الأربعاء، 10 يناير 2024

مقالات أعجبتني ( عن التخلي )

 كتبها عبدالله بن عمر

لأسبابٍ متعددة، كانت القراءة هوايتي المفضلة، كان ذلك منذ وقت مبكّر، لكل إنسان نقاط قوة ونقاط ضعف، ولي الكثير جداً من نقاط الضعف، لكني لم أعانِ تقريباً في تعلم القراءة عكس معاناتي الفظيعة في تعلم الرياضيات والأرقام ورسم الخرائط والرياضات البدنية.


منذ وقت مبكّر تشكلت لدي مكتبة، كانت كتبي جزءاً من مكتبة المنزل البسيطة، ثم سرعان ما ابتلعت مكتبتي المكتبة المنزلية وأذابتها تقريباً كما تفعل كريات الدم البيضاء حين تحيط بجسم غريب في القنوات الدموية.


مكتبتي كانت تعني لي الكثير، أكثر مما يعني قطٌّ أليفٌ لفتاة شغوفٍ بتربية الحيوانات، ومثلما تعني الناقة لصاحبها، وبطاقة الصرف الآلي لإنسان شحيح.

لم يكن وضعنا المادي مرتفعاً، لكني كنت أجد دائماً وسيلةً لزيادة عدد كتبي، وتوسيع نطاقها، أدخر من مصروفي، أشتري، وأتلقى الهدايا، كانت مدرستي التي درست بها المتوسطة والثانوية مدرسة متميزة، وكنت طالباً فاعلاً في النشاط غير الصفي، وكنت أنال هدايا كثيرةً على هيئة كتب.


وكلما توفر لي مال يسير، زرت مكتبةً قريبة من حينا واشتريت ما تيسر.


وغادرت الثانوية فصرت أعمل، وأنفق على نفسي وأسرتي، وأشتري المزيد من الكتب، ونمت مكتبتي شيئاً فشيئاً، لم يعد يستهان بها، وتبين ذلك حين انتقلنا من بيتنا إلى بيت جديد، وتمكنت المكتبة من إرهاقي في نقلها، كادت تقصم ظهري من ثقل صناديقها.


لم يكن سهلاً عليّ أن أتخلى عن مكتبتي، لكني فعلت ذلك حين قررت أن أعيد ترتيب حياتي، وأدرس أولوياتي، وأركز كثيراً على مجال عطاء مركزي واضح وجلي، بدل تشتيت العزمات في كل واد من أودية العمل والعطاء، ولم يكن القرار سهلاً، ولا كان الوصول إليه يسيراً البتة.


كان علي أن أتخلى عن اهتمامات أحبها، وأن أرتب جدول أولوياتي بحيث يكون الأمر شديد التألق، فاقع الوضوح، ساطعاً كشمس، كم كان ذلك مرعباً حين تخيلته، مجهداً حين قررت الشروع فيه، ولكن كم كان الأمر مريحاً حين اجتزت بعون الله قنطرة الاختيار.


كان قرار الاتجاه نحو القراءة والكتابة، باعتبارهما مجالاً مركزياً للعطاء، قراراً مفصلياً، وكان قائماً في جوهره على التخلي عن التزامات كثيرة أحبها، وأحب ألا أحرم منها، وذلك لصالح مجال اهتمامي الأول.


حين تتضح الأولويات يسهل التخلي عما عداها، ويتخذ المرء قرارات صعبة في العادة، حين يخرج المرء من ضيق الشتات إلى سعة التركيز، يصبح التخلي عن المحبوبات ممكناً، وأقل صعوبة من المعتاد.


تخليت عن تسعة أعشار مكتبتي بضربة واحدة، حملتها إلى دار تبيع الكتب المستعملة وتنفق ريعها على الأيتام، ولم أندم على قراري هذا، فقد سبقته قرارات أصعب، بالتخلي عن بضعة اهتمامات شخصية لم أتخيل إمكان التخلي عنها ذات يوم.. 

كنت كإنسان يحمل حقيبة ملأى، ثم يتخفف منها، فيشعر بالخفة مع كل حفنة يلقي بها إلى الأرض.. لا يهم إن كان ما يتخلى عنه المرء ثميناً، محبوباً، ما دام يسعى إلى غاية أكبر، وأهم، وأحب إلى قلبه.


بالطبع، لا معنى للتخلي عن شيء ما، دون وجود معنى يرغب المرء في الوصول إليه، ويشعر أنه بحاجة إلى التخفف مما يعيق حركته.


وبالطبع، ليس المطلوب هو التخلي عما نحتاجه، ولكن المطلوب هو التخلي عن كل ما يثقل كاهلنا دون أن يفيد منفعة أو جمالاً، التخلي عن كل ما نتوهم أننا لا نستغني عنه، التخلي عن هوس الاستهلاك، والتخلي عن التكاثر بالمقتنيات، والتخلي عن كل ما يشتت تركيزنا، وما يزاحم جداولنا اليومية، ومساحات بيوتنا، وأدراج مكتباتنا، مما لا يجدي، ولا ينفع، ولا يُربح

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية