ، وفريق الإدارة والتنفيذ ، مع مراعاة السلم المشار إليه الذي يجعل للفريق الأول اليد العليا في شؤون القيادة العليا . وتتأكد أهمية هذا الشكل الجماعي من القيادة إذا علمنا أنه "قل أن يجمع الإنسان بين موهبتي التنظير والروح العملية ، خصوصا إذا أطال التركيز على إحدى الوظيفتين عدة أعوام" (7) .
وإذا كان التنظيم يعيش أزمة جمود كانت الحاجة إلى أهل التنظير والتخطيط أمرا ملحا للغاية . وكما لاحظ "روبرت غرينليف" فإن "التنظيم يحتاج إلى قادة تنفيذيين ، إذا كان يرضى بالسير ضمن النمطية السائدة ، أما إذا كان ثمة طموح إلى التغيير والاستدراك ، فلا بد من قادة منظرين"(8) . وربما تحسن الإشارة إلى ما نبه عليه "غرينليف" أيضا من أنه "من العسير على الرجل التنفيذي أن يكتشف الرجل المنظر ، أو يدرك قيمة جهده" (9) "فبينما يحس القادة التصوريون بالحاجة إلى القادة التنفيذيين ، فإن التنفيذيين - غالبا - لا يحسون بالحاجة إلى التصوريين" (10) .
وليس خافيا أن أزمة الحركات الإسلامية اليوم ليست في ندرة القادة التنفيذيين ، وإنما هي في ندرة القادة التصوريين القادرين على بناء رؤية متجاوِزة ، يستطيعون من خلالها وضع البدائل التي تخرج هذه الحركات من حالة الفوضى والجمود . وقد عبر الأستاذ عمر عبيد حسنة عن ذلك بقوله: "إن هذه التنظيمات - في معظمها ، إن لم نقل كلها - انتهت إلى لون من القيادات التي ظنت أن القيادة تعني الإشراف الإداري … وعجزت عن إنتاج قيادات فكرية. ذلك أن هذه القيادات .. بطبيعتها الإدارية الرتيبة ، تضيق ذرعا بأي تطوير أو تفكير أو تغيير . وكل الذي يعنيها : الإبقاء والإصرار على صورة الماضي للمفكرين الرواد الأوائل ، على الرغم من تغير الظروف والأحوال والمشكلات … وعلى أحسن الأحوال يمكن وصف تلك القيادات بأنها أغلفة لحفظ تاريخ الجماعات . وهذا الاستمرار الرتيب استدعى بطبيعة الحال تقديم الخطباء على الخبراء .. " (11) . وهو تشخيص صحيح ، خصوصا إذا اعتبرنا "القادة الفكريين" هنا أهل الفكر العملي ، الذين يدركون العلاقة الجدلية بين الفكر والعمل ، لا الذين يتعاملون مع المأساة الإسلامية تعاملا أكاديميا باردا ، فيسقطون في داء الترف النظري .
لقد أنتج هذا الخطأ في فهم مهمة القيادة العليا ، والغفلة عن أهمية الجانب التصوري فيها ، نوعا من القيادات التي لا تحسن أكثر من إدارة اجتماع أو تحرير بيان ، وما أبعد ذلك من متطلبات حركة تغيير اجتماعي وسياسي هي أمل أمتها .
ثانيا : محورية القائد الفرد
فبعض الحركات الإسلامية نشأت متمحورة حول شخص واحد ، ثم وجدت نفسها أمام أحد خيارين بعد رحيله : إما الجمود على أساليب القائد المؤسس ورؤاه ، رغم تبدل الظروف والأحوال ، وإما التمزق والانقطاع في المسيرة . وهذا أمر طبيعي "فأي تنظيم يقوده شخص واحد لا بد من حدوث قطيعة في مسيرته بعد غياب ذلك الشخص" (12) أو جمود وتصلب ، من خلال القبول الاضطراري بالوجوه القديمة والأساليب العتيقة في العمل . وقد رصد الدكتور محمد عمارة هذه الظاهرة في بعض الحركات الإسلامية ، وأوضح الارتباط بين صفة "الرشد" وشخص "المرشد " فيها ، لأنها بنت أمرها على مواهب الشخص ، لا على بناء المؤسسة (13) . والسر في هذه الوضعية البائسة هو انعدام الحرية الداخلية والروح المؤسسية التي تفتح أبواب الصعود والنزول من القيادة وإليها بمرونة ويسر .
وإذا كانت العلوم التنظيمية والاستراتيجية المعاصرة تجعل من آكد مهمات القائد "صناعة القادة" الذين يعينونه في حضوره ، ويخلفونه في غيابه ، حتى يظل الاطراد مضمونا في مسيرة التنظيم ، فإن قادة الحركات الإسلامية في الغالب لا يهتمون إلا بـ"صناعة الأتباع" الذين يحسنون التلقي والتنفيذ الفوري ، والإيمان بأوامر القائد وحكمته "دون تعطيل ولا تأويل" . وقد لاحظ الدكتور النفيسي أن من نقاط الضعف الأساسية في قيادة الإمام حسن النبا "إهماله تدريب كوادر قيادية ، تتمتع بأهلية القيادة لتأتي من بعده" (14) . والذين جاءوا من بعد البنا في قيادة الحركات الإخوانية كانوا أشد تفريطا في ذلك .
وقد تبين من العلوم التنظيمية المعاصرة أن في القيادة الفردية المحورية عيوبا أخرى لا تقل خطورة عما سبق ، منها :
* سيادة مفهوم "السيطرة" على مفهوم "القيادة" ، بحيث يتركز اهتمام القائد على التطلع إلى الوراء ، للتأكد من أن الناس لا يزالون تبعا له ، ويهمل التطلع إلى الأمام ، والتفكير فيما يحقق تقدما وتحسنا في أداء التنظيم ورسالته .
* إغراء الأتباع بالصراع على مناصب القيادة ، نظرا لسد المنافذ السلمية إليها ، وفي ذلك من الأخطار على التنظيم ما فيه ، وأقله شغل التنظيم عن رسالته وأهدافه الأصلية ، واستنزاف طاقته في المعارك الداخلية .
* التأثير السيئ على لغة التواصل بين القائد والعاملين معه ، فهم يحسون بأنهم أتباع لا أقران "ومن شأن المستمعين إلى القائد المسيطر أن لا يفهموا كلامه فهما موضوعيا . لأنهم لا يبحثون عن قيمة الكلام في ذاته ، بل عما يقصده القائد ويريده" (15) .
* عزلة القائد عن أتباعه ، لأنه لا يستطيع التحقق من مقاصدهم ، في أجواء المجاملات ، والهالة التي رسمها حول نفسه . وبذلك يتعطل تدفق المعلومات الصحيحة ، وتنسد أبواب التناصح النزيه.
* ميل القادة إلى قمع مخالفيهم والشدة عليهم . وقد عرف بعض القادة الإسلاميين بالشدة على معارضيهم داخل الحركة شدتهم على الأعداء ، وممن اشتهر بذلك زعيم "الحزب الإسلامي الأفغاني" قلب الدين حكمتيار (16) .
وقد تجسدت بعض هذه المساوئ في بعض الحركات الإسلامية العريقة ، حيث البيعة مدى الحياة ، وإطلاق يد القائد ، والتفويض له ، وعجز القيادة عن تجديد شبابها ، وعن التكيف مع الظروف المتغيرة . وإذا كانت قيادات بعض الحركات - مثل "الجماعة" في باكستان - بدأت تعي هذه المساوئ ، وتتدارك القصور ، فإن قيادات بعض الحركات الأخرى - مثل حركة الإخوان في مصر والأردن وسوريا وبعض الدول الخليجية - لا تزال تتحدى الزمن ، وتسد الباب أمام أي أمل في التجديد والتغيير .
ثالثا : إفراغ الشورى من مضمونها
لا تختلف الحركات الإسلامية في الإقرار بمبدإ الشورى ، وقد تجاوز أغلبها الجدل الفقهي الموروث حول الإلزام والإعلام في الشورى ، لصالح القول بالإلزام . لكن الكسب النظري في هذا الشأن لم يوازه كسب عملي يفصِّل اللوائح الملزمة ، ويبني المؤسسات الراسخة ، التي تحفظ للشورى فاعليتها وإلزاميتها .
وليس يخفى على المتتبع إفراغ مبدإ الشورى من مضمونه في الكثير من الحركات الإسلامية :
* فهذا شقيق للمراقب العام الراحل يقدم نفسه لخلافته ، متعللا بضرورة بقاء اسم الأسرة الكريمة في الصدارة .
* وهؤلاء جماعة من المؤسسين يتصارعون على تراث القائد الراحل ، ويمزقون الحركة تمزيقا ، حرصا منهم على القيادة .
* وهذه قيادة راكدة جامدة ، تفتح باب التصدع والشقاق بتصلبها وإغلاقها لمسالك الصعود إلى القيادة والنزول منها .
* وتلك قيادة متهورة تعرف كيف تثير الحماس ، وتشعل الحرب بالشباب البريء ، دون استشارته في معركة هو وقودها .
وليست الأمثلة المذكورة هنا نماذج افتراضية ، بل هي أمثلة حقيقية لحركات إسلامية قائمة يعرف الجميع ماضيها وحاضرها . كل هذا والقاعدة المسكينة تساق إلى حيث لا تدري ، وتوعظ ليل نهار بضرورة الطاعة ، والزهد في التصدر ، وتجنب الولايات العامة ، ممن لا يلتزمون بمقتضى مواعظهم . والخاسر في النهاية هو العمل الإسلامي والحركة الإسلامية .
لقد أدى تجميد مبدإ الشورى وإفراغه من مضمونه الإلزامي ، إلى تصدعات وانشقاقات عميقة في جدار الصحوة . وقد حاولت بعض الحركات الإسلامية أن تتجنب مشكلات الخلافات الداخلية - الناتجة أصلا عن ضياع الشورى - بمزيد من تحجيم الشورى . وذلك من خلال أحد أمرين :
* البحث عن قائد كارزمي تتمحور حوله الحركة ، ويأسر الجميع بجاذبيته الشخصية .
* النخبوية في العضوية ، وتضييق نطاقها ، حتى يظل التحكم في الأتباع ممكنا .
وكل من الأمرين يثير مشكلة : إذ غالبا ما يبدأ الشقاق بعد رحيل الزعيم الكارزمي ، وتؤدي النخبوية إلى جمود الحركة وهامشيتها (17) . وقد أصبح هذا الجمود بعد رحيل الزعماء الكبار ظاهرة ، لا تكاد تخلو منها حركة إسلامية ، رصدها دكمجيان ، فقال : "تبدأ الحركة صغيرة سرية متحمسة ، تقودها قيادة كارزمية . ثم تتحول مع الزمن إلى حركة عريضة ، تعمل في العلن، ضعيفة الحماس ، تقودها قيادة بيروقراطية" (18) .
ولعل الباحث المتجرد ، المطلع على هذه المساوئ القيادية ، يتوصل معنا إلى أن أزمة المجتمعات الإسلامية لا تكمن في قيادات الدول الإسلامية فحسب ، من حيث فسادهم واستبدادهم ، وإنما يتعاضد مع ذلك تخلف قيادات الحركات الإسلامية وجمودها . وهكذا تظل الشعوب الإسلامية المسكينة تكتوي بنارين : فساد الواقع القائم ، وقصور البدائل المنظورة . لقد أصبح الدواء جزءا من الداء ، وتلك لعمري معضلة كبرى ، ومأزق خطر .
إن السبب في كل هذا البلاء هو انعدام القواعد الإجرائية الضابطة التي تحمي مبدأ الشورى ، وتفرض احترامه : دليلا عمليا ، لا شعارا نظريا .
الإخوان والتخلف القيادي
وقد تجلت هذه المساوئ الثلاثة وغيرها - بكل أسف - في أعرق الحركات الإسلامية ، وأوسعها شهرة ، وأكبرها أثرا على غيرها : حركة الإخوان المسلمين بمصر . وقد بينا جوانب أساسية من ذلك في تحليلنا للبنية التنظيمية للحركة ، ولا بأس بمزيد بيان هنا ، اعتمادا على تحليلات الدكتور النفيسي . فهو من الكتاب القلائل الذين يؤهلهم اطلاعهم على تفاصيل تاريخ الحركة ، وتمرسهم بالعلوم السياسية والإدارية ، وجرأتهم في الحق ، على تقديم رأي موضوعي من الناحية الفنية ، وغير مجامل من الناحية المبدئية . رغم أن اكتشاف بعض من هذه المساوئ لا يحتاج إلى أكثر من قراءة وثائق الحركة ، والاستماع إلى قادتها .
* أما العجز الفكري والسياسي لدى قادة حركة الإخوان بمصر ، فقد رصده النفيسي، وبين علته في قوله : "هذا الوضع المؤسف المتدني في الكفاية والاقتدار الفكري والسياسي في قيادة جماعة الإخوان إنما نتج عن اهتمامها بالعناصر التنفيذية التي تطيع طاعة مطلقة ، وإبعادها للعناصر المؤهلة فكريا وسياسيا ، والقلقة على مستقبل الدعوة . تغليب هذا الأمر - أي أهل الولاء على أهل الكفاية - نتج عنه هذا التدني في مستوى القيادة لدى الجماعة"(19) وقد كان من آثار هذا العجز السياسي والانحصار الفكري في قيادة الجماعة ، تلك الهجرة للعقول المستنيرة بعلم الشرع والواقع عن الحركة ، وابتعادها عنها ، وهي في أمس الحاجة إليها "إذ من الملاحظ أن أعدادا كبيرة من ذوي العلم والفكر والسابقة في الجماعة بدأت تنفر من القيادة الحالية ، وتبتعد عنها . وهذا لا يحدث إلا لوجود خطإ أو أكثر من خطإ يجب تصحيحه . فليس من المعقول أن يقف غالبية المفكرين من أصحاب السابقة في الدعوة في منأى عن الذين احتلوا مراكز القيادة دون سبب قوي" (20) . كما كان من مظاهره تولي قادة لمقاليد الأمور في الحركة ، وهم غير مؤهلين فكريا ولا سياسيا . فالذين قادوا الحركة منذ استشهاد البنا رحمه الله ، لم يكن أي منهم من ذوي البراعة السياسية أو العمق الفكري ، بل كانت سابقتهم هي كل ما يملكونه ، وذلك أمر لا صلة له بالجدارة القيادية كما سنبين فيما بعد . وقد بين النفيسي جوانب القصور في الأهلية القيادية عند بعض هؤلاء بشكل مفصل لا مجال للإطناب فيه هنا (21) . وما نحتاج إلى تذكير القارئ الكريم به ، هو أن هذا البؤس في الكفاءة القيادية ليس ناتجا عن نقص في الكفاءات داخل الحركة المصرية التي استوعبت النخبة المتعلمة في أكبر الدول العربية ، وإنما هو نتيجة للتصلب في الإجراءات المتبعة - إن بقيت هناك إجراءات أصلا - وإهمال معايير الأمانة والقوة التي جعلها الإسلام أساس الجدارة القيادية ، واستبدالها باعتبارات تنظيمية وشخصية لا قيمة لها في مجال البناء القيادي .
* وأما محورية القائد الفرد ، وهيمنة الثلة القليلة ، فحدث ولا حرج . وقد كانت هذه المحورية الفردية في القيادة من أسباب الانقطاع القيادي الذي عانت منه حركة الإخوان بمصر ، والجمود الذي أصابها ، كما لاحظ النفيسي في قوله : "إن القيادة في مفهوم الإخوان هي شخص أكثر منها مؤسسة ، شخص ينتهي فتكون معه نهاية ، ولا بد من شخص آخر يبتدئ لتكون معه بداية . هذا المفهوم الشخصاني للقيادة قد عانت منه كل التشكيلات القيادية في العالم الثالث ، سواء الإسلامية منها أو غير الإسلامية . وأخطر ما في هذا المفهوم من آثار ، هو ربط المشروع العام للحركة - أيِّ حركة - بشخص القائد أو الزعيم … وفي يقيني أن البنا رحمه الله لم ينتبه بما فيه الكفاية لهذه الإشكالية الكبيرة التي واجهت الجماعة بعد مقتله ، ولم يضع الاحتياطات المطلوبة - المفاهيمية والمؤسسية والتربوية والإدارية - لتجنبها . لذلك ظلت جماعة الإخـــوان بدون قيادة ما بين مقتل البنا في 12/2/1949 حتى 19/10/1951 عندما تسلم حسن الهضيبي رحمه الله القيادة ، أي أن الإخوان ظلوا بدون قيادة ولا توجيه لمدة تقارب الثلاث سنوات" (22) .
* وأما إفراغ الشورى من مضمونها ، فيكفي منه احتكار الهيئة التأسيسية لشأن اختيار القيادة في حركة بلغ أعضاؤها وأنصارها الملايين ، رغم أن هذه الهيئة لا يبلغ عددها المائتي شخص ، وظلت تتناقص مع الزمن . وقد انتبه النفيسي إلى أن التركيب القيادي للإخوان في مصر "هو تركيب يكرس كثيرا من الأمراض الإدارية في القيادة، وأهمها تركيز السلطة والقرار في يد فئة قليلة من الأشخاص ، ربما يعدون على أصابع اليد الواحدة ، كما هو حاصل اليوم . لا بد من التفكير بصيغة تفتت مواقع السلطة الإدارية القيادية ، وتنقلها للقواعد ، وتفوضها للمستويات الأدنى من الهيئات الإدارية القيادية ، التي ينبغي التفكير باستحداثها . فنحن اليوم في عصر كثرت فيه التساؤلات جراء الثورة المعرفية والمعلوماتية ، التي نتجت عن تطور وسائل المعرفة والاتصال ، ولم يعد من الممكن القبول بفكرة (الإمام) المرشد الحجة ذي العلم المحيط ، الذي ينهل منه الناس الحكمة والمعرفة والرأي السديد . هذا زمن المؤسسات الكبيرة والنظم المرنة، وتوفير متطلبات الابتكار ، وسيطرة العلاقات أكثر من سيطرة الهيكل ، وتكثيف دور الاختصاصيين لا تهميشهم ، وتفتيت السلط لا تركيزها ، وتعقيد قرار الحرب والسلام لا تبسيطه. وكل ذلك غير متحقق في جماعة الإخوان بصيغتها الإدارية الحالية"(23). ولأن المصائب لا تأتي فرادى - كما يقال - فإن الإخوان المصريين لم يلتزموا بنظامهم الأساسي - على علاته - في تنصيب قياداتهم بعد الشهيد البنا . فلم يعد للهيئة التأسيسية صوت مسموع، وسيطر أفراد من النظام الخاص على القيادة ، وأصبحوا يعينون المرشد تعيينا ، دون رجوع للهيئة، أو مرجعية في قوانين الجماعة ، فقضوا على آخر رمق من الشرعية القيادية . وقد ترسخ هذا الوضع المعوج بعد وفاة الأستاذ الهضيبي رحمه الله يوم 11/8/1973. وفيما يلي نورد شذرات مما أورده النفيسي عن هذا التطور المؤسف حقا ، يقول النفيسي : "بدلا من أن يتم دعوة أعضاء الهيئة التأسيسية الأحياء [بعد وفاة الهضيبي] للتداول في هذا الشأن - كما ينص النظام الأساسي للإخوان - استفرد إخوان النظام الخاص بالأمر ، وحلوا محل كل المؤسسات الشرعية للجماعة (الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد) … تمكن عناصر النظام الخاص (مصطفى مشهور - كمال السنانيري - أحمد حسنين - د. أحمط الملط - حسني عبد الباقي .. وغيرهم) من إحكام سيطرتهم على شؤون الجماعة ، وتم من خلال هذه الهيمنة إبعاد كل العناصر المستنيرة ، التي تتمتع بالشرعية والأهلية أمثال د. محمود أبو السعود ، والأستاذ فريد عبد الخالق، ود. حسان حتحوت، والأستاذ محمود عبد الحليم ، ود. عصام الشربيني .. وغيرهم من إخوان النظام العام ، فشكل عناصر النظام الخاص مكتبا للإرشاد من بينهم ، وهو القائم حتى اليوم ، بالرغم من ترصيعه ببعض الفصوص مؤخرا … إن شخصية المرحوم عمر التلمساني اللينة الهينة الحيية قد راقت لأعضاء النظام الخاص كملاءة تنظيمية ، وكواجهة سياسية فقط ، لا أكثر ولا أقل … وربما كان هذا مما دفع عناصر النظام الخاص إلى اختياره و"تعيينه" مرشدا للإخوان المسلمين ، دون الرجوع للهيئة التأسيسية ، أو مواد النظام الأساسي . وجه القصور في شرعية هذا التعيين أنه يتجاهل الهيئة التأسيسية والنظام الاساسي للجماعة . ويعد "تعيين" التلمساني رحمه الله انتهاكا صارخا لدستور الجماعة، و[هو] تصرف أدى إلى خلل ظاهر في بنيتها" (24) .
ومن الواضح أن الدكتور النفيسي يركز هنا على الخلل من حيث الشكليات القانونية ، وإلا فإن الأمر أكبر من ذلك بكثير ، كما أوضحنا في الفصل الثالث ، وكما أوضح النفيسي نفسه في مواضع من دراسته .
وكانت المبررات التي تساق تسويغا لتجاهل النظام الأساسي والهيئة التأسيسية غريبة حقا . ومن ذلك تبرير الشيخ محمد حامد أبو النصر رحمه الله - في مقابلة عام 1986- عدم دعوة الهيئة التأسيسية لاجتماع تختار فيه مرشدا للإخوان ، بقوله : "اجتماع الهيئة التأسيسية غير ممكن بحكم القانون ، في ظل قوانين البلاد السائدة حاليا، وفي ظل قرار حل جماعة الإخوان المسلمين" !! وقد علق النفيسي على ذلك قائلا : "أعضاء الهيئة التأسيسية الأحياء [عام 1986] لا يزيدون على الثلاثين إلا بقليل ، أليس من الممكن تلاقيهم في منزل أحدهم ، للتداول في هذا الأمر ، وحسمه وفق القانون الأساسي للجماعة ؟ لماذا اجتماع كهذا غير ممكن ، بينما اجتماع الإخوان في معسكرات تضم المئات ممكن بالرغم من الموانع القانونية ؟ أم أن وراء تجاهل الهيئة التأسيسية ما وراءه ؟ …" (25) . ولنا أن نضيف تساؤلات أخرى إلى تساؤلات النفيسي منها : هل "قوانين البلاد السائدة" تحظر انتخاب قيادة شرعية للإخوان ، وترخص في قيادة معلنة لكن غير شرعية ؟! وهل القانون المصري يسمح للإخوان بتشكيل وقيادة "تنظيم دولي" يضم كل الحركات الإسلامية المغضوب عليها من طرف حكام بلدانها ؟ وهل القوانين الدولية ترخص بتأسيس التنظيم الدولي للإخوان المسلمين !؟ أليس من الممكن تنظيم مؤتمر عام في شكل مؤتمرات مصغرة محدودة ، دون لفت الانتباه ، كما تفعل حركات إسلامية أخرى ؟
وكان لا بد أن يتوصل النفيسي إلى النتيجة المنطقية المترتبة على هذا الخلل القيادي في تنظيم الإخوان بمصر وغيرها من الدول العربية ، فيقول : "إن المزايا الحركية لهذه الجماعة بدأ يظهر عليها عناصر الضعف والتفكك في تركيبتها القيادية" (26) ثم يضيف : "لم يعد التركيب الإداري القيادي للجماعة مجديا اليوم ، بل أصبح هو ذاته عقبة أمام الدعوة الإسلامية في مصر وبعض الأقطار العربية التي امتدت إليها يد الجماعة ذاتها" (27) .
ولولا خشية التطويل لأضفنا شرحا ضافيا لهذه المساوئ القيادية ، ولتناولنا غيرها ، لكن في هذه الإشارات غنية وعبرة للمعتبر إن شاء الله .
الحركة السودانية تستدرك
لقد كانت الحركة الإسلامية في السودان أكثر الحركات انتباها إلى معضلة القيادة في العمل الإسلامي "فظلت الشورى في التنظيم مبدأ أساسيا لم يدر حوله جدل" (28) وهذا أمر مهم وإن لم تختص الحركة به ، وجسدت ذلك عمليا ، وهذا هو الأمر الأهم الذي لم تنجح فيه أغلب الحركات الأخرى ، رغم إقرارها النظري بمبدإ الشورى وبالروح المؤسسية . وبذلك "نجحت الحركة في تحديد خياراتها التاريخية وفق مقاييس شورية ، كما حدث في طريقة اختيارها لاسمها ، وصيغ عملها ، وعلاقاتها مع الحركات الإسلامية المماثلة" (29) .
وقد تجلى ذلك في المعضلة الكبرى في الحركات الإسلامية : تغيير القادة بمرونة ويسر ، إذ أن الحركة الإسلامية في السودان "هي الحركة السياسية الوحيدة [بين الحركات الإسلامية] التي كانت ذات قدرة على تغيير قيادتها دون أن يؤثر ذلك على فاعليتها . ففي ربع قرن من الزمان (1944-1969) تناوب على قيادة الحركة ما لا يقل عن سبعة أشخاص … (عوض عمر / علي طالب الله / بابكر كرار / الرشيد الطاهر / صادق عبد الله / محمد يوسف / حسن الترابي) وهذه تشير إلى خاصية الحركة ومدى عمق الروح الجماعية فيها ، وبعدها عن التعصب للأفراد ، وارتباطها بالمبادئ" (30) . ولم تتوفر لدينا معلومات وثائقية عن قيادات الحركة فيما بعد 1969 ، لكن المعطيات المستقاة من بعض المطلعين على شأن الحركة تدل على أنها ظلت ملتزمة بنهج الشورى وتداول القيادة ، فقد تداول على القيادة في هذا الفترة الدكتور علي الحاج ، وعبد الله حسن أحمد ، وعلي عثمان طه ، وحسن الترابي ، وآخرون ..
ومن أجل تحقيق استقامة التوجه (الأمانة) وفاعلية الأداء (القوة) في القيادة تبنت الحركة الإسلامية في السودان أربعة مبادئ تتحكم في تشكيلها وسير عملها . هذه المبادئ هي : "التوزع والتباين والتوازن والتضابط" (31) .
* فالتوزع هو تجزئة السلطة وتفتيتها على هيئات القيادة المتعددة بنِسب منسجمة تراعي الاختصاص ، وتكفل القيام بكل المهام ، وتحقيق كل الأهداف التي لا تستطيع هيئة واحدة الاضطلاع بأمرها .
* والتباين هو الفصل بين السلطات من خلال تنوع الهيئات المكونة للقيادة في شكلها وفي وظيفتها وفي صلاحياتها ، فلا يكون واضع القانون هو منفذه ، ولا منفذ الخطة هو المقيِّم للأداء .
* والتوازن هو العدالة في توزيع الصلاحيات على الهيئات بما يكفل لكل منها ما يكفي من الحرية والفاعلية اللازمتين لأداء مهمته ، دون أن تطغى على غيرها من الهيئات والأجهزة . فلا تكون الهيئات الشورية - مثلا - عبئا مقيدا للهيئات التنفيذية ، ولا التنفيذية قادرة على التنصل من المساءلة والمحاسبة أمام الهيئات الشورية ، أو الخروج على الخطة والتوجه العام .
* والتضابط هو التبعية المتبادلة بين هيئات القيادة ، وقدرة كل منها على مراقبة الأخرى والتأثير عليها إذا رأت في مسلكها انحرافا في الوجهة ، بما يضمن نوعا من التناغم والتلازم فيما بينها ، ويمنع أيًّا منها من الاستبداد بالأمر أو الانفراد بالقرار.
وهذه المبادئ الأربعة هي التي نقصت البناء القيادي في العديد من الحركات الإسلامية ، من ضمنها حركة الإخوان المسلمين بمصر ، والجماعة الإسلامية في باكستان ، كما يتضح من تحليلنا لهيكلهما التنظيمي في الفصل السابق .
الشمول والتكامل القيادي
وحرصا على تشييد بناء قيادي سليم تبنت الحركة في السودان مبدأ "التكامل القيادي" الذي يستمد أساسه النظري من شمول الإسلام ، بحيث تعم مبادئه كل جوانب الحياة النظرية والعملية : ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية ، ومن عموم الدعوة بحيث تشمل كل طوائف المجتمع ، وتنعم بها مختلف مكوناته دون احتكار أو تحيز عرقي أو طائفي أو طبقي .
لقد كان مبدأ التكامل القيادي من أهم المبادئ التي حرصت عليها الحركة ، إذ هو المرادف العملي لمبدأي شمول الإسلام وعموم الدعوة ، والتعبير التنظيمي عنهما .
يوجز لنا الدكتور الترابي بعضا من ثمرات التكامل القيادي وأسباب حرص الحركة السودانية عليه فيما يلي :
*"ضمان عدالة التمثيل وشمول القيادة ، بحيث يكون فيها من ينطق بلسان كل قوم ويبلغهم رسالة الجماعة" (32) .
*"خشية أن تعتل القيادة طبقيا في همومها ومذاهبها وأساليبها ، أو تفتقد العدل والاعتدال والوسطية والتيسير" (33) .
*"حتى لا تتشوه صورتها أو وجهتها ، بل حتى لا يتشوه مغزى الدعوة والحركة الإسلامية"(34) من حيث عموم التوجه والرسالة .
* تجنب المواقف السلبية غير المتجاوبة من طرف القاعدة ، تلك المواقف "التي قد تنشأ من ظن احتكار القيادة لجيل دون جيل ، أو صفوة مخصوصة ، أو طبقة أو فئة معينة" (35) .
ولتحقيق الشمول والتكامل القيادي حرصت الحركة - بعد تجاوز طور التأسيس - أن تضم أجهزتها القيادية ممثلين للفئات السبع التالية :
أولا : أهل السبق والخبرة "أولئك هم السابقون الأولون الذين أسسوا الحركة وأعطوا وجاهدوا حين العسر والغربة ، وصبروا وثبتوا على العهد ، فأصبحوا رموزا للولاء معهودين مأمونين ، وكنوزا للخبرة حكماء ناضجين ، وأعلاما تتعلق بهم تكاليف الجهاد الإسلامي في المجتمع ، ووجوها تعبر عن الدعوة إلى الإسلام" (36) . ولا تخفى أهمية هؤلاء وضرورة وجود البعض منهم في القيادة : استفادة من خبرتهم وحكمتهم ، واجتذابا للآخرين إلى الدعوة بمثالهم ومكانتهم، وتأكيدا لمعاني الاستمرار في المسيرة بحضورهم ومشاركتهم . لكن التحفظ الأساسي على هؤلاء السابقين هو إمكانية هيمنتهم على القيادة بمكانتهم وسابقتهم ، ثم تتحول تلك الهيمنة إلى جمود في نمو الحركة وركود في أدائها ، وتفتح الباب أمام الانشقاق والتفكك الداخلي . إذ قل أن يوجد القادة ذوو الشخصيات المتحركة المرنة ، القادرة على التكيف مع مقتضيات الظروف المتغيرة . والغالب أن يكون جل السابقين ممن صاغت شخصياتِهم ظروفُ التأسيس ، فلا يستطيعون التجاوب الإيجابي مع ظروف مغايرة . ذلك ما يشرحه الترابي بقوله : "ثم يأتي عهد يتكاثر فيه التابعون اللاحقون ، وتبدو القيادات القديمة - مهما وُقِّرت لما مضى - طبقة امتياز تحتكر القيادة ، وحمَلة تصورات غير مناسبة لجديد الابتلاءات . وبالفعل تتقادم القيادة عمرا وعلما ، وتجمد فتجمد بها الحركة . ومثال ذلك مشهور في حاضر العالم ، لا سيما في الحركة الشيوعية الحديثة . بل مثله مشهور في تاريخ الحركات الإسلامية ، حينما يشكِّل التاريخ المحترَم أحيانا ثِقَلاً يعوق حركة التقدم ، فتتراكم حاجات التطور ، وتنسد أبوابه ، حتى ينفجر التغيير دفعة واحدة عنيفا غير رقيق، استدراكا لمقتضيات التجديد" (37) . ومن أوضح الأمثلة على ذلك المعاناة الداخلية التي تعاني منها حركات إسلامية عريقة ، مثل حركة الإخوان المسلمين بمصر والجماعة الإسلامية بباكستان ، تلك المعاناة المتمثلة في شيخوخة الصف القيادي وعجزه عن الاستجابة للظروف المتغيرة ، بحيث تحول من كانوا رواد التغيير في الماضي ، إلى قيد لحركة التغيير في الحاضر ، وحاجز أمام الولوج إلى المستقبل ، رغم القوة والعنفوان اللذيْن يتسم بهما شباب هذه الحركات . وقد أدرك أعداء الحركة الإسلامية هذا الجمود ، فلم يستطيعوا إخفاء ارتياحهم له ، وخوفهم من ظهور قيادات فتية تعيد للحركة قوتها وفتوتها . وفي هذا الصدد كتب "دكمجيان" مطلع الثمانينات : "إن قيادة الإخوان في مصر وغيرها من الدول العربية قيادة شائخة ومرهقة بعد سنوات من السجن والتعذيب . لكن شباب الحركة في حالة سليمة ، وتجربتهم السياسية لا مثيل لها في الحركات الإسلامية الأخرى . وسيكون في وسع قائد حركي شاب - يخلف التلمساني - أن يبعث الحياة في هذه الحركة الضخمة ، ويحولها إلى تهديد حقيقي للنظام" (38) . لكن من الواضح أن ما خشيه "دكمجيان" من التغير النوعي في البناء القيادي للإخوان ، لم يحدث خلال العقدين اللاحقين ، لا في الأشخاص ، ولا في الإجراءات .
إن الحل الأمثل لدرء خطر الجمود هذا ، هو أن يُوجَد بعض السابقين في القيادة بشكل لا يحْرم الحركة من تجربتهم ، ولا يخل بالتوازن بين أجيالها . فوجودهم ضرورة ، إذ هم يعينون الحركة على التقيد بالمبدإ ، والتثبت في المسيرة . وهيمنتهم مضرة لعدم قدرة أكثرهم على التجديد والتطوير في الغالب . وتلك هي خلاصة التجربة السودانية في هذا الشأن "فالحركة الإسلامية في السودان لم تحمل طائفة كبيرة من ذوي السابقة التاريخية فيها ، ولم يخلُ صفها القيادي من بعضهم"(39) .
ثانيا : أهل الشباب والتجديد : في كل حركة تغيير اجتماعي طائفة من الشباب حريصة على التجديد والتغيير ، والتكيف مع حركة الزمن الدائبة . وهؤلاء" هم الذين تتوخى فيهم كل حركة نفحة الانبعاث الموصول ، ودفعة الحياة المتجددة ، لأنهم أقرب إلى الوعي بطوارئ الابتلاءات ، وأوفر طاقة لتكاليف الحركة ، وأسرع تحررا من أسر التاريخ وتصوُّبا نحو المستقبل"(40) . والحركة الإسلامية في السودان ذات منهج توكلي جريء - كما أوضحنا في الفصل الأول - تؤمن بالتجديد الدائب والاستدراك الدائم . لذلك حرصت على "تغذية القيادة بعنصر الشباب ، يمثل القاعدة الأكبر ، ويحمل الموقف المناسب للاجتهاد والتجديد والتوكل ، ويبذل الطاقة المكافئة لحاجات الحركة وأعبائها" (41) . وتمثيل هذه الطائفة في القيادة هو الذي يدرأ خطر الجمود الذي قد ينتج من هيمنة الكبار السابقين ، ويوازن ثِقَل أولئك وتريثَهم بحركة الشباب وحيويته ، ويعصم الحركة من مخاطر الانقطاع بين الأجيال والجمود في العمل . وبذلك "لا تتمايز الأجيال فتتجانب، أو تنقطع وتتخاصم ، بل .. تتكامل توجيهات الحكمة وضوابطها مع إبداعات الشباب ودوافعه"(42) . وقد كان لحضور عنصر الشباب والتجديد بكثافة في قيادة الحركة أثر بارز في قوتها وقدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة والصروف المتبدلة .
ثالثا : أهل الدعوة والخطاب : "هؤلاء هم الذين يباشرون نشر الدعوة بالخطاب والموقف العام كتابة وكلاما يتقنون لغتها ، وينصبون رمزها الظاهر ، ويمثلون الجماعة لدى الرأي العام" (43) . ولا تستغني القيادة عن وجود بعض من هؤلاء ضمنها ، إذ هم لسان الحركة ووسيلتها لاكتساب المجتمع ، وهم القادرون ببلاغتهم ومكانتهم على تسويق قراراتها واختياراتها في الصف الداخلي وفي المجتمع الخارجي . لكن الإشكال التنظيمي المتعلق بهؤلاء هو إمكانية فرضهم قادةً للحركة بحكم شهرتهم وحضورهم لدى القاعدة ، دون أن تكون لديهم المؤهلات الإدارية والتنظيمية والسياسية اللازمة للقيادة : "هؤلاء أقرب - في حركة سرية قد لا يتعارف أهلها جميعا - أن يقدَّموا : استثمارا لكسبهم الجماهيري ، واعتبارا لقوتهم الخارجية . فشهرتهم في الداخل والخارج تزكيهم ، وقد تفرضهم شيئا ما لدى الجماعة" (44) . فالأخذ من هؤلاء بقدْرٍ دون السماح لشهرتهم بالطغيان على عناصر الكفاءة القيادية الأخرى ، هو الأحسن والأليق . وهذا ما فعلته الحركة في السودان : "فإذا تأمل المرء عناصر القيادة وجد فيهم طائفة من هؤلاء قد لا يتميزون بالسابقة أو العطاء ، أو بحسن الإشارة أو الإدارة ، إلا أنهم وجوه الحركة لدى مجتمع الخطاب"(45) .
رابعا : أهل العطاء والتنظيم الداخلي :"غالب هؤلاء عناصر لا تظهر على الملإ ، بل هم فعاليات خفية ، يقومون بالمهام التنظيمية الداخلية ، ويرعون حياة الجماعة الخاصة ، أو يكونون قد أعطوا جليلا من الجهاد بالمال والذات في غير شهرة . فإذا عُرف أمر هؤلاء وقدْرهم في صفوف الجماعة كان ذلك أدعى إلى أن يقدمهم لمواقع القيادة تقديرا لعطائهم ، لأنهم أهل للجزاء ومظنة لمزيد عطاء ، أو احتياجا لأمثالهم . فلا قوام لجماعة بأعلامها ودعاتها إلا أن تدعمها إدارة داخلية فعالة ، وعطاء تنظيمي ، ومدد حركي ، وأن يتجرد لذلك ذوو إرادة ووسع وكفاءة"(46). أما الإشكال المتعلق بهؤلاء فهو أنهم جند مجهولون "وقد لا يُعرَف هؤلاء فيتعرضون للتزكية العامة بين الجماعة" (47) فيؤدى ذلك إلى إهمالهم وعدم إشراكهم في القيادة ، رغم الحاجة الملحة إليهم ، إذ هم قلب الحركة ومحركها ، وأداة تأطيرها وتسييرها ، ودرعها ضد عدوها "وهنا تكمن الحكمة في الانتخاب غير المباشر الذي يتولاه الفائزون في الانتخاب الأولي المباشر . فالغالب أن يكون فيهم قياديون سابقون يعرفون من لا تُشهِره طبيعة عمله ، أو من تخفيه الجماعة عمدا واستئمانا ، ويقدِّرون أهلياتهم والحاجة إليهم ، فيزكونهم للانتخاب المستدرِك الذي يضمهم للقيادة" (48) .
خامسا : أهل السمت الديني التقليدي : "إن للمجتمع التقليدي معاييره في من يكون رجل الدين الشيخ القيادي !! ويتركب المعيار العرفي من مظهر عمر وسمت وزي ، ومسلك تنسك وتورع وتزهد ، وأهلية فقه وعلم تراثي ، وربما خلفية ميراث صالح " (49) . ولأن الحركات الإسلامية حركات تجديدية في الفكر والعمل والسمت ، فإن المجتمع التقليدي قد لا يجد فيها انسجاما مع رؤيته الدينية ، أو صورة نمطية لرجل الدين الذي اعتاده في صورة شيخ فقه خامل أو شيخ تصوف درويش ، فتفقد الحركة شرعيتها في نظره ، وتتحول إلى حركة صفوة حديثة منبتة من مجتمعها . لقد أدرك " دكمجيان" بحق أن "واحدا من المعوقات [للحركات الإسلامية] يتمثل في غياب عدد كبير من "رجال الدين" عنها ، خصوصا في البلدان السُّنية" (50) . ومن الأمثلة التي تساق في هذا الصدد ما أشارت إليه "موسوعة أوكسفورد للعالم الإسلامي المعاصر" من معاناة "الحزب الإسلامي" في أفغانستان : فحينما بدأ التنافس بين "الحزب الإسلامي الأفغاني" بقيادة حكمتيار وبقية القوى الأفغانية الأخرى على قيادة الجهاد ضد الروس - ثم على قيادة الدولة فيما بعد - كانت نقطة الضعف لدى الحزب الإسلامي هي أن أغلب قادته من خريجي الكليات الحديثة الذين لا يملكون تراثا دينيا يسبغ عليهم الشرعية في المجتمع التقليدي (51) . ومن الواضح أن الحركات الإسلامية الشيعية لم تعان من هذا ، بسبب الخلفية التاريخية لمجتمعاتها التي تمنح الفقهاء نوعا من القيادة الاجتماعية ، وتضع تحت أيديهم من الموارد (الخُمس) ما يضمن لهم دورا سياسيا ونفوذا اجتماعيا ، ويجعلهم في طليعة حركة التغيير ، بل يجعل التغيير بدونهم أمرا مستحيلا. أما في المجتمعات السُّنية ، فقد استطاع المستبدون في كثير من الأحيان توظيف العديد من "رجال الدين" التقليديين - فقهاء ومتصوفة وطلاب علم شرعي - ضد حركة التغيير ، وإغرائهم بالمال والجاه ، واستغلال غفلتهم وجهلهم بمقتضيات الدين في مجتمع معاصر . وكان من أسباب ذلك تفريط الحركة في دمجهم في عملها ، وتحميلهم مسؤولياتهم الشرعية . وبذلك تظهر الحكمة فيما قرره الدكتور الترابي حين قال : "تحتاج الجماعة الإسلامية المجددة أن لا تنقطع عن مجتمعها المتدين أو تصادمه ، وأن تحفظ صورة ومصداقية دينية لتمد دعوتها وأثرها بيسر . ويلزمها من ثَم أن تبرز في صف قيادتها بعض من يمثلون الشرعية الدينية التقليدية" (52) . وغير خاف أن أمثال هؤلاء لا يملكون في الغالب مؤهلات قيادية بالمعنى التنظيمي والإداري والسياسي، لكن شمول أهداف الحركة وعموم رسالتها يوفر لهم المكان المناسب والمكانة اللائقة ، ليخدموا الدين قدر وسعهم ، وكل ينفق مما آتاه الله .
سادسا : أهل الثقافة الحديثة : "ما دامت الحركة تجديدية رائجة في القطاع الحديث تستمد قوتها في المجتمع من قوته القيادية والتأثيرية ، فقد كان لزاما أن يكون غالب قيادييها من النموذج المثقف الحديث بدرجاتهم العلمية النظامية ونسبتهم المهنية . هؤلاء قوام مراحل تأسيس الحركة [في السودان] ورموز قوتها في القطاع الحديث الرائد ، وهم أيضا من أسباب هيبتها في القطاع التقليدي ، الذي قد لا يتوخى قيادة شأن الدين في أمثال هؤلاء ، لكنه يرجوهم لشؤون دنياه ، ويعلم أنهم أهل بصر وخبرة في ذلك، لا سيما حين يلاحظ فيهم عجيب الجمع بين دعوة الدين والدنيا" (53) . وتتجلى أهمية هذا القطاع - إضافة إلى ما سلف - في ثلاثة أمور :
*"استسلام العوام لقيادة الصفوة" (54) وهي ظاهرة تاريخية في المجتمعات البشرية عامة .
*"فتنة المجتمع بزينة الشهادات العليا" (55) وهو أمر شاع في مجتمعات العالم الثالث الحديثة تعبيرا عن مركب النقص تجاه الثقافة الغربية .
* خبرة هؤلاء التنظيمية والإدارية والسياسية التي توفرها لهم ثقافتهم الحديثة ، وقدرتهم على التعامل مع تحديات العصر ، واستيعاب أحوال العالم .
وكان الإشكال أمام الحركة في السودان - خلافا لحركات أخرى - هو كيفية إلجام هؤلاء ، والحيلولة دون سيطرتهم الكاملة على مقاليد الأمور ، إذ "كان نجاح الإخوان [السودانيين] محدودا في اجتذاب أعضاء من خارج القطاع الحديث المتعلم" (56) خصوصا في الأطوار الأولى من عمر الحركة .
ونظرا للمنحى التجديدي الذي تتبناه الحركة الإسلامية في السودان فإن أغلب قادتها كانوا من هذا القطاع الحي الرائد ، دون أن تهمل المجتمع التقليدي ، أو تقطع الصلة به .
سابعا : أهل التمثيل المخصوص : رغم كل الاحتياطات والحرص على التكامل القيادي ، من خلال إدراج المجموعات الست المذكورة ، فقد وجدت الحركة في السودان بعض الثغرات ، ذلك أن "الانتخاب العام مهما كان حرا راشدا لا يخلو من ثغرات في تمام التمثيل ، فكانت إجراءات الضم بالانتخاب التكميلي غير المباشر تتيح فرصة لاستدراك ذلك" (57) . وللضم التكميلي فائدتان هما :
* التأمين لبعض القادة الذين تحتم الظروف بقاءهم في الظل . وسنتحدث عن ذلك في الفقرة التالية ..
* والتوازن من حيث فتح الباب لإدخال أبناء بعض المناطق والفئات التي لم يوجد في الهيئة المنتخبة من يمثلها وينطق بلسانها .
وبذلك "تُراعى الموازنات الإقليمية بغير أحكام قطعية في تكوينات القيادة التنفيذية ، كما يُراعَى تمثيل الفئات المظلومة" (58) . مثال ذلك في الحالة السودانية : سكان الريف وأهل الجنوب. وتستطيع الحركات الإسلامية في بلدان أخرى أن تطبق هذه القاعدة على طوائف أخرى من المجتمع، خصوصا تلك التي قضت عليها الظروف التاريخية والاجتماعية بالإقصاء أو الاضطهاد، أو حالت ظروف دون تأثرها بالخطاب الإسلامي تأثرا كافيا .
توازن الشرعية والأمن
إن الظروف التي تعمل فيها الحركات الإسلامية ليست ظروفا طبيعية ، فالمضايقة من القوى المحلية، والتربص من القوى الخارجية ، لا يسمحان بالاسترسال في الانفتاح ، أو التوسع في التشاور حول اختيار القادة ، بالقدر المطلوب شرعا ، والمرغوب واقعا . فكان لا بد من حل عملي يوفق بين اعتبارات الشرعية القاضية بأن القاعدة هي مصدر شرعية الولاية والقرار ، وبين اعتبارات الأمن القاضية بعدم الكشف عن جميع المهيَّئين لعضوية القيادة .
إن الحل العملي الذي تقدمه التجربة السودانية لذلك الإشكال هو أن "تتخذ الجماعة في انتخاب ولاتها الشوريين والتنفيذيين نظامين :
* الانتخاب المباشر من تلقاء قاعدة عضوية الجماعة لمؤتمرها العام ، أو من تلقاء المؤتمر لهيئتها الشورية .
* والانتخاب غير المباشر حيث يكون للهيئة الشورية وللهيئة التنفيذية أحيانا أن تنتخب بعض أعضاء تضمهم إليها - بنسبة الثلث أو دونه - وتستكمل بهم هيئتها" (59) .
صحيح أن هذه الطريقة تسلب القاعدة جزءا من سلطتها الشرعية ، لكن للضرورات أحكامها التي تفرض نوعا من التنازل بين المبادئ ، والتناسخ بين الأحكام . كما أن منح القاعدة للقيادة المنتخَبة صلاحية تعيين أفراد تكمل بهم النقص ، لا ينافي حق القاعدة في قرار الاختيار . ولا يعدو الأمر أن يكون تنازلا حكيما منها من أجل التغلب على إشكال عملي على قدر كبير من الأهمية. ذلك ما يشرحه الترابي بقوله: "الانتخاب غير المباشر درجة نازلة في حكم الشورى ، لأنه أبعد من اختيار القاعدة ذات السلطة الشرعية في الأصل بعد نص الشريعة ، ولأنه أقرب بانحصار عدد الناخبين إلى أن يدخله التأثير . ولكنه ضرورة اقتضتها خصوصية طبيعة الجماعة وسرية أعضائها . فالقاعدة قد لا تعرف المؤهلين للقيادة ومناصبها المختلفة حق المعرفة ، وقد يكون من الحيطة أن لا تعرفهم جميعا ، أما المنتخبون الأوليون فهم أوْلى أن يعرفوا أقرب المؤهلين وخصوص تزكيتهم وتجريحهم . ومن ثَم رُكِّبت الهيئات القيادية من جانب أكبر يُنتخَب مباشرة ، وجانب أصغر يضمه أولئك" (60) .
ولا شك أن هذا حل وسط عادل يحافظ للقاعدة على سلطتها ، باعتبارها مصدر الشرعية القيادية، ويحفظ للحركة أسرارها الاستراتيجية ، التي لا تسمح الظروف بنشرها على ملإ من الناس .
التقييد الزمني للولاية
من الضروري أن لا تكون الولاية تفويضا دائما مدى الحياة ، فهذا أمر محسوم في فكر الحركة الإسلامية السودانية ، نظرا لما في التفويض الدائم من مساوئ ، منها :
* احتمال الجمود والتصلب في القيادة ، لطول العهد وتقدم العمر وتقادم التجربة ، دون وجود محطات للتقييم أو إمكانات للتغيير .
* الحرج والصعوبة في التغيير في حالة تقصير القيادة في حق الجماعة ، أو قصورها عن التجاوب مع الحاجات المتغيرة .
* احتمال التمزق والانشقاق في صف الجماعة نتيجة لإغلاق مسالك التغيير بصورة سلمية وشرعية . "وذلك أن الولاية - ولو كان أصلها انتخابيا - إذا جمدت كانت أدعى لأن تؤسس الجمود ، وتعيق التجديد ، وأن تسبب حرجا في عزل والٍ ساء عطاؤه ، أو تخلف عن حاجة الجماعة" (61) .
من هنا حسمت الحركة السودانية أمرها واعتمدت منهج التولية لأمد محدد "عام إلى بضعة أعوام" (62) ثم يتم تجديد الولاية على ضوء المحاسبة والتقييم لثمرات تلك الفترة .
إنما وجد الإشكال - أمام الحركة - في عدد المرات التي يمكن إعطاؤها لصاحب الولاية . فهل الأحسن التحديد : بأن تكون مرتين أو ثلاثا - مثلا - أم الأحسن الإطلاق : بجعلها غير محدودة ما دام القائد قادرا على العطاء والمواكبة ؟؟
لكل من الطريقتين فوائد ومساوئ :
فمن فوائد التحديد :
* مرونة الانتقال القيادي صعودا ونزولا ، وغلق الباب أمام الاستبداد بالقرار أو احتكار السلطة .
* فتح الباب أمام الأجيال الجديدة من المؤهلين للتعبير عن كفاءاتهم وعبقرياتهم الخاصة ، من خلال وضعهم في بؤرة التحدي .
ومن مساوئه :
* احتمال الانقطاع في تراكم التجربة ، وهو أمر مضر للغاية بمسيرة الحركات الإصلاحية .
* مخاطر الانتقال فيما يتعلق بالجوانب السرية الحساسة من عمل الحركة .
ومن فوائد الإطلاق :
* استمرار التراكم والتقدم المتحصل ، لأن "الاستمرار في الولاية أدعى لاستبقاء التجربة واضطراد السير" (63) .
*عدم حرمان الحركة من تجربة قادة برهنوا على كفاءتهم ومرونتهم وتجاوبهم مع مقتضيات الظروف المتجددة .
ومن مساوئه :
* الخوف من إفراغ العملية الانتخابية من مضمونها بـ"أن تكون دورات التولية شكلا ظاهرا لا يحقق التجديد الفعلي" (64) .
* مخاطر الجمود التي عانت منها بعض الحركات الإسلامية ، حينما ظل يقودها نفس الأشخاص لمدة مديدة ، لا بكفاءة أو مرونة ، بل "بقوة التاريخ وهيبة المقام" (65) .
وبالموازنة بين هذه الاعتبارات المتعارضة ، والتأمل إلى ظروف الحركة ومجتمعها "رجَح لدى الجماعة [في السودان] أن لا تضع حدا لعدد الولايات المتعاقبة" (66) . لكنها حاولت التغلب على مساوئ ذلك وغيره بإجراءات وقائية ، نتناولها في حديثنا عن العوائق الموضوعية للشورى ، وعن وسائل حماية الشورى .
العوائق الموضوعية للشورى
لا تنحصر العوائق أمام الشورى في استبداد القادة وتفلت القاعدة ، بل توجد عوائق موضوعية ناتجة عن طبيعة الحركات الإسلامية ، من حيث عموم رسالتها ، وظروف عملها . ومن هذه العوائق :
*"التفاوت البادي في الكسب العلمي" (67) والمراد به الانفصال الممكن بين جماهير القاعدة وبين طبقة المثقفين ثقافة حديثة عالية ، تلك الطبقة التي "قد يكون خطابها معقدا ، وبرنامجها مستعليا ، لا يدركه السواد الأعظم من أتباعها" (68) . والشورى تقتضي قاعدة خطاب موحد يدركها كل الشركاء .
*"سرعة البت والتنجيز في الأمور" (69) أحيانا ، بما لا يدع مجالا لاستشارة القاعدة أو إشراكها في صياغة القرار بشكل مُرْض "والقيادة من ثَم قد تتحرك بنحو ، وتستجيب للتحديات بسرعة ، مما لا يسع آخر الركب" (70) . فيولد ذلك نوعا من الانفصال يتعين تلافيه .
* ضعف قنوات الاتصال التنظيمية ووسائل الاتصال المحلية "لا سيما في بلد مترامية أطرافه، بائسة مرافق الاتصال وهياكل النقل فيه" (71) . مما يؤثر على حركة انسياب المعلومات والمشاورات بين القيادة والقاعدة في الوقت المناسب وبالصورة المناسبة .
*"سرية الأوضاع الخاصة بالجماعة" (72) حيث "إن أوضاع السرية التي تفرضها ضرورة الأمن الملازمة لحال الحركة الإسلامية تقتضي حجب كثير من المعلومات ، بل تقتضي احتجاب بعض القيادات عن القاعدة ، خشية الافتضاح والتعرض للمخاطر" (73) .
* وربما انضافت إلى ذلك ظروف استثنائية خاصة - كحملات القمع والاضطهاد - فزادت من أسباب الحيطة والتكتم . وللظروف الاستثنائية - لا محالة - أثرها السلبي على التشاور في القرارات ، والتداول حول الشأن العام .
* خصوصية بعض الموضوعات ، بحيث لا تستطيع القيادة إطلاع الجميع عليها ، وبعض القرارات التي لا تستطيع شرح الحكمة منها ، لما في ذلك من إهدار قيمتها العملية والمصلحية، مثل بعض القرارات المتضمنة نوعا من المناورات السياسية والأمنية التي لا يمكن شرح حيثياتها . وقد أشار مكي إلى ذلك بقوله : "إن الظروف الاستثنائية تؤدي إلى حجب كثير من المعلومات عن الجماعات القاعدية . والمشاورة الناجحة تتطلب إلمام كل الأطراف بتفاصيل ما هو دائر" (74)
* ضرورة الاقتصار على أهل الخبرة والاختصاص في بعض الأمور التي لا يحسن طرحها للمناقشة أمام الذين لم يلموا بأبعادها ، مثل القضايا الفنية المتخصصة التي لا يُحسن الخوضَ فيها إلا أهلها ، وهو ما دعاه الترابي "تقدير العطاء الفني والعلمي المتخصص" (75) .
وقد توقف الأستاذ مكي عند هذا العائق الأخير ، وصلته بتعامل الحركة الإسلامية مع الجيش . وبين الإشكال الذي يواجه الحركة في التشاور حول هذا الموضوع ، ودعا إلى مزيد من فتح الموضوع والتحاور حوله بين القيادة والقاعدة ، وتجاوز "الخصوصية التقديسية" التي تعتمدها قيادات الحركات الإسلامية في هذا الشأن . فقال : "وقد تعقد وضع قضية الشوكة في أدب الحركة الإسلامية نتيجة لجدار الصمت الذي ضربته القيادة حول هذه القضية ، حيث انعدمت كليا الدراسات التي أشارت لطبيعة المؤسسة العسكرية وعلاقاتها ، وأثرها في تحريك القرار السياسي والاقتصادي ، كما خلت مناقشات أجهزة الجماعة ومجلس شوراها من التداول في أوضاع المؤسسة العسكرية وامتداداتها ، ودورها في النظام الإسلامي ، بل إن ثقافة القيادي الإخواني عن هذه المؤسسات تقل كثيرا عن ثقافة رصفائه [=نظرائه] في التنظيمات الأخرى" (76) "إن واحدا من تحديثات شورى الإخوان أن معظم أعضاء الشورى لا يملكون المعلومات الأساسية التي تعين على فهم طبيعة أهم مؤسسة تقوم عليها فكرة الدولة [=المؤسسة العسكرية] كما يجهلون المشروع الذي يقوم عليه تنظيمهم لتغيير هذه المؤسسات ، إن وجد هذا المشروع ، مما جعل شوراهم عديمة الجدوى ، متعللين بأنها مسألة فنية متروكة للفنيين ، علما بأنها مسألة حضارية فكرية سياسية ، وأكبر من أن تحصر في الفنيين . إن أي تقدم حقيقي في أمر بناء الشوكة الإسلامية يتطلب الانفتاح العقلي والتنظيمي على قضية الشوكة . إن "الخصوصية التقديسية" التي يُنظَر بها للمؤسسة العسكرية لا تفيد كثيرا في تغيير طبيعة هذه الخصوصية . وقد تظل فكرة الشوكة تمثل إلى حين من الدهر إشكالية حقيقية في أدب الحركات الإسلامية" (77) .
ولا ريب أن لرأي الأستاذ مكي مستنده ، فالخيارات الاستراتيجية الكبرى لا ينبغي حسمها في إطار الفنيين حصرا ، لكن هذا الرأي لم يكن ليغلق باب النقاش حول هذا الأمر الحساس ، الذي تتعارض فيه دواعي الشورى والأمن ، وتتداخل عوامل الإسرار والإعلان .
ومهما يكن ، فإن من آثار هذه العوائق الموضوعية التي تعوق الشورى :
* التأثير سلبا على مرونة التغيير القيادي ، وبقاء بعض القادة في مواقعهم فترة طويلة بحكم حساسية تلك المواقع .
* التأثير سلبا على حسن تفهم القاعدة لبعض القرارت التي تتخذها القيادة ، لتعذر الكشف عن حيثيات تلك القرارات ومراميها .
وبذلك تصبح القيادة كأنما تجر قاعدتها إلى ما لم تحط القاعدة بعلمه ، ولا تستطيع القيادة شرحه . فتبدأ مخاطر الانفصال تظهر ، إلا أن تكون القيادة قد أعدت لذلك عدته من خلال الإجراءات الاحترازية التالية :
* توطيد الثقة وتعهدها : وهنا تظهر الحكمة من حرص الحركة الإسلامية في السودان على وجود بعض الرموز من السابقين وأهل الدعوة والخطاب في الهيكل القيادي ، مهما تكن كفاءتهم القيادية محدودة ، نظرا لدورهم الجوهري في تسويق أي قرار لدى القاعدة ، حتى ولو لم يكونوا من صاغته .
* تنمية الوعي الحركي لدى القاعدة ، بما يجعل التابع يسلم بحكمة المتبوع في بعض الأمور التي لا يجد لها مسوغا ظاهرا ، ويعذره بما عساه يكون لديه من الاطلاع على بواطن الأمور . وقد عالجت الحركة ذلك بتعميق التكوين السياسي والأمني لدى الأعضاء ، بما يجعلهم قادرين على تفهم بعض القرارات التي لم يستطيعوا فهمها .
* تجديد قنوات الاتصال وتطويرها باستمرار ، طبقا لما توفره ظروف المجتمع الحديث من وسائل. وقد حرصت الحركة على الخبرة الفنية المناسبة ، بقدر ما تسمح به ظروفها والإمكانات المتاحة في بلدها .
* تعميق المعاني الإيمانية ، خصوصا مبادئ التوكل على الله ، وخشيته بالغيب ، والأمانة ، والوفاء ، والطاعة …
إن مثل هذه القرارات الخاصة ابتلاء للقيادة وللقاعدة ، وإن بشكل مختلف ، فهي:
* ابتلاء لمستوى الأمانة والصدق بالغيب عند القيادة ، التي ستتخذ قرارات مهمة دون رقابة أو متابعة من القاعدة . فهذا من المواقف التي يستطيع من لا يخشى الله ربه استغفال الأتباع فيها واستغلال جهلهم .
* وابتلاء لمستوى الوفاء والطاعة والتوكل لدى القاعدة التي سيتعين عليها - أحيانا - التسليم لأمور غير مقنعة في ظاهرها ، ثقة في أمانة قادتها ، وإيثارا لمصلحة التكتم على إرضاء الفضول.
وسائل حماية الشورى
إن ما ميز الحركة الإسلامية السودانية في مسألة الشورى هو كثافة الإجراءات العملية الملزمة التي تحمي مبدأ الشورى ، وتحفظ للجماعة سلطانها على قادتها ، وتحول دون إعاقة الاختيار الحر والقرار الجماعي . ومن هذه الإجراءات :
* تعدد المرشَّحين : حيث "استقر العرف على أن لا ينقص عدد المرشَّحين للهيئات الشورية عن ثلاثة أمثال العدد المطلوب للتولية ، وفي ذلك ضمان لتوسيع المقارنة والخيار … ويمضي الحكم ذاته في شأن الترشيح للأمانة العامة" (78) إذ يتم ترشيح ثلاثة أشخاص على الأقل لمنصب الأمين العام ، تأكيدا لحرية الناخب في الاختيار .
* اعتماد منهج الترشيح - لا الترشح - حتى تظل الجماعة متحكمة في طموح الطامحين . "فلا مجال لأن يعرض المترشح ذاته ويزكيها لأنه أمر مكروه في الدين" (79) بل تتولى ذلك هيئات الترشيح في الجماعة . ويختلف تركيب هذه الهيئات باختلاف الظروف السياسية والأمنية : "ففي ظروف القهر والسرية يغلب أن يُحصر الأمر في دائرة [=هيئة مشتركة] بين القاعدة العامة وبعض الهيئات القائمة ، حتى يتم اختيار الملتزمين المأمونين للترشيح . أما في ظروف الفرَج ، فالترشيح مباح لكل القاعدة" (80) .
* عدم قبول الاعتذار عن الترشيح : فمن زكَّته هيئات الترشيح في الجماعة مرشَّحا لمنصب معين لا يُقبل عذره وتمنُّعه من الترشح غالبا "وقد يُؤذَن للمرء أن يعبر عن تحرجه وتمنعه من الولاية ، لكن الأغلب أن لا يُطاوَع على اعتذار ، بل يُثبَّت ترشيحه ، ويُترَك للناخبين أن يقدروا كونه محض تورع ، أو جِدَّ عذر مانع" (81) .
* التقييد الزمني لفترة الولاية : فقد "تميزت الحركة السودانية عن [بعض] نظائرها بأن انتخاب أميرها وأجهزتها الموازية مربوط بقيد زمني محدد . كما حددت اللوائح طريقة الانتخاب والعزل . بينما قامت [بعض]الحركات المماثلة على فكرة البيعة للمرشد مدى الحياة . وعمليا ، وفي أشد فترات التضييق السياسي ، لم تحد الحركة عن هذا المبدإ" (82) .
* منع تشكيل كتل الضغط : "من المناهج المحظورة في عرف الجماعة تشكيل كتل الضغط المنظَّم، دعوةً لصالح مرشح أو قائمة معينة . وقد لا يقوم حرج أن يصدع البعض عفوا بمقولة جرح أو تعديل لمرشَّح ، أو بالوصاة بمراعاة فئة من المرشحين ، أما التدبير المنظم ، أو السعي المستخفي ، فهو مما تنهى عنه الجماعة ، ويُوأَد حيثما يظهر إلا قليلا" (83) .
* قبول الجرح والتعديل في حدود : "فقد جربت الجماعة إتاحة مجال للجرح والتعديل ، لإشاعة تقويم يعِين الناخبين على الرشد في الانتخاب . ولكنها لا تفتح ذلك مطلقا ، خشية أن يتجاوز ويؤدي إلى فتنة ، بل تحصره في مجال الانتخابات غير المباشرة حيث تشارك فئة على قدر من المسؤولية والتجرد والتقوى في أحكامها ، في نطاق محدود لا تشيع مقولاته فتفتن أو تؤذي أحدا" (84) .
* فتح باب النقد الذاتي على مصراعيه : وليس كالنقد الذاتي حاميا للشورى ولرأي الجماعة . أما التستر على العيوب ، وتشجيع الأتباع على التقليد الأعمى ، والانسياق البليد مع سير الأمور دون فحص أو مراجعة ، فهو إفراغ لمبدإ الشورى من مضمونه . لقد لاحظ الأفندي بحق أن "الترابي في شرحه لعمله وعمل حركته يبدو أحيانا أقرب إلى أطروحات عالِم الاجتماع منه إلى القائد الحركي الأديولوجي . وهذا النقد الذاتي واحد من أهم العوامل في نجاح الحركة بدون ريب" (85) .
وفيما كتبه الدكتور الترابي وغيره من كتاب الحركة الإسلامية السودانية أمثلة بليغة على النقد الذاتي غير المجامل . ومن ذلك قول الترابي متحدثا عن عدم التزام الحركة - أحيانا - بالخلق الإسلامي في عملها السياسي : "كانت الحركة أحيانا تعارض كيفما اتفق ، وقد تَلقى نفسها مفتونة بحمية المعارضة أن تزاود في الحق وتكابر ، بينما تحب أن يكون ولاؤها بالحق دون عصبية وقيامها بالقسط دون ميل ، أو أن تنابذ في الخطاب وتهاتر ، بينما تعلم أن واجبها أن تقول التي هي أحسن وتدفع بها ، أو تشاقق في العلاقة وتهاجر ، وحقيق بها أن تبشر ولا تنفر وتجمع صف الأمة ولا تفرقه ، أو تنافق بظاهر من الموقف وتزدوج بمعاييرها ، وأولى لها أن تصدق وتستقيم في المخبر والمظهر " (86) . كما أن في اعترافه بتأثير النزعة الوطنية السودانية على سوء العلاقة بين الحركتين المصرية والسودانية مثال آخر لا يقل أهمية (انظر الفصل السابع) . ومثل الترابي في ذلك الدكتور حسن مكي ، والدكتور عبد الوهاب الأفندي ، في منهج تناولهما لتاريخ الحركة وعملها. فقد اشتملت كتبهما على جوانب من النقد الذاتي النزيه ، يعز نظيره في الحركات الإسلامية الأخرى .
لقد كان مؤتمر عام 1962 الذي اعتمدت فيه الحركة بعضا من وسائل حماية الشورى السالفة الذكر ، حدا فاصلا بين مرحلة القيادة الفردية ، ومرحلة الشورى الجامعة "إذ التنظيم ما عاد تنظيم الرجل الواحد بعد قرارات المؤتمر" (87) . وباعتماد هذه الإجراءات الوقائية لحماية الشورى وترسيخها ،كانت الحركة الإسلامية في السودان هي الحركة الوحيدة - تقريبا - التي "استطاعت أن تخفض وترفع ، تعزل وتضيف ، تفصل وتضم ، دون أن يؤثر ذلك على سلامة الحركة" (88). والكل يعرف آلام المخاض التي تصاحب انتقال القيادة في جل الحركات الإسلامية . كما كانت من الحركات الإسلامية القليلة التي تغلبت على مشكلات الخلافات الداخلية دون تأثير على بنية الحركة ومسيرتها . فقد خرج على الحركة بعض من القادة المؤسسين، والأعضاء التابعين لهم ، لأسباب وظروف شتى ، يرجع بعضها إلى اختلاف في التصور بين هؤلاء المتمسكين بالأعراف التنظيمية التقليدية ، المتوجسين من كل جديد ، وبين غيرهم من دعاة المرونة الحركية والتجديد . وبعضها يرجع إلى خلافات شخصية مما يكون بين الأقران عادة ، ومطامح قيادية لدى من لم ليسوا أهلا لها ، والله أعلم بالسرائر . لكن الحركة ظلت متماسكة ، ولم تعصف بها عواصف الخلافات القيادية .
وقد تتبع الأستاذ مكي أسباب واحد من تلك الخلافات ودواعيه ، فتوصل إلى النتيجة التالية : "في تتبعي لمسار الخلاف ونتائجه ، اتضح أن الخلاف ما كان حول مبادئ بعينها ، وإنما كان الصراع يدور أساسا حول قيادة التنظيم ، أي ذات فكرة الغنائم التي قسمت المسلمين في أحد ، وأدت إلى تنازعهم وفشلهم . لذا فما إن فازت الحركة بنصيب من السلطات حتى أطل الصراع. ولعل التيار [الذي انشق عن الحركة] .. رأى أنه مهمَّش في التنظيم ، وبعيد عن مكان صنع القرار ، وأن وضعه لا يتناسب وقدره وبلاءه ، لذا فقد اختار أن يدخل في معركة ، ويغلفها بأنماط من المبادئ الفضفاضة ، بدلا من المواجهة ببرنامج تغيير" (89) .
المراقبة والمحاسبة
لا يكون البناء القيادي سليما إلا إذا كان باستطاعة القاعدة أن تتحكم في قيادتها ، وتلجمها وقت الحاجة ، وتستبدلها عند الضرورة . وقد اتخذت الحركة السودانية لذلك العديد من الوسائل الوقائية ، منها ما سبقت الإشارة إليه ، مثل تحديد الولاية بأمد محدود ، واعتماد منهج الترشيح ، وتعدد المرشحين .. بيد أن الثقة في القادة وقت اختيارهم قد تسفر عن خطإ في الاختيار ، أو انحراف عن الوجهة التي عرف بها أولئك القادة .. ولذلك فإن أي إجراءات احتياطية سابقة على الاختيار لا تغني عن المراقبة والمحاسبة .
وتقتضي المحاسبة النزيهة الفعالة الأخذ بالمبادئ التالية :
* وضوح التكاليف المطلوبة من كل فرع أو هيئة أو عضو ، بشكل لا يترك مجالا للمراوغة أو التنصل من المسؤولية .
* تقييم الكسب المتحصل في تلك المهمة ، قياسا إلى الخطة الموضوعة والإمكانات المتاحة ، وأخذ العوائق والمحفزات بعين الاعتبار .
* الفصل بين جهة التنفيذ المكلَّفة بالمهمة ، وجِهة التقييم المكلَّفة بالمحاسبة ، تجنبا لأي إغضاء مجامل أو تزيين مغال .
وقد كانت الحركة الإسلامية في السودان من أوعى الحركات الإسلامية بهذه المبادئ ، وأحرصها على تطبيقها في نظام المحاسبة المعتمد لديها . إذ اعتمدت الحركة "درجة عالية من المحاسبة" (90) تمثلت في التقارير التي يتم إعدادها تقييما لإنجاز أي خطة أو أداء أي مهمة ، وحرصت على الدقة في التقارير ، والشفافية في المحاسبة : "فلا التقارير تُكتب بصيغة مبهمة أو معتذرة أو مزينة ، بل هي أرقام ووقائع ونِسب ، ولا المحاسبة تجنح للإغضاء عن الأخطاء ، ومجاملة الأقران والكبار . بل هي مناقشة حساب جادة ، رَقَّ لفظها أو غَلُظ" (91) .
لقد أصبحت محاسبة القادة والعاملين ذات مغزى أخلاقي في عرف الحركة ، فهي المعادل الجماعي للتوبة الفردية : فحينما تحاسب الجماعة قادتها أو عمالها ، وتناقشهم في الشأن العام الذي اضطلعوا به، فهي بذلك تتوب عما وقع من تقصير ، وتتبرأ منه وتعالجه ، فتحافظ على نقائها الأخلاقي ، وسلامة خططها العملية "ومن شأن المؤمن أن يراجع نفسه ويحاسبها ، وينظر ما قدمت يداه ، ولكن الجماعة لم تكن واعية بهذا الواجب في شأنها العام ، حتى ترجمت معاني المحاسبة والتوبة الذاتية إلى نظام منهجي في التقدير المتجرد الناقد لأشكالها وأعمالها ، والمحاسبة الوثيقة الناصحة ، والاعتبار بذلك في استدراك القصور ، واتخاذ خطط الإصلاح" (92) . وكلما تطورت الإجراءات التنظيمية والإدارية في هيكل الحركة ، ودخل التخطيط في عملها، أصبحت المحاسبة أدق وأقرب إلى الموضوعية "لوضوح الأهداف والمعايير المثلى للأداء" (93) . وهكذا "أصبح تحرير التقارير ممارسة مضبوطة بأنماطها العلمية الدقيقة ، وأوقاتها الدورية المقررة ، على بينتها تحاسِب هيئات الائتمار والشورى القيادةَ ، ويحاسب القادةُ من هو دونهم في سلم المسؤولية" (94) حيث إن للمحاسبة مظهرا تصاعديا (محاسبة القاعدة للقيادة) ومظهرا تنازليا (محاسبة القيادة للأعضاء) .
أما في مجال الرقابة على العاملين الآخرين - غير القادة - فقد حاولت الحركة ترسيخ قيمها في نفوس الأفراد ، حتى يكون لدى العضو وازع من نفسه يدفعه إلى الالتزام بأخلاق الجماعة والانضباط بنظمها ، وبذلك "تترسخ قيم الجماعة وأخلاقها في جمهور أفرادها ، حتى يصبح الالتزام بها عادة ينبعث إليها الفرد طوعا من تلقاء نفسه ، ومن وراء وعيه المباشر" (95) . وهذا هو الهدف الأسمى ، والوضع المثالي الذي يجب الحرص عليه ، خصوصا إذا كان التنظيم لا يملك سلطة إكراه على أعضائه ، كما هو شأن الحركات الإسلامية . فواجب هذه الحركات هو التركيز على "طاعة الوجدان" ، إذ هي لا تملك إلزام الناس بـ"طاعة السلطان" . بل وحتى لو ملكت ذلك ، فإن طاعة الوجدان خير وأبقى .
لكن التربية الخلقية وتركيز الولاء للجماعة ليست أمورا كافية لجعل الأعضاء ملتزمين منضبطين ، إذ يتفاوت الناس عادة في نمو الضمير الخلقي ، وفي مستوى الولاء ، وفي مقاومة دواعي السلبية والتسيب ، ونوازع التمرد والانشقاق . والواقع يشهد بأن "ظواهر شذوذ الأفراد عن عرف الجماعة لا تنقطع البتة" (96) . من هنا كان من الالتزام بالحكمة والروح العملية أن لا تكتفي الحركة بذلك الجانب الخلقي - إذ هي ليست مجرد دعوة وعظية - وأن تتبنى بعض الوسائل الملزمة وغير الملزمة ، لإقناع العضو أو إلزامه بالطاعة والانضباط "حيث تقيم الجماعة رقابة وثيقة على الفرد حيثما تقلب في حياته العامة ، وتضع عليه بعض المؤثرات المناسبة لكيما يلتزم الأخلاق المعروفة فيقف عند حدودها وينساق مع أوامرها . وذلك بتعريض الفرد المتمرد عليها للإنكار والملام ، وربما العزل والمقاطعة ، وبتشجيع المتأدبين بعرف الجماعة بحسن الاعتبار ، والذكر الجميل ، وغير ذلك من وسائل الترغيب" (97) .
وتحتاج إجراءات المراقبة والمحاسبة إلى تأسيس على مبادئ عامة تشمل الجميع ، ولا يحسن تركها لرأي القيادة وتقديراتها الظرفية ، حتى لا يُساء استعمال السلطة ضد البعض مغالاة في عقابهم ، أو يُتساهل مع آخرين ، على حساب الحركة ورسالتها . من هنا تعين على الجماعة "أن تقيم - علاوة على أخلاقها - نظاما أدق في أحكامه وأشد في جزاءاته" (98) من خلال النصوص المنظمة لشأنها الداخلي .
صناعة القرار
من الأمور المهمة ذات الصلة بالبناء القيادي عملية صناعة القرار . فشرعية القيادة وقت تقلدها لمهامها لا تؤدي بالضرورة إلى سلامة القرار ، وحسن الإعداد له . بل قد تخضع صناعة القرار أحيانا لمزاج فرد ، بدلا من التعبير عن روح الجماعة وتوجهها . وقد يتخذ قرار غير ناضج في ظروف غير ناضجة ، فيؤدي إلى كوارث في المسيرة الحركية . فلا بد من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحسن صناعة القرار ، وحسن الإعداد له ، وصدق تعبيره عن توجه الجماعة ، حتى لا يستطيع قائد فرد أن يدفع بالحركة إلى اعتماد خيارات استراتيجية وقرارات مصيرية ، تؤثر في مسيرتها تأثيرا جوهريا ، دون رجوع إلى أجهزة الشورى والرقابة .
وقد عانت الحركة الإسلامية في السودان من ذلك في بعض الظروف ، لكنها استوعبت الدرس ، وصححت المسار ، واتخذت الإجراءات الوقائية اللازمة لتجنب نفس المزالق .
كان بعض قادة الحركة الأوائل يميلون إلى الانفراد بالأمر . ومن أمثلة ذلك علي طالب الله ، الذي حول الهيئة القيادية الوحيدة آنذاك من هيئة منتخَبة إلى هيئة يعينها ، سدا لأبواب المعارضة أمام مخالفيه في الرأي ، حيث "كان هناك مكتب إداري ظل ينتخب من الجمعية العمومية ، إلى أن أبطل ذلك [المراقب العام] الشيخ علي طالب الله عند إحساسه بوجود تيار معاكس في 1953، وأخذ يعين المكتب تعيينا" (99) . ومنهم الرشيد الطاهر الذي سنتناول أمره فيما بعد .
وقد أدى انشغال الحركة بالصراع الداخلي مع قادتها آنذاك إلى تراخ كبير في عملها الاجتماعي والسياسي ، وتلك أدنى نتائج الاستبداد القيادي ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل . ونتيجة لذلك ، فقد ضاعت على الحركة فرصة الاستفادة السياسية من ثمرات ثورة اكتوبر الشعبية التي أطاحت بسلطة الجنرال عبود عام 1964 ، فبقيت الساحة السياسية مكشوفة أمام الحزب الشيوعي ، القوة المنظمة الوحيدة القادرة على ملء الفراغ في غياب الحركة الإسلامية . وهو ما يشرحه مكي بقوله: "مع تباشير نجاح الثورة ، ازدادت حركة اليسار ، وظهر تفوق تكتيكي من جانبه ، تجلى في قدرته على التحسبات ورصد التوقعات ، بينما كان الإسلاميون يعالجون جراح السنوات الماضية ، من افتقار للقيادة ، ومن توجس في أمر القيادات الفردية . كما كانت الإمكانات المفتوحة لتطور الحركة ونموها أكبر بكثير من القابلية الإخوانية الموجودة للتمدد وشغل الفراغ . كما أن التجربة الأكتوبرية فتحت آفاقا واسعة جديدة في العمل السياسي ، لم يكن تنظيم الإخوان مهيئا لها ، لذلك كان الأداء الإخواني في أيام ما بعد الثورة محاولة للحاق بالحدث" (100) .
ويمكن اعتبار محاولة الرشيد الطاهر الانقلابية الفاشلة يوم 9 /11/ 1959 معلما رئيسيا ومحطة تاريخية مهمة في مجال صناعة القرار الحركي الداخلي . لذلك فهي تستحق منا وقفة خاصة .
كان الرشيد مرشدا عاما للحركة نهاية الخمسينات ، وكان - فيما يبدو - رجلا طموحا واسع الخيال ، ميالا إلى المبادرات الفردية ، والمغامرات السياسية ، غير عابئ بالرأي العام الحركي ..
وربما كانت هذه الخلفية هي التي دفعته إلى تلك المحاولة الانقلابية المتهورة ، التي دفع ودفعت الحركة ثمنها فادحا .
يصف لنا مكي الظروف المحيطة بالعملية ، فيقول : "في هذه الفترة [نهاية الخمسينات] اتجه الرشيد الطاهر - المراقب العام للإخوان المسلمين - إلى الجيش ، من أجل الإطاحة بالنظام ، وكان الرشيد ينوي إشراك الشعبية الإخوانية في عمل شعبي عسكري ، إذ عرض الرشيد على المكتب الإخواني … إقامة ميليشيا .. تحت ستار تأييد نظام [الفريق] عبود ، ولكن رُفض هذا القرار من قِبَل المكتب ، وهنا مضى الرشيد في تأسيس عمل عسكري انقلابي مستقل ، من خلال صلاته الشخصية ببعض ضباط الجيش ، ومن خلال الوجود الإخواني الضيق … ويبدو أن أبا المكارم عبد الحي [وهو ضابط مصري ينتمي إلى "النظام الخاص" في حركة الإخوان المصرية] حينما جاء إلى السودان في 1955 كان منفعلا بتجربة الإخوان المصريين مع الجيش ، فأوصى بالتركيز عليه، ونقْل تجربة النظام الخاص في مصر ، مما أدى إلى أن يُقبِل بعض شباب الإخوان على الكلية الحربية … " (101) .
لكن يبدو أن الرشيد لمزاجه المتعجل - وربما لنقص الخبرة الفنية لديه كذلك - ارتكب أخطاء استراتيجية أثناء إعداده للانقلاب ، منها :
* اتصاله بالضباط اليساريين والقوميين ، وطلب تعاونهم في العملية .. مما جعلها عرضة للفشل من البداية ، نظرا لانعدام الثقة ..
* استخدام ضباط الإخوان في العملية ، دون موافقة من أعضاء قيادة الحركة الآخرين ، بل دون علم منهم أصلا ..
* نقص الحذر والاحتياط خلال الإعداد ، حيث كانت الاجتماعات تعقد في بيوت الضباط ومكاتبهم لمناقشة الموضوع "فكان انقلابا مكشوفا" (102) .
لقد كان من الآثار السيئة لمحاولة الرشيد الانقلابية الفاشلة أن الإخوان :
* أصيبوا في مسؤولهم [مراقبهم العام الرشيد الطاهر الذي حكم عليه بالسجن 5 سنوات]..
* كما أصيبوا منه : إذ تجاوزهم في موضوع الانقلاب دون اعتبار لرأيهم ، مع استخدام كوادر إخوانية .
* فقدوا كل نواة تنظيمهم في الجيش" (103) حيث أعدم ضباطهم المشتركون في العملية .
لقد كانت تجربة مريرة بكل المقاييس ، فأعطتها الحركة حظها من التأمل ، واستخلصت منها العبرة اللازمة للمستقبل . وقد حدث ذلك في المؤتمر الخامس لمجلس شورى الحركة ، صيف العام 1962، حيث "تم تقييم موضوعي لحركة الرشيد الطاهر الانقلابية … وانتهى المؤتمر إلى الآتي :
* إدانة الرشيد الطاهر في تصرفه الانفرادي الانقلابي .
* اختيار صيغة القيادة الجماعية .
* وقد عنى ذلك بالطبع إقالة الرشيد الطاهر الذي كان حبيسا بالسجن …
* ومن أبرز سمات هذه الفترة أن القيادة أصبحت دورية متنقلة" (104)
*"وانتقلت بعدها صلاحيات إصدار القرارات ذات الطابع النوعي - أي التي تحدث تغييرا أساسيا في مسار الحركة - إلى الأجهزة" (105) .
وربما كان هذا القرار الأخير أهم قرارات المؤتمر . لأنه إجراء وقائي يدرأ خطر الاستبداد القيادي في المستقبل ، ويؤثر على العمل في الصميم . وبفضل هذا التمييز المنهجي بين القرار النوعي وغيره ، رسخت الحركة منهج العمل الجماعي في صفها ، وألزمت به قادتها "إذ التنظيم ما عاد تنظيم الرجل الواحد بعد قرارات المؤتمر التأسيسي في 1962 والخاصة باختيار صيغة القيادة الجماعية" (106) والتمييز بين القرار النوعي وغيره .
لقد نبهت العملية الانقلابية الفاشلة أعضاء الحركة إلى خطورة الاستبداد بالسلطة والانفراد بالقرار . فكان لها أثر إيجابي بعيد المدى ، رغم الخسارة والمرارة التي نتجت عنها في المدى القريب. يقول مكي متناولا نفس الحدث مرة أخرى : "دار في أوساط الحركة جدل ونقاش واسع حول حدود صلاحيات أمير الجماعة في عامي 60-61 ، وذلك بعد الانقلاب العسكري الذي شارك فيه الرشيد الطاهر دون الرجوع لأجهزة التنظيم . حيث أدين الرشيد ، وكلفه ذلك فقدان وضعيته كمراقب عام للإخوان المسلمين " (107) .
وكان من ثمار ذلك النقاش الواسع أن أصبحت الرقابة على صناعة القرار - فيما بعد - جزءا من ثقافة الحركة ومنهجها . وقد حدد دستور الحركة الصادر عام 1982 معالم ذلك ، فألزم القيادة التنفيذية بالرجوع إلى مجلس الشورى في بعض الأمور الاستراتيجية التي تدخل ضمن مفهوم القرار النوعي . إذ نص الدستور على الآتي :
"يختص مجلس الشورى بالتقرير في الشؤون التالية :
* الدخول في الحكم ، أو تأييد النظام الحاكم ، أو معارضته .
* التحالف أو فض التحالف مع القوى السياسية المختلفة .
* التنسيق أو التعاون مع أي حركة أو جهة رسمية خارج السودان ، أو العدول عن ذلك .
* إنشاء علاقة عضوية مع أي حركة إسلامية" (108) .
وربما يستغرب البعض إبرازنا لتجربة الحركة مع مراقبها العام الرشيد الطاهر ، ، وما نتج عنها من تطورات ، باعتبار أن الفصل بين القرار النوعي وغيره ، وعزل القادة الذين ساء عطاؤهم .. أمور معلومة وبديهية في الدول والمؤسسات والتنظيمات في عالم اليوم . ولا ريب أن هؤلاء المستغربين على حق ، وإن كان ينقصهم الإقرار بمستوى التخلف التنظيمي والقيادي في بعض الحركات الإسلامية . فما هو بديهي في التنظيمات والمؤسسات المعاصرة ، لا يزال جديدا وغريبا على بعض تلك الحركات !!
ويكفي القارئ الكريم أن يفترض وقوع هذه العملية الانقلابية الفاشلة في بعض الحركات الإسلامية المعروفة ، فماذا ستكون النتائج ؟؟
* أما عزل المرشد العام - حتى ولو فقَد رشده ، وارتكب أخطاء سالت منها دماء الأبرياء دافقة - فأمر غير وارد أصلا ، ولا يفكر فيه إلا مثيرو الفتن ، الذين خلعوا الطاعة ، وفارقوا الجماعة !!
* وأما دخوله السجن جراء قراراته الاستبدادية المتهورة ، فهو الحجة البالغة على بطولته وتضحيته ، وعبقريته السياسية والعسكرية !! ولا يجوز الحديث عن معاتبته - فضلا عن محاسبته - في مثل تلك الظروف !!
* وأما تقييد يده بالتمييز بين قرار نوعي وغيره ، فهو تطاول ومشاغبة ، وإفراغ للقيادة من مضمونها ، وهدم لواجب الطاعة ومستلزمات البيعة !!
* وأما فشل العملية فهو قدر مقدور ، وابتلاء محض ، ولا داعي للمساءلة والمحاسبة ، والبحث عن جوانب القصور ومكامن التقصير .. وكأن القدر يسقط مسؤولية البشر !!
ذلكم هو المنطق الذي تدار به الأمور في بعض الحركات الإسلامية ، وتلكم هي الثقافة القيادية والتنظيمية السائدة فيها !!
وهل يتوقع المرء غير ذلك من قيادة لا تعرف واجبها ، وقاعدة لا تعرف حقها ؟؟
"نهينا عن التكلف"
من المشكلات القيادية التي تواجه الحركات الإسلامية ما يظهر من تباين بين العاملين ، في الخبرة والتجربة والسبق والعمر والاجتهاد والجهاد . وما يترتب على ذلك من ضرورة تقديم المؤهلين - دون سواهم - إلى القيادة . وقد درجت بعض الحركات الإسلامية على علاج هذه الظاهرة بإحدى طريقتين :
* تبني نوع من التصنيف اللائحي للأعضاء يكون الرجحان فيه لعنصر الزمن ، وربما منح العضو العامل لقبا يعبر عن سابقته وتجربته في الحركة .
* التشدد في قبول الأعضاء وفي ترقيهم صُعدا بما يضمن عدم الوصول إلى الصف القيادي إلا بعد طول تجربة ومعاناة .
وقد بينت التجربة أن هذين المنهجين يتضمنان العديد من المساوئ ، منها :
* أن منح تلك الألقاب الفخمة للسابقين ، قد تتحول مع الزمن إلى هيبة زائدة ، ثم إلى طبقية دينية تشبه السلطة الدينية عند أهل الكتاب ، فتحجب حقائق الأمانة والقوة اللازمة للقيادة ، وتقضي لهؤلاء السابقين بالتقديم مهما كان حظهم من الكفاءة القيادية ضئيلا ، وتمنع الجدد من التقديم مهما اتصفوا به من أمانة وقوة .
* أن التشدد في قبول الأعضاء واشتراط فترة طويلة من الزمن لترقيهم في السلم القيادي تكلف وتعقيد ، وحجر على المشمرين ، وإبقاء على المتثاقلين ، وقضاء على المرونة الداخلية، وتأسيس للجمود والركود . بل هو خروج على سنة الإسلام الأولى ، حيث كان المسلم الجديد يعلن إسلامه ، ثم ينضم إلى قافلة الجهاد مباشرة ، بل ربما أعلن إسلامه في ساحة المعركة ، وبذل روحه في سبيل الله في الحال .
لقد كان كل من السابقين الأولين ، والتابعين لهم بإحسان في العصر النبوي ، يتقلد مواقع القيادة حسب جهده وجهاده ، وما آتاه الله من مواهب وخبرات - بعضها مكتسب في عهد الجاهلية - دون اعتبار لعنصر السبق الزمني إلى الإسلام . وقد قال عمرو ابن العاص رضي الله عنه : "ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في حربه منذ أسلمنا"(109) . ومعروف أن أيا من خالد أو عمرو ليس من السابقين ، بل أسلما متأخرين جدا، سنة ثمان من الهجرة (110) لكن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليترك رجالا ذوي بصر بالحرب والسياسة - مثل خالد وعمرو - في الصفوف الخلفية ، ويقدم بعض السابقين الذين لا خبرة لهم في ذلك ، لمجرد أنهم صابروا وثبتوا وتحملوا التعذيب في سبيل الله أيام محنة الإسلام الأولى . لكن هذا الفقه لا يزال غائبا عن العديد من الحركات الإسلامية بكل أسف .
لكن الحركة الإسلامية في السودان أدركت هذا المعنى ، ولذلك "ظلت ..كارهة لأي تصنيف لائحي لأعضائها حسب الذكورة والأنوثة أو الكسب أو السبق في الحركة . وقد راودها أحيانا تبني نظام كالذي اتخذه الإخوان المسلمون بمصر قديما بتطبيق غير صارم ، أو كالذي اتخذته الجماعة الإسلامية بباكستان بصرامة لائحية . ولكن زين لأهل السودان بفطرتهم المتساوية التي تأبى التمايز ، أن يروا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مرونة في تصنيف المؤمنين ، حيث كانت درجات السبق والعلم والصحبة والجهاد والعطاء معروفة ، وقد يُعرَف بعض أهلها ، كما يُعرَف أهل درجات القعود والجهل والنفاق ، ولكن لم يُدرَج الصحابة في رتب لائحية يرقى الواحد للسبق بالخيرات أو الاقتصاد أو ظلم النفس ، بل من اجتهد ترقَّى تلقاءً بسرعة سعيه ، ومن تثاقل أو انقلب على عقبيه انحط حتى تدركه التوبة والنهضة . هكذا اختار أهل السودان نظامهم ، فسلموا من الحرج، وما ضرتهم العفوية أن يقدِّروا أقدار الأعضاء النسبية لغرض الولايات أو التكليف أو نحوها"(111) .
وقد تجلى منهج الحركة ورؤيتها للموضوع في نظام عضويتها . فالمعروف أن صيغ نظام العضوية السائد لدى الحركات الإسلامية ثلاث صيغ :
* صيغة التنظيم الصفوي المعتمد على فكرة انتقاء نخبة ، ترى نفسها وحدها أهلا لتحمل أعباء الجهاد لنصرة الدين ، وتسد الباب أمام الجمهور . وهذه طريقة بعض الجماعات الجهادية الصغيرة، التي حكمت على نفسها بالعزلة عن عامة الناس .
* صيغة التنظيم الثنائي الذي يقسم الأعضاء إلى صنفين : أهل الثقة الذين هم عماد التنظيم، ومناصرون يزيدون العدد ، ويظلون في عداد القصَّر طبقا لهذا المنطق ، فلا تكون لهم حقوق العضوية . وتلك طريقة الجماعة الإسلامية في باكستان إلى عهد قريب .
* صيغة التنظيم الواسع القائم على درجة واحدة من العضوية ، ويرعى حق جميع أعضائه في حقوق العضوية ، بما في ذلك حقهم في الشورى ، ثم يترك الباب مفتوحا لمن شاء منهم أن يتقدم أو يتأخر .
وبعد أن تدارست الحركة السودانية الأنماط الثلاثة في تأمل مقارِن "وقع الاختيار - من بين الصيغ الثلاث المطروحة - التنظيم الصفوي / التنظيم الثنائي / التنظيم الواسع - على صيغة التنظيم الواسع الذي يقوم على قاعدة عضوية واحدة ، لا تتميز في طبقات لائحية ، ولكن قد تتفاوت مستويات الأعضاء في الالتزام والعطاء ، ومن ثم في أهلية القيادة وتولي المسؤوليات" (112) .
وقد أفاد هذا النهج الحركة السودانية إفادات عظمى في مجال البناء القيادي . إذ أبقى مسالك الصعود والنزول من القيادة وإليها مفتوحة أمام الجميع ، لا تحول بينهم وبينها ألقاب فخمة ، أو لوائح مقيدة ، أو اعتبارات زمنية . وبذلك ضمنت الحركة السودانية أن "لا تبدو مناصب القيادة منقطعة عن القاعدة كما يقع في بعض الأحوال ، حيث تتصلب المداخل إلى طبقة القيادة ، ويستمر الذين يتولونها بقوة التاريخ وهيبة المقام ، وينتهي إجراء الانتخابات إلى ظاهر شبه زائف … وهذه المرونة في الصعود إلى مناصب القيادة أو النزول عنها ضمانة أخرى لصدق التمثيل وشرعية النيابة عن القاعدة" (113) .
ولقد أحسنت الحركة السودانية في تبني هذا النهج ، فهو أجدر بتحقيق الأمانة والقوة ، وأقرب إلى سماحة الإسلام ، وأبعد عن التكلف . وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "نهينا عن التكلف" (114) .
--------------------------------------
هوامش الفصل الرابع
(1) - عمر عبيد حسنة : مراجعات في الفكر والدعوة والحركة ص 116
(2) - نفس المرجع ص 119
(3) - H. Dekmejian : Islam in Revolution p. 165
(4) - Dekmejian p. 177
(5) - د. حسن مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 196
(6) - Robert Greenleaf : Servant Leadership p. 66-67
(7) - Greenleaf p. 68
(8) - p. 69 Greenleaf
(9) - p. 68 Greenleaf
(10) - p. 67 Greenleaf
(11) - عمر عبيد حسنة : مراجعات 119
(12) - p. 63 Greenleaf
(13) - انظر د. محمد عمارة : من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية ص 346
(14) - النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (ضمن كتاب : "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية" ص 216)
(15) - 65p. Greenleaf
(16) - Oxford Encyclopedia of the Modern Islamic Word 2/108 edited by John Esposito, published by Oxford University Press, Newyork 1995 وكذلك نفس المرجع 2/128
(17) - انظر :EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 167
(18) - Dekmejian : Islam in Revolution p. 207
(19) - النفيسي : الإخوان المسلمون في مصر ، التجربة والخطأ (مرجع سابق) ص 247
(20) - نفس المرجع ص 240
(21) - حول ضعف المؤهلات القيادية لدى قادة الإخوان في مصر بعد البنا ، انظر كلام النفيسي عن الهضيبي (ص226- 227 ) وعن التلمساني (ص 238) ثم عن أبي النصر (ص 239) رحم الله الجميع
(22) - النفيسي : نفس المرجع ص 220
(23) - نفس المرجع ص 259
(24) - نفس المرجع ص 234-236
(25) - نفس المرجع ص 240
(26) - نفس المرجع ص 240
(27) - نفس المرجع ص 258
(28) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص192
(29) - نفس المرجع والصفحة
(30) - نفس المرجع ص 175
(31) - د. حسن الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 98
(32) - نفس المرجع ص 89
(33) - نفس المرجع ص 88
(34) - نفس المرجع والصفحة
(35) - نفس المرجع ص 90
(36) - نفس المرجع ص 85
(37) - نفس المرجع ص 85
(38) - Dekmejian : Islam in Revolution p. 166
(39) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 85
(40) - نفس المرجع ص 86
(41) - نفس المرجع والصفحة
(42) - نفس المرجع والصفحة
(43) - نفس المرجع ص 86
(44) - نفس المرجع والصفحة
(45) - نفس المرجع ص 86-87
(46) - نفس المرجع ص 87
(47) - نفس المرجع والصفحة
(48) - نفس المرجع والصفحة
(49) - نفس المرجع والصفحة
(50) - Dekmejian : Islam in Revolution p. 176
(51) - انظر : Oxford Encyclopedia 2/128
(52) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 87
(53) - نفس المرجع ص 88
(54) - نفس المرجع والصفحة
(55) - نفس المرجع والصفحة
(56) - EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 177
(57) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 89
(58) - نفس المرجع والصفحة
(59) - نفس المرجع ص 99
(60) - نفس المرجع 99-100
(61) - نفس المرجع ص 100
(62) - نفس المرجع والصفحة
(63) - نفس المرجع والصفحة
(64) - نفس المرجع والصفحة
(65) - نفس المرجع ص 90
(66) - نفس المرجع ص 100
(67) - نفس المرجع ص 91
(68) - نفس المرجع والصفحة
(69) - نفس المرجع ص 94
(70) - نفس المرجع ص 91
(71) - نفس المرجع ص 92
(72) - نفس المرجع ص 94
(73) - نفس المرجع ص 91
(74) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 194
(75) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 94
(76) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 201
(77) - نفس المرجع ص 202
(78) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 100
(79) - نفس المرجع ص 101
(80) - نفس المرجع ص 100-101
(81) - نفس المرجع ص 100
(82) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 193
(83) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 102
(84) - نفس المرجع والصفحة
(85) - El-Affendi : Turabi's Revolution p. 179
(86) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 190
(87) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 116
(88) - نفس المرجع 192
(89) - نفس المرجع ص 144(هامش)
(90) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 104
(91) - نفس المرجع والصفحة
(92) - نفس المرجع ص 72
(93) - نفس المرجع والصفحة
(94) - نفس المرجع والصفحة
(85) - الترابي : الإيمان ، أثره في حياة الإنسان ص 139
(96) - نفس المرجع والصفحة
(97) - نفس المرجع والصفحة
(98) - نفس المرجع والصفحة
(99) - مكي : حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 9 ط 1982
(100) - نفس المرجع ص 66
(101) - نفس المرجع ص 59
(102) - نفس المرجع والصفحة
(103) - نفس المرجع ص 60
(104) - نفس المرجع ص 61-62
(105) - نفس المرجع ص 193
(106) - نفس المرجع ص 75
(107) - نفس المرجع ص 192
(108) - دستور جماعة الإخوان المسلمين في السودان ، المادة 60
(109) - مستدرك الحاكم 3/515 ومسند أبي يعلي 13/331
(110) - انظر الذهبي : سير أعلام النبلاء 1/366 و3/55
(111) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 53
(102) - مكي : الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 161 ط 1982
(113) - الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص90
(114) - صحيح البخاري 6/2659



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية