إن شعوب أوربا وأمريكا تعرف عن البترول العربى أكثر مما تعرف عن القرآن العربى !!.
والبترول
العربى ثروة ٬ يجهلها أصحابها٬ ويعجزون عن استخراجها٬ ولما كان الغرب
بحاجة إلى هذه الثروة فهو يرسل الأخصائيين من رجاله بآلاتهم الهائلة٬
وعلومهم الدقيقة٬ لاستيراد هذا الخير الدافق٬ وإعطاء ثمنه للشعوب التي تنظر
مسحورة إلى هذه الكنوز بأرضها٬ دون أن تقدر عليها٬ أو تحسن استغلالها
لنفسها.
أكان المسلمون العرب ينتظرون الوفود تجئ لطلب الوحي العربي كما جاءت لطلب البترول لها!
وإنها لجديرة أن تسئ الظن بهذا الوحى وأن تحسبه مسلاة صبية أو مواريث أمة عاطلة عاجزة!
فلأقرر
إذن أن اهتدائي للإسلام كان من الأقدار الحسنة. أو هو ـ في نظري ـ من
النعم التي يختص الله بها من يشاء من عباده.
ولأسرع ببيان ما أقصد من هذا
الكلام : فأنا لم أرث الدين عن والدي٬ كما ورثت قصر القامة٬ وبياض البشرة
بل لقد مرت على أيام فرغت نفسي من كل اعتقاد٬ وتركت لعقلي أن يوازن ويختار
والذي أعانني على إيثار الإسلام: أن لغتي هي لغة القرآن٬ وأن الدراسة
الناقدة له ولغيره كانت ميسرة لي : أي أن ظروف البيئة التي احتوتني هي التي
جعلتني مسلما على حين حرم غيري هذه المنحة الطيبة لأن ظروف بيئته باعدت
بينه وبين الاهتداء.
بل لعلها زينت له الأخذ بضده٬ وملأت نفسه ثقة ورضا بما
عنده٬ وليس ما عنده إلا الضلال الخادع... وآثار البيئة في الخلق والسلوك
ونوع الدين لا يمكن نكرانها : ألا ترى الحديث الكريم يرد شرود الطفل عن
الفطرة السليمة إلى أسرته : ` فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ` ثم
ألا ترى إلى تتذيل الذي أعقب النهى إلالهي: ” ولا تسبوا الذين يدعون من دون
الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ”
إنه يقول ” كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ”
وانطلاق
الأفراد أو الجماعات في سبل تخالف الحق ٬ ثم هي ترى ـ وفق تفكيرها الخاص ـ
إنها على الحق ٬ أمر له اعتباره صحيح أنه يقلب الباطل حقا ٬ والغواية
رشدا
إلا انه يوجب على أصحاب الإيمان النقي ٬ أن يرسموا لدعواتهم أسلوبا
يقوم على الأناة و الإقناع و التلطف ٬ وان يتبينوا السدود التي وضعتها
الأيام أمامهم فلا يحاولوا نسفها بالمتفجرات وان يقدروا الأحوال التي
أحاطت بخصومهم في العقيدة أو الرأي ٬ وصاغت عواطفهم وأحكامهم على نحو معين ٬
ذاكرين أن الأحوال نفسها لو أحاطت بهم ٬ لكان لهم هذا الموقف المنكور
نفسه. ولعل هذا الملحظ بعض ما عنته الآية : ”..كذلك كنتم من قبل فمن الله
عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ”.
قد تقول : كأنك تعتذر عن ضلال الكافرين !! والجواب لا ٬ بل أصف الدواء
الناجع لشفاء عللهم أن الكفر الجدير بالاستئصال رد الحق بعدما تبين ٬
والذين ينقل إليهم هذا الحق بحاجة إلى مهله لفقهه وارتضائه رد الحق بعد ما
تبين ٬ و الذين لم ينقل إليهم يحاسبون على ضوء من أصوله التي ذرأها الله في
فطرتهم..
والأمر بين الحالين لا يجدي فيه عجله ٬ ولا يقبل فيه الحكم
العابر السريع! إن تفتيح البصائر على الحقائق الكونية الكبيرة ليس شيئا
سهلا ٬ فأغلب الناس يوجد معه حجب الغفلة ويحيا وبالقرب منه مزالق قلما
تقفه على الصراط المستقيم إلا قليلا .
وقد شاء الله ـ تبارك اسمه ـ أن يضع
كل هذا في سياسة التعريف به والدعوة إليه. فلم ينتظر من الجماهير أن تستجيب
لرسوله فور سماعها له. ومن ثم أوجب عليه أن يبذر ٬ وأن يترك النضج لزمان
لا يعرف مداه
زمان يصحو فيه الغافل على مهل ٬ زمان يعطي المخطئ فرصا
كثيرة للعودة إلى الصواب ٬ زمان تنحل فيه العقد المنحدرة مع الوراثة ٬ أو
الواقدة مع البيئة ٬ زمان تمحى فيه الأعذار التي أقامتها الحياة الفاسدة ٬
وسيطرت بها على المشاعر والأهواء.
وذلك سر الوصايا الرقيقة التي حفل بها
القرآن الكريم صدر الدعوة الأولى : ”فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر“
”وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل“ ”فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون“
”واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا“ هذه الآيات التي نزلت في عبدة
الأصنام بمكة ٬ جاء مثلها في أهل الكتاب بالمدينة : ”فأعرض عنهم وعظهم وقل
لهم في أنفسهم قولا بليغا“ ”ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم
فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين“
وهي كلها تدور على محور واحد :
التراخى مع الجهال والضلال ٬ حتى تنفك عنهم القيود التي غلت حريتهم
العقلية ٬ وتنجاب الغيوم التي جعلت أذهانهم لا تلتقط للحقائق صوراصحية ٬
وعندما يبلغ المدعوون هذه المرحلة ويرفضون مع ذلك الانقياد للحق ٬ فإن
إمكان القسوة في معاملتهم يصح التفكير فيه ٬ وهم عندما يعاقبون لا يقوم لهم
.
عند الله ولا عند أنفسهم عذر ونحن نلاحظ أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ
خاض أول معركة في الإسلام وسط ظروف تستحق التنويه. لقد ظل خمس عشرة سنة
يدعو أهل مكة إلى دينه بالأسلوب الذي رأيت ٬ أسلوب التذكير والإعراض ٬
والتعليم الذي يلقى الصدود بالهجر الجميل ٬ فلما أ خر ج هو وأصحابه من مكة ٬
وصودرت أموالهم بعد ما صودرت حرياتهم ٬ فرض الحصار على تجارة خصومه. وأحس
أهل مكة أن قافلة لهم مهددة بالوقوع في أيدي المسلمين ٬ فخرجوا لاستنقاذها
وحالف القافلة حسن الحظ فنجت..
وإلى هنا كان في وسع المشركين. أن يعودوا
إلى بلدهم ليكفروا فيه ما شاءوا.. بيد أن الغرور الذي لا عذر معه ٬
والإصرار الذي يجانبه التوفيق ٬ كانا قد نسجا غطاء سميكا على عيون القوم.
وبدا أن النذر الكثيرة التي سيقت إليهم لم تنجح في إيقاظ غافل ٬ ولا تبصير
جاهل.
وإذن.. فقد حل دور القسوة بعد ما فات أوان النصح. ويريد الله ـ لحكمة
عليا ـ أن تدور هذه المعركة على غير إعداد من المسلمين ولا توثب ٬ وأن
تدور بعد ما انقطع كل تطلع إلى مغنم دنيوى عاجل ٬ وأن تدور وليس للمشركين
عذر قريب أو بعيد فى إشعال هذه الحرب ٬ وأن تدور بعدما استنفدت جميع وسائل
الإقناع التى تصح بها العقول والقلوب المعتلة ٬ أجل ٬ دارت المعركة بين كفر
خالص وإيمان خالص ٬ لأن الأمر كما قال ربك :
”ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون“.
_محمد الغزالي _
_كيف نفهم الاسلام _
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية