مقال قديم كتب قبل عشر سنوات تقريبا عند إنشاء حزب العدالة والتنمية
مابين أربكان وأردوغان
الحركة الاسلامية في تركيا يعتبرها البعض نموذجا يستحق أن تعقد من أجله الندوات والمؤتمرات ، وهي تجربة فريدة مليئة بالدروس والفوائد .
ولعل أبرز التحولات التي شدت الانتباه هي اكتساح حزب العدالة والتنمية بقيادة أروغان _ التلميذ الأبرز للخوجة أربكان _ للساحة السياسية في تركيا بشكل لم يسبق له مثيل وكان بحق زلزالا سياسيا من الدرجة الأولى لم تشهده الساحة التركية منذ فترة طويلة
ويتحدث البعض عن خلافات بين اربكان وأردوغان أو بين تيارين في جسم الحركة الاسلامية أفرزت في نهايتها حزب العدالة والتنمية ، كما أن أربكان ألمح في مقابلاته عن تنازلات قدمها حزب العدالة والتنمية لبعض الأطراف مكنت له من هذا الاكتساح القوي
وبغض النظر عن الخلفية الحقيقية لماجرى ويجري يستطيع العاقل أن يرى بعض الجوانب المفيدة في تجربة حزب العدالة والتنمية وإليك بعضا منها :
- لقد تميزت الحركة الاسلامية في تركيا بأنها اتخذت النهج السياسي منذ البداية طريقا لها وهذا لايعني إهمال التربية والدعوة بل كانت السياسة هي الواجهة الأبرز التي عمل الإسلاميون من خلالها وهم بذلك حموا أنفسهم بشكل كبير من التعددات التي أنهكت الحركات الاسلامية في الدول العربية ، كما أن المجال السياسي تختلف حساباته جذريا عن المجال الدعوي فلا ينبغي أن نقارن العمل السياسي بالدعوي فكلاهما مختلف ، ومن المؤسف أن أقطاب العمل الدعوي في البلاد العربية من أجهل الناس بالعمل السياسي المؤثر والفاعل لذلك تجد من السهولة الالتفاف حولهم ومرواغتهم وخداعهم من قبل مختلف الأطراف وجرهم إلى معارك فكرية أو دموية أو غيرها تسنفد قواهم وتجعلهم يراوحون مكانهم إن لم يتقهقروا وينكمشوا .
- ومما تتميز به الحركة الاسلامية في تركيا أنها لم تنجر أبدا إلى المواجهة العسكرية التي طالما رغبت كل الأطراف فيها لتصفية الاسلاميين ، وذلك بفضل الله أولا ثم بالحنكة السياسية وبعد النظر الذي تميزت به القيادات التي رأت أن دخول أي معركة لاتملك فيها عوامل النصر هي خسارة للمسلمين .
- لقد عانى أردوغان مثل أستاذه أربكان من القمع والسجن والتنكيل والحرمان من حقوقه السياسية وغيرها ولكنه فيما يبدو طور تجربة خاصة بنفسه من أبرز مراحلها إدراته لبلدية اسطنبول والتي حقق فيها انجازات هائلة جعلته يرى أن بامكانه تحقيق الكثير في مجالات أخرى مؤثرة بعيدة عن متناول المؤسسة العسكرية فيما تجلت تجربة أستاذه أربكان كما يبدو من تاريخه في مراغمة المؤسسة العسكرية ومصاولتها فكلما حظرت المؤسسة العسكرية حزبه ونشاطه عاد بعد فترة أخرى بثوب جديد أكثر قوة مما مضى ليقوم العسكر مرة أخرى بحظر حزبه وتفصيل الثياب القمعية على مقاسه لتقوم الحكومات العلمانية بخياطتها ...وقد استمرت تجربة أربكان في هذا الاطار ولم تخرج عنه وكأنه كان يطمح أن يصل الى مرحلة لايتمكن فيها العسكر من حظر حزبه وأن يكتسحهم إلى الأبد ، ويبدو والله أعلم أن أردوغان الذي خاض المعارك مع أستاذه رأى أن الوقت سيطول في هذه المراغمة خاصة وأن العسكر قد فهموا اللعبة جيدا وضيقوا الخناق كثيرا فرأى أن هناك طريقا أخرى إلى النجاح تكمن في تغيير المعركة ونقل ساحتها إلى جوانب أخرى وتقديم بعض التنازلات التي لابد منها من باب أن الضرورات تبيح المحظورات وكل ذلك بغية الوصول الى وضع أفضل يمكن للاسلاميين أن يرتبوا أمورهم ويظهروا بصورة أفضل بدلا من الاجهاضات العسكرية المتكررة لانجازاتهم والتي تجعلهم كل مرة يعودون لنقطة الصفر .
- هذا الأسلوب الجديد اقتنع به أردوغان ومجموعة كبيرة من أمثاله ويتمثل في أفكار حزب العدالة والتنمية فيما ظل الباقون على تفضيلهم للأسلوب القديم المتمثل في حزب السعادة فحدثت ولادة جديدة ضمن أسرة الحركة الاسلامية في تركيا وليس بعيدا عنها ولابد لكل ولادة من مخاض ولابد لكل مخاض من ألم ( وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )
- اكتسح حزب العدالة الساحة قبل حرب أمريكا على العراق وظهر جليا بعد ذلك أن أمريكا كانت ترغب بحكومة قوية في تركيا تمهيدا لاستخدام تركيا كقاعدة أساسية في احتلال العراق وظهرت أول المطالب أمام أردوغان وكانت امتحانا عسيرا له ولحكومته وتم تمرير القانون في البرلمان في المرة الثانية وبصعوبة ولكن الله أنقذه من براثن الأمريكان إذ انهار الجيش العراقي ولم يعد هناك حاجة لاستخدام الأراضي التركية من قبل الأمريكان كما أن النفط لم يتأثر كثيرا كما حصل في الحرب السابقة وبذلك أنقذ الله حكومته من وضع اقتصادي كان سيصعب من مهمته لو حدث ، هذا في الظاهر أما إن كان أردوغان قد خدع الأمريكان وأظهر لهم قبول أمرهم مقابل أن يخففوا من قيود العسكر أمامه ليكتسح الساحة ثم ماطلهم وراوغهم حتى مرت الأزمة فذلك أمر ممكن وهو من مكرالله لعباده الصالحين والله على كل شيء قدير.
- إن التنازلات في الحياة السياسية ليست تهمة ولا منقصة بل هي من الحرب السياسية والتاريخ الاسلامي حافل بها وحتى أربكان نفسه قدم تنازلات عندما كان في الحكم وأجبر على مقابلة وزراء اسرائيليين ووقع على صفقات بين تركيا واسرائيل أثناء حكمه ، فلا ينبغي الوقوف طويلا أمام ملف التنازلات فهو ملف حساس ومليء بالشروط والخفايا التي لايقدرها ولا يدركها سوى من قدم تلك التنازلات ومتى كانت الثقة موجودة في الشخصية التي اتخذت القرار انتفت مظنة السوء والاتهام لها بإذن الله والله أعلم بالسرائر .
- وظهر امتحان آخر أمام أرودغان وهو الملف القديم الجديد الانضمام لأوروبا ويرى فيه البعض خطر ذوبان الاسلام في تركيا واضمحلاله ومثل هؤلاء ينبغي لهم أن يعيدوا النظر وأن يوسعوا أفقهم وأن يقرأوا التاريخ جيدا ليتعظوا ويعتبروا ، إن انضمام تركيا لأوروبا ضمان للاسلاميين فيها من بطش العسكر والقمع الظالم لهم وكبت الحريات ، ويمكن للاسلاميين أن يحققوا قفزات هائلة في ظل العدالة الاجتماعية والحريات التي توفرها الأنظمة الأوربية ، إن الأنظمة الأوربية أفضل مليون مرة من نظام العسكر في تركيا ومن أنظمة الدول العربية قاطبة ، ويظل هناك هامش من الخطر ولكن يمكن الحد منه والتخفيف منه والأتراك يعيشون في المجتمعات الأوروبية منذ عشرات السنين ولم يذبوا ولم يتأثروا كثيرا بل ظلوا محتفظين بهويتهم واسلامهم وألمانيا خير مثال ، ومن الغريب أن أوروبا تخاف من اكتساح الأتراك لها فهم مجتمع شاب بينما المجتمعات الأوربية أكثرها في حالة الشيخوخة وتركيا لديها من الامكانات المختلفة مايجعلها ثقلا لايستهان به فيما لو انضمت لأوروبا وهذا سيصب في مصلحة المسلمين في نهاية المطاف وهو ما تتوجس منه أوروبا شرا لذلك هي تعرقل انضمام تركيا لها.
- أما المشكلة القبرصية فأظنها على طريق الحل، ولماذا يقوم العالم كله بحل مشاكله مهما كانت شائكة وتظل جراحاتنا دامية على مر السنين وتستنفد قوانا وطاقاتنا ولا يمكن حلها ؟
- وقد أثارت تصريحات أردوغان في منتدى جدة الاقتصادي عن السوق الاسلامية المشتركة ردود فعل سلبية من المنادين بها ، ولو تأملوا تصريحات أرودغان جيدا لعلموا أنه على صواب ، إذ أن السوق التي تقوم على أساس ديني في الوقت الراهن لن يكتب لها النجاح فكل الدول العربية والاسلامية رهينة بالشرق أو الغرب ولا تملك من أمورها الهامة شيئا وكل الأنظمة التي تدعي الاسلام ليس لها منه نصيب الا الاسم في الغالب والسوق الاسلامية تحتاج الى اقتصاد اسلامي قوي وهو ماتفقده كل الدول الاسلامية ، فأي نجاح يمكن أن يكتب لمثل هذه المشروعات في هذا الوقت ، إن أوروبا لم ينجح سوقها المشترك إلا بعد أن بنت معظم دولها اقتصادات قوية ولها ارادة سياسية مستقلة أمام في أوضاعنا الراهنة فهذا الكلام ليس له مكان من الأعراب في الوقت الحاضر وهو مضيعة للجهود وماينبغي التفكير فيه حاليا بناء اقتصاد قوي وارادة مستقلة قوية عندها يمكن تطبيق مثل هذه الأفكار
- إن أرودغان داهية من دواهي السياسة أحسن أربكان تربيته وزودته التجارب بخبرة واسعة والله من قبل ذلك وبعده يتولاه بتوفيقه ، فلا ينبغي أن تفهم تصريحاته وأفعاله بتسرع فالرجل يسير في غابة الأشواك والأعداء وقد جرب كل ذلك وهو يحاول أن يحقق المكاسب على المستوى البعيد ويتجنب المواجهات التي ليست في صالحه حتى يأذن الله بتحول القوى ، كما أن التحديات التي ستواجهه كثيرة وصعبة ولكن المتأمل فيما واجهه من صعاب وكيف أعانه الله ويسرله تجاوزها يرجو من الله أن يستمر هذا التوفيق والتأييد له من الله ، ولئن كان البعض ينتقده ويرى فيه اعوجاجا فإن عقلاء المؤمنين وبعيدو النظر يرون فيه قائدا محنكا يحقق المسلمون على يديه أفضل المكاسب بإذن الله
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون
هذا فإن أصبت فمن الله وله الحمد والامتنان وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان وأستغفر الله منه
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية