السبت، 14 يوليو 2012

نظرات تحليلية لمجتمع المدينة المنورة _كتبت في 1426 هـ

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآاله وصحبه أجمعين :
من المسلمات الواضحات في عالم الحرية أن لكل شخص الحق في ابداء الرأي أيا كان كان هذه الرأي وهو مايسمى بحرية التعبير ، ومن ثم يخضع هذا الرأي للأخذ والرد والتدقيق والتمحيص وقد يقبل وقد لايقبل ، ومن هذا المنطلق أكتب هذه الأسطر من باب حرية التعبير .

كما أرجو ألا تسبب المصطلحات التي استخدمها أي حزازات أو عصبيات فهذه التسميات موجودة ومتداولة ولم أخترعها من عندي وأنا باستخدامي لها لا أقصد أي انتقاص أو تحقير لأحد كما قد يفهم بعض ضعاف العقول والنفوس ، وإنما استخدمها للدلالة على أمر معين أو وضع معين أو حالة معينة .


التحول الكبير

لقد شهد مجتمع المدينة المدينة المنورة تغييرا وتحولا كبيرا بل جذريا في بعض الجوانب وسيشهد في المستقبل تغييرات كبيرة هي في مرحلة التشكل والتكوين الآن ومن أبرز التغييرات الكبيرة والهائلة التي لاينكرها أحد التطور العمراني المادي فالمدينة القديمة أزيلت بكاملها من خارطة الوجود ( وهذا لم يحدث في أي مدينة تاريخية في العالم على حد علمي ) وحلت مكانها العمارات الشاهقة داخل مايسمى بالمنطقة المركزية  ولا شك أن التطور العمراني له تأثير وانعكاس على الجانب الفكري والاخلاقي ولكن هذا التأثير يستغرق وقتا أطول في الظهور إلى حيز الحياة الفعلية والعامة ، لأن التغيير في البيئة المادية في الوقت الحاضر سريع جدا فبالامكان اقامة حي كامل خلال أشهر ولكنك لاتستطيع تغيير أخلاق و أفكار مجموعة من الناس في نفس الزمن لأن عامل التغيير  يؤثر في الأخلاق والمجتمعات ببطء .

ولا أحد ينكر أن مجتمع المدينة قد تغير فكريا وأخلاقيا بشكل كبير وخلال عشرين سنة تقريبا وكان للتغيير العمراني دور كبير في ذلك
فمثلا في السابق كان أغلب سكان المدينة يسكنون في البيوت التي حــول الحرم ( المدينة القديمة ) وكان المسجد النبوي يحكم بدرجة كبيرة إيقاع الحياة والناس في تلك المنطقة ولاشك أن لذلك انعكاس كبير في أخلاقيات الناس وأفكارهم فحضور الصلوات في مسجد رسول الله وحضور الدروس وحلق العلم  ومشاهدة الحجيج والمعتمرين وصوم رمضان وما يصاحبه من إفطار في الحرم ودروس وصلاة التراويح والمظاهر الرمضانية وغيرها من أمور ترتبط بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك كان يصبغ الحياة في ( المدينة القديمة ) بعبق روحاني جميل .

أما الآن وبعد إزالة المدينة القديمة تبعثر سكان المدينة في مساحات شاسعة في المخططات الحديثة التي نشأت في السنوات الأخيرة والتي افتقدت بدرجة كبيرة ذلك الايقاع الروحاني الذي ارتبط بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي فقدت الحياة الاجتماعية صفة الارتباط بالمدينة وأصبح أهل المدينة كأنهم أناس عادييون يعيشون في أي مدينة عادية بل فقدت المدينة حرمتها في نفوس ساكنيها فأصبحت الموبقات والكبائر مما لايتورع بعض سكانها عن ارتكابه بل إنها شهدت مؤخرا حملا للسلاح والمتفجرات من قبل بعض أهل البغي ممن يسكن المدينة المنورة ويزعم أنه يدافع عن الاسلام  وهو لا يعرف لها حرمة ولا أمنا مما أوجد ردة فعل عند بعض أهل الخير والفضل  تمثلت في التنادي لإبراز فضل المدينة والتذكير بفضائلها والتأدب في سكناها ومعرفة حدودها وغير ذلك من أمور تهدف الى استعادة شيء من الحضور الوجداني للمدينة في قلوب ساكنيها .

ولقد فرض هدم المدينة القديمة وبعد المسافات والأحياء الجديدة فرض نمطا جديدا من أنماط الحياة أدى وسيؤدي الى تغييرات كبيرة في المستقبل ، ففي السابق كان أغلب السكان يتنقلون بأقدامهم وكانت وسائل المواصلات قليلة أما الآن فلم يعد بالامكان السير بالقدمين لبعد المسافات فكثرت السيارات ولهذا تأثير سلبي على الصحة من حيث التلوث ومن حيث قلة الحركة عند السكان بالاضافة الى مشكلات أخرى قد تقل وقد تكثر مثل الحوادث والدهس والتفحيط وغيرها من سلبيات ارتبطت بكثرة السيارات
كما أدى اتساع المسافات الى وجود أزمات من نوع آخر عند الأسر فتجد العائلة الواحدة تتوزع مصالح أفرادها على المدينة كلها فرب الأسرة يعمل في غرب المدينة وأبنائه يدرسون في شرقها وغربها وجنوبها وشمالها مما أدى الى الحاجة الى وجود سائقين وخدم وما الى ذلك  من أمور أوجدها هذا النمط الجديد من الأحياء السكنية وتباعد المسافات فأصبح جانب المواصلات يزداد تأثيره باستمرار على الحياة الاجتماعية ولعل آخر تأثيراته وليس نهايتها المطالبة بقيادة المرأة للسيارة باعتبار أن أغلب المدن تعاني نفس المشكلة وهكذا نجد التطور العمراني يرتبط بتطور فكري وثقافي وأخلاقي شئنا أم أبينا .
كما أن تباعد المسافات هذا أدى إلى قلة التواصل بين الناس ففي السابق كان بالإمكان زيارة عدد كبير من الناس في يوم واحد مثل الأعياد وما شابهها أم اليوم فأصبح من العسير فعل ذلك لبعد المسافات .

تغير التركيبة الاجتماعية

ومن الأمور التي ساعدت على هذه التغييرات الكبيرات في المدينة الكثافة السكانية العالية لمنطقة المدينة المنورة عموما فهناك الكثير من القرى حول المدينة  بخلاف المناطق الأخرى في المملكة وأغلب سكان هذه القرى تركوها وانتقلوا للعيش في المدينة لأسباب سأذكر بعضها مما أدى الى غلبة العنصر القبلي في الصبغة السكانية لمجتمع المدينة وهذه الحقيقة لا تخطئها العين فاذهب الى أقرب مدرسة أو مجمع طلابي واحصل على قائمة بأسماء الطلاب وستجد أن الكثرة الغالبة هم من أبناء القرى والقبائل التي تسكن حول المدينة ولا شك أن أبناء القرى والقبائل لهم لون من الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية يختلف بدرجة كبيرة عن مجتمع المدينة المنورة مما أدى الى اختلال كبير في النسيج الاخلاقي والفكري والثقافي في مجتمع المدينة المنورة

عوامل مساعدة

وهناك عوامل أخرى ساعدت على تغيير التركيبة السكانية والفكرية  في مجتمع المدينة وهي عوامل بطيئة التأثير صنعت هذا الوضع على مدى سنوات طويلة وهي كالتالي :

1-     شهدت المملكة تطورا عمرانيا كبيرا وتركز هذا التطور في الرياض وجدة والمنطقة الشرقية وهذا التطور يحتاج الى كفاءات متعلمة فبدأ استقطاب المتعلمين من كل مناطق المملكة وحظيت المدينة بنصيب الأسد فهاجر كثيرمن  أبنائها للعمل في جدة والرياض والشرقية  بل  إن أسرا  بأكملها تركت المدينة وانتقلت للعيش في جدة والرياض والشرقية ، ولاتكاد تجد حاليا عائلة من عوائل المدينة إلا ولديها ابن أو ابنة أو أكثر يسكنون أو يعملون أو يتعلمون خارج المدينة  وعلى مدى سنوات حصل تفريغ كبير للطبقة المتعلمة من مجتمع المدينة وتأثرت المدينة كثيرا بترك أبنائها لها  بينما لم تتأثر مكة الكرمة كثيرا  لقلة الكثافة السكانية حولها ولقرب المسافة بينها وبين جدة فأصبح بالامكان البقاء في مكة والعمل أو الدراسة في جدة  والتي كما ذكرنا من مراكز الاستقطاب في المملكة ويشهد على صحة هذا التحليل الضغط الهائل الذي يشهده طريق مكة جدة على مدار الساعة  لأن أغلب المجتمع يسكن مكة ويعمل أو يدرس في جدة.

2-     وفي الوقت نفسه بدأ  أبناء القرى والقبائل المحيطة بالمدينة  بالانتقال اليها لانعدام الخدمات أو التعليم  أو الوظائف في قراهم ، وبدأت هذه الأعداد تزداد يوما فيوم حتى أصبحت مدينة بحد ذاتها تقريبا ، ومنطقة طريق الجامعات أو الحرة الغربية عموما خير دليل حيث توجد كثافة سكانية عالية كلهم من أبناء القرى والقبائل التي انتقلت الى المدينة المنورة   

3-     كما أن خلو المدينة من التعليم الجامعي والمشاريع الصناعية الكبرى وفرص العمل جعلت الكثير من شباب المدينة يتركونها لتحصيل التعليم والكسب والتجارة وفي احصائية حديثة نشرت في شهر جماد الأول 1426هـ ذكر أن عدد المتتخرجين من طلاب الثانوية في المدينة 12000 اثنا عشر ألف طلاب بينما لايزيد عدد المقاعد الجامعية المتوفرة في المدينة المنورة على ثلاثة آلاف مقعد ، فإذا أضيف الى هذا العدد العاطلين من السنة الفائتة والتي قبلها أصبح الوضع مشجعا جدا على البحث عن طرق أخرى للتعلم والكسب  خارج المدينة ، كما أن مثل هذه الأعداد العاطلة عن العمل والتي لاتستطيع السفر خارج المدينة تغذي مشكلة البطالة وما ينتج عنها من مشكلات لاحصر لها .

4-     ولاشك أن اهمال القرى وخلوها  من التعليم والخدمات والوظائف ساهم بشكل كبير في ترك الناس لقراهم  وهجرتهم الى المدن  وهذه المشكلة تعاني منها كل مدن المملكة تقريبا حيث أصبحت المدن تكتظ بالسكان  والقرى مهجورة ، وقد أسهم سوء التخطيط والفساد المالي والإداري فيما يتعلق بالخدمات في القرى أسهم في تردي أوضاع القرى بشكل حاد مما غذى دوافع الانتقال للمدينة وجعلها تزداد باضطراد .

5-     وهناك عوامل تؤثر بشكل غير مباشر أو بدرجة أقل ولا يلتفت إليها البعض وهي مرتبطة بالجانب التعليمي حيث أن أغلب المقاعد الجامعية ارتبطت بالمعدلات العالية لشهادة الثانوية وبدأ التركيز على رفع المعدلات عند الطلاب يأخذ منحى تصاعدي وأصبح التعليم يشدد على قضايا الدرجات ومنحها للطلاب ، وهذا التشديد يقوى في المدن ويخف تأثيره في القرى  مما يعطي الفرصة الأكبر لأبناء القرى في الحصول على المقاعد الجامعية ومن ثم الوظائف ويحرم أبناء المدن من ذلك ويتجهون الى خارج مدينتهم للحصول على تعليم أو وظيفة ، وقد شاركت لعدة سنوات في القبول والتسجيل للمنشأة التعليمية التي أعمل فيها فوجدت أن أغلب المقبولين من المتقدمين هم من خارج المدينة المنورة بنسبة 80%  لأن القبول يعتمد على المعدل العالي وفي القرى هناك تساهل كبير في منح الطلاب درجات عالية لاتتفق أبدا مع المستوى الفعلي للطلاب وقد ظهر ذلك جليا في المقابلات الشخصية للطلاب المتقدمين حيث تجد أن معدل الطلاب امتياز فوق ال 90 % ومع ذلك لايستطيع أن يتكلم عدة جمل باللغة الانكليزية أو يكتبها ، وحدث ولا حرج عن الباقي .

6-     كما أن من الأسباب المهمة غياب ذلك التعلق الوجداني بالمدينة المنورة الذي كان يسكن قلوب السابقين والذي كان يدفعهم لتحمل الصعاب والمشاق فقط من أجل سكنى المدينة المنورة بينما الآن لا تجد ذلك التعلق الوجداني ولا صبرا على لأوائها وشدتها وحرها لذلك ما أن تلوح بوارق وظيفة أفضل أو رغد عيش أفضل أو حياة دنيوية أفضل حتى يركض أبناء المدينة ويتركوها ، بينما يتمنى الكثيرون في العالم الاسلامي لو عملوا في مجال النظافة وهم أصحاب شهادات ورتب عالية يتمنون لو عملوا في مجال النظافة ويسكنون المدينة المنورة

ولا يجب أن نغفل عوامل التطور الثقافي والانفتاح الاعلامي التي أسهمت بدورها في التغيير الفكري والثقافي للمجتمعات والتأثير في أخلاقياتها وسلوكها ، ولكن مما يؤسف له أن تفقد المدينة المنورة خصوصيتها الدينية والتاريخية وتصبح مجرد نسخة من المدن الحديثة وكأنه يراد لها أن تنسلخ من تاريخها وعراقتها لتصبح سوقا تجاريا ضخما للأثرياء والشركات وأصحاب الفنادق ويصبح كسب المال هو الهم الأوحد لمن فيها ولو كان ذلك على حساب الأخلاق والقيم
ويتحمل وزر ذلك المسؤولين في مختلف الأجهزة وأهل العلم والفكر فعليهم العبء الأكبر أمام الله عزوجل لأنهم يملكون من السلطة الفعلية والقولية مالا يملكه غيرهم .

هذا فإن أصبت فمن الله وله الحمد والامتنان وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان وأستغفر الله منه

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون





0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية