الأربعاء، 10 يناير 2024

كيف السبيل إلى انتقادك ُدلَّني ؟؟

 

كيف السبيل إلى انتقادك ُدلَّني ؟؟

النقد عالم واسع مترام الأطراف ومتعدد الوجهات والأقنعة ، وله دور بارز في البناء والهدم  والارتقاء والتقدم .

وكتبت فيه مقالات وكتب تناولته كما وكيفا ، تأثرا وتأثيرا .

ومن الكتب التي تصب في بحر النقد كتاب مهزلة العقل البشري لعلي الوردي وقد (كتب الدكتور علي الوردي هذا الكتاب فصولاً متفرقة في أوقات شتى وذلك بعد صدور كتابه "وعّاظ السلاطين" وهذه الفصول ليست في موضوع واحد، وقد أؤلف بينها أنها كتبت تحت تأثير الضجة التي قامت حول كتابه المذكور، وقد ترضي قوماً، وتغضب آخرين.

 ينطلق الدكتور الوردي في مقالاته من مبدأ يقول بأن المفاهيم الجديدة التي يؤمن بها المنطق الحديث هو مفهوم الحركة والتطور، فكل شيء في هذا الكون يتطور من حال إلى حال، ولا رادّ لتطوره، وهو يقول بأنه أصبح من الواجب على الواعظين أن يدرسوا نواميس هذا التطور قبل أن يمطروا الناس بوابل مواعظهم الرنانة.

 

 وهو بالتالي لا يري بكتابه هذا تمجيد الحضارة الغربية أو أن يدعو إليها، إنما قصده القول: أنه لا بد مما ليس منه بد، فالمفاهيم الحديثة التي تأتي بها الحضارة الغربية آتية لا ريب فيها، ويقول بأنه آن الأوان فهم الحقيقة قبل فوات الأوان، إذ أن العالم الإسلامي يمد القوم بمرحلة انتقال قاسية، يعاني منها آلاماً تشبه آلام المخاض

 فمنذ نصف قرن تقريباً كان العالم يعيش في القرون الوسطى، ثم جاءت الحضارة الجديدة فجأة فأخذت تجرف أمامها معظم المألوف، لذا ففي كل بيت من بيوت المسلمين عراكاً وجدالاً بين الجيل القديم والجيل الجديد، ذلك ينظر في الحياة بمنظار القرن العاشر، وهذا يريد أن ينظر إليها بمنظار القرن العشرين 

ويضيف قائلاً بأنه كان ينتظر من المفكرين من رجال الدين وغيرهم، أن يساعدوا قومهم من أزمة المخاض هذه، لكنهم كانوا على العكس من ذلك يحاولون أن يقفوا في طريق الإصلاح

 على ضوء ذلك يمكن القول بأن الكتابة هو محاولة لسن قراءة جديدة في مجتمع إسلامي يعيش، كما يرى الباحث، بعقلية الماضين عصر التطور الذي يتطلب رؤيا ومفاهيم دينية تتماشى وذلك الواقع المُعاش.) تعريف بالكتاب من موقع ( كتاب كوم )

 

وقد ذكر مؤلفه تجربة قام بها في النقد الذاتي لنفسه ومؤلفاته  لم أقرأ مثلها وأعتبرها تجربة فريدة ونوعية تستحق الإشادة والذكر والتنويه ، لأنها تلقي الضوء على جوانب خفية وهامة في أنفسنا وذواتنا  تؤثر كثيرا فيما نقول ونكتب ونعيش ، ومع ذلك لا تحظى بالقدر الكافي من الحفاوة والإهتمام .

وخلاصتها أنه طلب من أحد طلابه في الجامعة في مادة يدرسها له  طلب منه أن يجمع له أقوال منتقديه بكل حيادية وشفافية ووعده بدرجة عالية في حال نفذ العمل بإتقان .

وهاهنا نجد الاستعداد النفسي والإندفاع نحو ممارسة النقد الذاتي والسعي له مع تصور مبدأي نظري عما يمكن أن تسفرعنه مثل هذه التجربة من نتائج  من قبل كاتب متمرس له صولات وجولات في عالم النقد والإنتقاد مثل علي الوردي 

 ولكن ومع كل هذا التهيؤ والاستعداد لتجربة سماع النقد الذاتي  لم يستطع صاحب التجربة الساعي لها أن يتحمل نتائجها  وثار غضبا  وكاد أن يبطش بالطالب الذي نقلها بأمانة  ويرسبه في المادة لولا أنه  إلتزم بوعده له بالنجاح

ولنقرأ ماقاله الوردي في كتابه 

 طلبت في العام الفائت من أحد طلبة الصف الرابع في فرع الفلسفة من كلية الآداب والعلوم أن يكتب تقريرا عني يجمع فيه ما يقول الناس عن مؤلفاتي بصراحة لارياء فيها .

وقلت له أن درجته النهائية تتأثر بمقدار مايبذل من جهد وتدقيق في كتابة هذا  التقرير.

 وبعد مدة غير قصيرة جاء الطالب وهو آسف يقول : بأنه سوف لن يقدم لي التقرير بأي حال من الأحوال 

 وسبب ذلك أنه جمع أقوال الناس وآراءهم عني فوجد معظمها تتجه إلى ناحية الذم والإنتقاص والشتيمة ، وهو يخاف على نفسه إذا قدم لي مثل هذا التقرير الفظيع .

حظيت بالتقرير فوجدته ألعن تقرير ظهرفي الوجود 

 إني واثق بأن الطالب لم يكن يقصد بكتابته إياه إلا جمع مختلف آراء الناس عني بأمانة 

 ولست أظن أن الطالب كان يكرهني ، إنما هي الحقيقة المرة  التي جعلتني أقول عن التقرير أنه كان لعينا 

 ولو لم أعد الطالب بالدرجة العالية لكان اليوم من الراسبين .

إني لا أزال أحتفظ بالتقرير ولعلني أنشره ملحقا في بعض كتبي القادمة  وسيجد القاريْ عند إطلاعه عليه أنه يحوي من الشتائم والفضائح  مالم ينزل الله به سلطانا في نظري طبعا .

بحثت عن المديح في هذا التقرير فلم أجد منه لماماً هنا وهناك  يضيء ثم يخمد ، ومن محاسن التقرير أنه لم يذكر اسما معينا فهو يذكر القول ويذكر صفة صاحبه ومهنته ودرجة ثقافته  ونوع المبدأ الذي يؤمن به يسارا أو يمينا .

ولو أنه ذكر الأسماء لما استطعت النوم لشدة غيظي من أصحابها ، ولو نمت لانتقمت في أحلامي منهم انتقاما بشعا لامثيل له .

أدركت عند قراءة التقرير أني أملك عن نفسي صورة زاهية جدا بعيدة عن  تلك التي يأخذها الناس عني  

فقد كنت قبل ذلك قانعا بما أسمع من الثناء العاطر على ألسنة الطلاب أو ألسنة الزملاء والأصحاب أو ألسنة بعض القراء الذين أحبوا كتاباتي ودافعوا عني فيما يدعون .

أما أولئك الطلاب والزملاء والقراء الذين يذمونني فهم لايجابهونني بذمهم طبعا 

 ومهما أحاول أن أستشف مافي قلوبهم نحوي فسوف  لاأتمكن من الحصول على الحقيقة تماما 

 إنها تبقى بجزئها الأكبر مكتومة عني ، فالغربال اللاشعوري يمنعني من إكتشافها كلها على أي حال .

 أرجو من القاريء أن لا يسخر مني ، فهو مبتلٍ بنفس ما أبتليت به . 

أما إذا أراد أن يخادع نفسه ويقول عن نفسه أنه يواجه الحقيقة المرة بصدر رحيب فلست أجد له جوابا ولا حيلة لي معه ، أو هو بالأحرى يحب ذاته والحب كما قيل قديما يعمي ويصم .) مهزلة العقل البشري - علي الوردي   صفحة 107- 108

عن نفسي أعجبتني  التجربة كثيرا وأكبرت صاحبها والشجاعة الأدبية في إجرائها وفي الحديث عنها بعد ذلك .

وأدعو القراء لتأملها بعمق وتأن  وتجاوز السطور والكلمات والنفاذ الى ما وراءها من معان ودلالات .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية